طه.. الذي لم أستطع أن ألخصه
مالك المداني
لكي أكونَ صادقاً معكم.. لا أعلمُ ماذا أريد!، بل بالأصح لا أدري من أين أبدأ أم ماذا سأقول؟
في الحقيقة إنني في ورطة، فلا قلمٌ أسعفَني، ولا هاجسٌ أنقذني، ولا حبلُ أفكار تدلَّى أَمَـام ناظري، لا أملك بدايةً ولم أفكر في نهاية بعدُ، كُلُّ ما يعتريني هو رعشة قَلب وفراغ كبيرٌ لشدّة اتساعه أضاق صدري حَـــــدَّ الاختناق!
فالحدَثُ كبيرٌ والمعني به أَكْبَر..
لا تستوعبُه سطورُ الأوراق، ولا تفي حقَّه أحبارُ المحابر التي ما انفكت تذرفُ المدادَ على وجه الورق، وكأنه ينقصُني أحدٌ غيري وغير جوارحي لأواسيه وألملم شَتاتَه!
ماذا أفعل ?!.. يبدو أنني فقدت قدرتي على الكتابة!
أيُعقَلُ أن يخذلني الحظ وأنا في أمسِّ الحاجة إليه!؟ أيُعقَلُ هذا..؟!!
لمَ لا؟! فهذه عوائدُه وهذه طبيعته..
متى حالفني أصلاً، ولماذا استغرب خذلانه لي؟!
يا إلهي! ما هذا الشتات الذي يتملَّكني؟!
سحقاً لهما سحقاً.. حظي وشتاتي، سأدوسُ على كليهما كما هي عادتي، وأدع قلمي يسترسلُ فقط بدون مقدمات أَوْ خاتمات أَوْ أي شيء، سأقدم ما عندي ويكفي..
طه المداني!.. أم أقول أبو حسن؟
هل أكتب عنه باسمه أم بكنيته؟!
في الحقيقة هذا لا يهم، لست بصدد كتابة تقرير أَوْ تحليل أَوْ تحقيق..
لن أرويَ حكايا والدي وَأقاربي ومَن عاشروه، ولن أتحدث عن دماثة أَخْــلَاقه ورحابة صدره التي اتسعت لأصدقائه وأعدائه واستولت حتى على السجان والجلاد.. سأدع قصصَ سجنه وَتعذيبه للحقوقيين..
وسأترك نزاهتَه.. شهامته.. صبره.. حُلمَه.. حكمته.. فطنته.. شجاعته.. سماحته.. عصفه.. سكونه.. اتزانه.. انهماره.. وإحاطته بكل الفضائل والمكارم.. لعلماء النفس وهواة الكمال البشري.
سأتجنِّبُ الحديثَ عن ارتباطك بالله عن ذكرك له.. عن تسبيحك.. تهليلك.. ركوعك.. سجودك.. استغفارك.. مناجاتك وذرفك للدموع أثناء خلواتك التي كانت كثيرة بكثرة المصائب التي كنت تواجهها يا سيدي..، وسأفسح المجال ‘للحرب نفسها’ يا أبا حسن لكي تكتُبَ وترويَ وتحكيَ عن شجاعتك.. عن بطولاتك عن هيجاتك وذروة تجلياتك..
هي ستروي كيف كسرت الزحوف المرتلة، وكيف دحَرت الفيالقَ المجدلة.
هي ستحكي كيف أحرقت دبابة ببندقية!، وكيف وثبت وَحيداً أَمَـام كتائب الابادة حتى أثرت دهشة اعدائك واشبعتهم رعبا ورهبة..
الحربُ نفسها ستخبر الرجال كيف يصبحون رجالاً، يقفون في الكمائن فرادى ويقلبون الحومة حداداً ويحيلون العتاد رماداً، ببندقية ومصحف ومسبحة..
الحربُ يا طه كفيلة بكتابة المعلقات والقصائد والروايات فيك، لا ينقصها إلا قلم ونوتة، لتسطّرَ ملاحمَك الأسطورية التي لطالما تناقلناها في مجالسنا ومحافلنا التي لم نكن نفقهُ فيها إلا الحديثَ والكلامَ تاركين الفعلَ لك ولأمثالك من ساداتنا المجاهدين..
سأترك كُلّ هذا لأصدقائك ولأعدائك ولمن عرفوك وعايشوك..
أما أنا، سأكتفي بكتابة يوم لقائك ويوم إبلاغي بخبر ارتقائك وما بعده.. سأكتفي بهذا:
—
كانت ليلة الثلاثاء، لا أذكُرُ تأريخَها تَحديداً، ولكنها كانت بعد ثورة الـ 21 من سبتمبر أذكر هذا، ألتقيتك ليلتها في منزل أحد أقاربي، كنتُ خامسَ خمسة حينها..
ما زلت أذكر وقوفك في الرُّدْهَةِ تمتشق بُندقيتَك وتلقي التحية بتواضُعٍ وتلك الابتسامة التي عجزت عن فك شفرتها إلى يومنا هذا لا تفارق محياك..
أذكر مصافحتَك لي وأنا كلي فخرٌ واعتزاز..
دخلت يومها وجلست معنا.. لم تتحدث كثيراً، كنت أَكْبَرَ من الحديث، ولم أمتلك الشجاعة للحديث معك، فقط جلست بدوري أراقبك وأسترِقُ النظرَ إليك متأملاً ملامحك الحادة وطبعك الهادئ وتلك الهالة التي كانت محيطة بك..
تلك الهالة التي أرغمتني وأرغمت كُلَّ من ينظر لك أن يسكُتَ احتراماً وإجلالاً.
كنت متشبعاً بالرجولة والوقار يا سيدي حَدَّ الثمالة بل كنت تفيض بهن أينما ارتحلت وحيثما خططت رحالك.
لم أستطع ليلتها إلا أن أبرح مكاني جامداً أشاهد تضاريسَ وجهك والندبة التي تعتليه في دهشة ودخول!
ولا أخفي عليك أنني شتمت حظي الذي لا أنفك عن شتمه والدَّوس عليه على كُلّ لحظة ضيعتها ولم أتعرف عليك أَكْثَـر لسبر أغوارك ومعرفة أحاجيك وألغازك التي كنت تخفي حلولَها خلف حدقات عينيك.
عيناك اللتان ضربت بنظرهما أقصى الدنيا وقعر الكون وكأنك ترى السرَّ المكنونَ وتعرف ما القادم من بعيد! وكل من حولك عميٌ لا ينظرون!
الله يا طه.. كم بعثرني صمتك وسكونك وإجلالك للسيد القائد حينما أشرق على الشاشة!
لا أدري كيف لك أن تكون كالسد المنيع لحظة وكالحمل الوديع لحظة وأنت محتفظاً على كامل أرصدتك المهيبة، لا تهدر منها شيئاً..
سلبت ألبابي يا ولي الله وما زالت مسلوبة إلى اليوم!
غادرت يومَها، ودعتنا وتوكلت على الله وأنا اتمنى إلّا تفارقني دقيقة!
أمضيت ليلتي تلك وأنا أفكرُ فيك بكل ما فيك لم تغب عني لحظةً واحدة،
كانت أوّل مرة التقيك فيها مباشرة، كنت مجرد قصص وحكايا مرسومة في مخيلتي، أقصها لأصدقائي وأحكيها لجلسائي..
أكملت ليلتي على نفس الحالة، حتى أشرقت شمسُ صباح اليوم التالي..، صباح اليوم التالي الذي أخبرني فيه قريبي أنك طلبت منه اصطحابك ويدعوني لمرافقته!
تملكتني الفرحة حينها وغمرتني السعادةُ، لم أتردد بتاتاً في قبول دعوته، ارتديت ثوبي على عَجَل، حملت سلاحي بيدي وهرولت مسرعاً للخارج منتظراً ابن خالي الذي سيأتي لأخذي قبل المجيء لك..
أتى إليَّ وأنا كلي شوق ولهفة لرؤيتك، صعدت سيارته وانطلقنا إليك أحسب الأمتار التي تفصلنا عنك حتى انتهيت من حسبتها ورأيتك.. تفترش الأرضَ، خالياً من بهرجة الحياة وزخارفها.. مبتسماً لنا من بعيد!
لن تصدق كم كنت مزهواً ومختالاً عندها.. لا يهم.
ركبت معنا وذهبنا..
كان أولُ حديث أجريه معك وآخر حديث يومها! كنت بسيطاً يا سيدي حد العظمة! وقريباً من الواقع حد اليقين!
كنت خفيف الظل، سريع البديهة متقد الذكاء، خطيب.. فيلسوف.. ملم.. ملهم.. عالم!
إنهينا ذلك المشوار وقطعنا تلك المسافة كلمح البصر.. تعلمت آنذاك ما لم أتعلمه خلال ست وعشرين سنةً!
ودعتك ويكاد قلبي يتمزق.. لا أدري كيف راودني ذلك الشعورُ الذي أخبرني بأني لن أراك مجدداً!
كدت أبكي وأفجر دمعَ عينيَّ يومها ولكني تمالكت نفسي بالكاد وظللت أراقبك حتى اختفيت عن ناظري!
ولم يطل الوقت بعدها كَثيراً حتى اشتعلت الحرب.. وأوقدت نيرانها، وبلغني أنك أبيت إلّا أن تكون في المقدمة كما هي عادتك.
ظللت أتابع أخبارك وأقتفي وحيَك بتوجُّس وخيفة وحذر!، مكثتُ على حالي هذا حتى تلك الليلة..
تلك الليلة السوداء الظلماء التي لا زالت تفاصيلها القبيحة عالقة برأسي حد اللحظة.
كانت ليلةً باردةً، غائباً عنها القمر، وأكاد أقسمُ بالخالق أنه حتى النجوم انطفأت يومها، فلا نور ولا قبس نار ولا وهج أفق ظهر..
كنت أنا والسواد وأحد أصدقائي الذي زف إليّ خبرَ استشهادك..!!
تبلّدت وقتها، حاولت أن أرسم سيناريوهات مغايرة عسى أن أخفيَ الحقيقة، عسى أن أكذبَ على نفسي مواساة وشفقةً بحالي.. ولكن الخبر كان قاطعاً ومؤكداً، وفوق كُلّ هذا غاية في السرية، كانت قطعة جمر حُكِمَ على أن ابتلعها وحدي دون أخبار أحد.
عدت أدراجي صوبَ منزلي وأنا أدري إنني سأبكي على أثر الفاجعة حد الاختناق، لم أصدقْ أنني وصلت عتبة غرفتي حتى تنفست الصعداء وأطلقت العنان للطفل الذي بداخلي وبكيت.. بل ذرفت الدم بشكل هيستيري ولم يوفقني عن جنوني إلا عيناك!
عيناك اللتان تذكرتهما وأنا في سكرة أحزاني وتثلجت أطرافي رهبةً منهما!
كتمت السر الثقيل منذ ما يقارب عام ونصف، ورفضت مشاركة أحد به، كنت أسمع ما تسرب من أخبار وأتألم وحيداً.
كنت أرى صورَك على مواقع التواصل وَأتوجع خفية، كنت أضع عيني بعين من يعلم خبر ارتقائك والفظ الشهقة بصمت.
مكثت على حالي هذا إلى قبل ما يقارب الشهرين من كتابتي لطلاسمي هذه إلى ذلك اليوم الذي طلب مني أن اشترك في عمل تصويري وثائقي يحكي حياتك.. جهادك.. استشهادك!
أدركت عندها، أنه حان الوقت لكي يبتلع الجميع الجمرة، وأنه سيعلنُ عن استشهادك قريباً، وظننت حينها انني سأريح كاهلي من حمله الثقيل قليلاً.. عند مقابلة أصدقائك ورفاق جهادك والاستماع إليهم وهم يتحدثون عنك، ولكن..
يا ويلي.. لو شاهدتهم وهم يبكون في نصف الحديث، لو رأيت دموعهم التي سالت لعظمتك يا سيدي، لو سمعت زفراتهم التي كانوا يفجرونها رغماً عنهم، لو لمحت بريق أعينهم وهم يصفونك، وشرود نظراتهم وهم يترجمونك، ورباطة جأشهم المنهار وهم ينعونك!، وحسرتي وضيمي ورعشة يدي حينها..
لقد تركت يتامى كُثْــراً ورائك يا طه، وخلفت رجال اشداء كثر أيضا، ارتقيت إلى السماء يا سيدي، وأخفينا خبرَ ارتقائك كثيراً، وها قد جاء أُسْبُــوْع الشَّـهيْد، وقرر لنا أن نحتفل بك علانية..
ها أنا اليوم أكتب عنك ما لا يليقُ بك..
ولكن لا يهم، فأنت لست بحاجة لمن يكتب فيك..
هنيئا لك الشهادة بجوار الأنبياء والصديقين والشهداء ممن سبقوك
وسلام الله عليك يا سيدي في كُلّ وقت وحين
وعهدا علينا أن نمشيَ على دربك ودرب السيد حسين متمثلين لأوامر قائدك وقائدنا السيّد العلَم عبدالملك بدر الدين الحوثي إلى أن نلقى اللهَ منتصرين أَوْ شُهداءَ..
سلامٌ سلام.