المجاهد الجريح المختار يــروي لـ “صدى المسيرة” رحلة جهادِه في الجبهات
أخجَلُ أن أقول إنني مصاب، والشعبُ اليمني كُلّه قدّم وضحّى وكُلّ مَن أعرف من الجرحى معنوياتهم تناطحُ السماءَ
قبيلَ أن تحلّقَ بك افضاءات الجراح في فضاءات الاجتراح.. ثمة ما يجدر بك استحضارُه من عظمة مَن تكلمك هنا جراحهم وتحدثك مواقفهم وتذكرُك بالله ملاحِمُ صبرهم وثباتهم وَيشد من عزمك باذخ بلائهم وغنائهم في سبيل الله، جرحى ومعاقي أبطالنا رجال الرجال..
بطلُنا اليوم شابٌّ جامعي، لبَّى نداءَ الله منذ أول جريمة بدأ الغزاة بها عدوانهم على وطنه.. فهب من وسط منزله وجامعته صوب معسكرات التدريب والتأهيل، مستودعاً ربه الأهل والدراسة، مستقبلاً جبهات القتال ليدفعَ غازياً ومحتلاً ومنافقاً..
ابتدأت الحديثُ بسؤاله: عرّفنا بنفسك وبدايات التحاقك بالمسيرة القرآنية وانطلاقتك إلى أشرف الميادين وأقدسها للدفاع عن الوطن؟؟
الاسم / يحيى زكريا ضيف الله المختار.. ولدت في مران بمحافظة صعدة سنة 1993.. وانتقلت مع أسرتي للسكن في صنعاء منذ عام 2009..
أكملت الثانوية العامة بنسبة 84% بالقسم العلمي، ثم التحقت بكلية الشريعة والقانون بجامعة صنعاء، ابتدأ نشاطي في المسيرة القرآنية من خلال المشاركة في المهرجانات والفعاليات والندوات والأنشطة الطلابية والأكاديمية ضمن ملتقى الطالب الجامعي وفي الصحف الطلابية بكلية الشريعة والقانون، وبالتحديد قبل فترة وجيزة من اندلاع ثورة الحادي عشر من فبراير 2011.. استمر نشاطي الشبابي والجامعي في مختلف مراحل الثورة وأحداثها حتى توّجَ الشعب اليمني تضحياتِه بانتصار ثورة 21 سبتمبر 2014..
-
ما دام أحدُنا خرج في سبيل الله مجاهداً فقد باع لله نفسَه وكل شيء وأياً تكن النتيجة فالمجاهد في سبيل الله هو لا ينتظر إلا الشهادة أَوْ النصر
حينما بدأ العدوان على الوطن التحقت مع مجموعةٍ من زملاء الدراسة والملتقى الجامعي مباشرةً بعدة دورات في مجال الإسعافات الأولية وغيرها، لنباشر -عقب تخرجنا منها- العمل العسكري في الجبهات ضمن تخصّصات مختلفة.
توقَّفَ يحيى في حديثِه هنا، بدا وكأنه يستسئلني، لعلني إن فعلت فقد أسهِّلَ عليه من صعوبة (التحديد) في بدء الحديث عن شُجُون الجبهة وحشود المشاعر والمواقف التي عاشها هنالك.. فسألته بما لم يكن يؤمله:
حدثني عن الجبهة التي باشرت فيها انطلاقتُك العسكرية؟؟ فأجابني:
دخولي إلى الجبهة كان في بداياته بالنسبة لي شعوراً غريباً ومغايراً تماماً لما كنت أتوقعُه من رهبةٍ لحشود العدو ومنافقيه ومرتزقته وإمكاناتهم العسكرية، وتفاجأت بالطمأنينة والروحانية التي أحسست بها في الجبهة.. على النقيض مما يمكن أن يشعُرَ به من اعتاد عيش الدعة في بيئة جامعية وأجواء شبابية وإذا به في قلب المواجهات في جبهة عسكرية.
في الحقيقة شعرت حين انطلاقتي الأولى إلى الجبهة بالسكينة والروحانية تغمرُني رغم ما كنا فيه من ظروف قاسية وإمكانات شحيحة، كنا ننام تحت الأشجار وفوق الرمال والأحجار، ونطوي الأَيَّـامَ والليالي في القفار والصحارى وَرؤوس الجبال، ورغم طبيعة ما عاينته من كثافةِ تحليق وَقصف الطيران وكَثْرَةِ زحوفات العدو ومنافقيه ومرتزقته الضخمة ونوعية العتاد وحجم الإمكانات الهائلة التي وفرها الغزاة لهم..
مهمتي العسكرية كانت ذات طابع متنقلٍ بالتحَـرّك فيما بين خطوط المواجهات ومحاور الجبهات.. وكان طيرانُ العدوان ضمن هيستيريا استهدافه الممنهج لكل شيء لا يتورَّعُ عن قصف المنازل والأسواق الشعبية، حيث نشاهد على طول الطرُقِ بقايا رماد السيارات والشاحنات (الدينات) المقصوفة، ونشاهد على جانبَيها أطلالَ تجمعات لمحلات أَوْ منازل، فضلاً عن الطريق نفسها التي عمد العدوان إلى قطعها بصواريخ أحدثت حُفَراً عميقة وواسعة.. كُلّ ذلك الدمار المتعمد من شأنه -حسب ما يؤمله العدوان- أنه قد يكسر إرادة المجاهدين أَوْ يفُتُّ في عضدهم.. وكأنه باختصار يقول لك: الموتُ بانتظاركم. لكننا كنا بفضل من الله وتأييده ورعايته وليس بشجاعتنا نحن أَوْ بحولنا وقوتنا، كنا نزداد ثقةً بالله ويقيناً وعزماً وقناعةً بإجرامية وانحطاط عدوان كهذا بما كنا نراه يقترفه من وحشية على المدنيين، مسبباً لهم الموت والمعاناة والتشرد والنزوح..
مضت خمسة أشهر منذُ بداية تحَـرّكي الجهادي في الجبهات إلى أن جاءت الليلةُ التي أكرَمَني الله فيها بالإصابة في سبيله، وكنت في طريقي مع مجموعة من المجاهدين – متوكلين على الله – إلى إحدى الجبهات، وعند مرورنا بتَبَّة من التباب فاجأنا الطيرانُ بغارة لم تصبنا مباشرةً، لكن قوة الضغط الناجم عن انفجار الصاروخ قريباً منا، قذفت بي – لأنني كنت على شفا طرف من أطرافها- إلى الهواء لأسقط منها إلى أسفل التبة..
-
ما دام أحدُنا خرج في سبيل الله مجاهداً فقد باع لله نفسَه وكل شيء وأياً تكن النتيجة فالمجاهد في سبيل الله هو لا ينتظر إلا الشهادة أَوْ النصر
عندما قذف بي ضغط انفجار صاروخ تلك الغارة من على أحد أطراف التبة إلى أسفلها كان ارتطامي بالأرض على ظهري مباشرة.. فأحسست حينها أن إصابتي بالغة؛ ذلك لأني عندما حاولت النهوض لم أستطع وكنت لم أعد أشعُرُ بقدمي أَوْ أحركهما.. بالإضافة إلى أن عملية العثور علي وَإسعافي وسط الظلام – لأن الساعة كانت حينئذ تقريباً الثانية أَوْ الثانية والنصف ليلا – كانت صعبةً وتأخّرت نسبياً، كذلك الطيران سيما منه (الزنانة) الدرونز استمر في التحليق المكثف فما كان بالإمكان تحريك سيارة لإسعافي.. وحينما تم العثورُ عليّ وإسعافي كانت طريقة الإسعاف نفسُها بالتعامل مع حالة كالتي كنتُ عليها من الإصابة في عضو حساس جداً كالعمود الفقري، وأضف إلى كُلّ تلك العوامل وعورة الطريق وطول مسافة الطريق إلى المستشفى التي استغرقت وقتاً من حوالي الثالثة فجراً حتى بعد صلاة العشاء.. كُلُّ ذلك فاقم من إصابتي..
سألته: كيف كان شعورُك حينما أدركت بعدَ إسعافك أنك أصبحت (مشلولاً)؟
أجابني: عندما أصبتُ أدركتُ أنني قد شللت قبل إسعافي.. وأول ما كنت -حينها- أفكر فيه، هو أنني كيف سيكون مستقبلي وكيف سأعيش معاقاً، لكن حالة عجيبة من الطمأنينة والسكينة والروحانية أنزلها اللهُ عليَّ وشعرتُ بها لدرجة أنني كنت أعلم المجاهدين كيف يسعفونني؛ نظراً لخبرتي الطبية التي تعلمتُها في الدورات قبل التحاقي بالجبهة.. الحمدُ لله الذي سبحانَه أعطاني الصبر وما دام أحدنا خرج في سبيل الله مجاهداً فهو قد باع لله نفسَه وكل شيء وأياً تكن النتيجة، فالمجاهد في سبيل الله هو لا ينتظر إلا الشهادة أَوْ النصر.
-
تحية إجلال وإكبار لأبطالنا بالجبهات فالحفاة هؤلاء بهروا العالم وأرعبوا أمريكا وبريطانيا وإسْرَائيْل، ما جعلهم يحجمون عن إرسال جيوشهم فلجأوا إلى أن يجيشوا علينا من اشترت أموالُهم ذمماً وخونة ومنافقين وتكفيريين ومن يبيع لهم نفسه ووطنه
صحيحٌ بأن المعاق بشكل عام قد يحصل عنده تراجع في نفسيته ويصبح محبطاً في أوقات محدودة ومعينة، ولذلك ينصَحُ الأطباء كُلّ المحيطين به بالاهتمام بنفسيته، لكن بالنسبة لي انظر إليَّ في هذه الغرفة من منزلي مثلاً، تخيل أني منذ عام ونصف ظللت حبيسَها أكاد لا أغادرُها، على أنني كنتُ قبل الإصابة طالباً جامعياً أكاد لا أتوقف عن الخروج والدخول من وإلى المنزل والجامعة والأصدقاء والزملاء والجيران، وفي لحظة من اللحظات تجد جسدك مشلولاً نصفه السفلي.. لكن بمجرد أن تتذكر أنك في سبيل الله، تجد شيئاً عجيباً لا أستطيع فعلاً وصفه يمدك الله به، تجد شعوراً لم يسبق لك على الإطلاق الإحساس به قبل حدوث الإعاقة.. حتى على مستوى (الضبح) أَوْ التفكير السلبي يحصِّنُك اللهُ من احتمال تسلُّلها إليك..
سألته ودهشتي تغمُرُ الكلماتِ والملامح: سنة ونصف وأنت معاقٌ تظل حبيس هذه الغرفة في منزلك ولم تراودك في يوم منها مشاعر (الضبح) والاكتئاب؟ سيما إذا زارك زملاءُ الدراسة أَوْ رفاقُ الجهاد فينبشون ذاكرتَك بأحداث ومواقف قد تستفز حيويتها إعاقتك؟؟
أجابني بهدوء جعلني مشدوداً لما سيفضي به إليَّ: لي زملاء وأصدقاء من انتماءات سياسية مختلفة، كانوا يلومونني بحدة: كيف تضحّي بنفسك وأنت إنْسَان مثقفٌ وواعٍ، كيف تضحي من أجل شخص بنفسك وبمستقبلك وبشبابك وتصير معاقاً؟!! وهكذا على هذا النحو من أساليب اللوم والضغط في محاولة النيل من معنوياتي وتغيير قناعاتي وإحداث هزة في قيمي الدينية والوطنية التي أعتز بها.. كذلك الأطباء، كان يسعى بعضهم بكل ما وسعته حيلته وقواه الإقناعية لإضعاف معنوياتي أنا والعديد من الجرحى والمصابين وكسر نفسياتنا، حيث كنا نتلقى العناية الطبية في أحد المستشفيات، وأتذكر موقفاً لأحدهم حين جاءني من نقطة حساسة ومؤثرة حسبها ستفعلُ فعلَها في داخلي، إذ تحدث إليّ -وهو يتظاهر بتألّمه لحالي وإشفاقه عليَّ- عن أنني كيف سأمارِسُ حياتي المستقبلية وأنا على هذا الحال؟؟ وكيف أني ما أزالُ في ذروة فتوتي وبداية شبابي وكيف وكيف.. !!! وكأن مهمتَه تجاهي أنا وغيري من المصابين هي إضعافُ معنوياتنا وكسر صمودنا.. لكننا كنا نحظى بمددٍ من الله لنصبر ونرد عليهم بقوة وشكيمة..
سألته بفضول: بماذا أجبت على تلك المحاولات المريبة من ذلك الطبيب المستريب وأمثاله؟؟
أجاب: قلتُ له تحديداً: انظر إلى المستشفى هذا الذي أنت تعمَلُ فيه، كم تحمَلُ أسرّته من ضحايا الحوادث المرورية والحرائق وغيرها، ربما قد تستطيعُ إثارةَ شجونهم وبكائهم لكن إصابتي هذه لم أتعرَّض لها بالمصادفة أَوْ أني لم أكُن على حُسبان بإمكانية حدوثها، أنا خرجتُ في موقف الحق لأدافع عن ديني وعرضي وكرامتي وعزتي، ولو سقيت هذي الأرض من دمي أنا وأمثالي فهذا في الأخير إنما هو عزة وكرامة للأجيال لابني ولابنك أنت الذي تحاول أن تُضعِفَ معنوياتي وتثبطّني، وفعلاً كانوا يندهشون مني ومن غيري من المجاهدين بالمعنويات المرتفعة، وبالرد المزلزل لمحاولاتهم.. وذات مرة قبيل خضوعي لعملية جراحية قال لي أحدهم بأن نسبة نجاح العملية فقط 5%، فقلت له: الحياة والموت بيد الله، إلا إذا أنتم باتسبروا لي شيئاً في العملية -قالها متبسماً-..
- حالة عجيبة من الطمأنينة والسكينة والروحانية أنزلها اللهُ عليَّ وشعرتُ بها لدرجة أنني كنت أعلّم المجاهدين كيف يسعفونني؛ لخبرتي الطبية التي تعلمتُها في الدورات قبل التحاقي بالجبهة
سألته: خلال نفيرِك في الجبهات على مدى الشهور الخمسة إلى أن أصبت ما هو الموقف الأكثر تأثيراً الذي عاينته وما يزال عالقاً في ذهنك؟
أجابني بعد ثوانيَ استغرقها صمتُه باحثاً في أدراج ذاكرته: المواقف من كثرتها يصعب عليّ استحضارها جميعَها في لحظة مفاجئة كهذه، (بدا متحفظًا ولاحظت ذلك، فعمدت إلى طمأنته بأن يتحدث بلا تحفظ كوننا نوثّق بشهاداتهم أحداثاً ومواقفَ للتأريخ) ويواصل حديثه: لكنني سأذكر لك إحداها وهي مسألة ضرب العدوان للمخازن حوالي العاصمة..
عندما بدأ كان بعضُ القيادات في الميدان يحاولون أن يعطوا العسكر الذين حولها مبالغَ ماليةً أحياناً تكون كبيرة، فقط لينزعوا السلاح النوعي منها قبل أن يستهدفَها طيرانُ العدوان، لكن العسكر كانوا يرفضون رفضاً قاطعاً ولا أحد منهم كان مستعداً ليضحّيَ بنفسه، ولما جيء بنا كنا ندخُلُ المخازنَ وسط دهشة العسكر ويسألوننا: نحن رفضنا رغم المغريات بما عرض علينا من مبالغَ وحتى سلاح، بينما أنتم بأية مقابل تغامرون هكذا؟؟!!! كانوا يسألوننا على سبيل التعجب والدهشة؛ لأنهم كانوا يرون تواضعَ تغذيتنا ونوعية وكمية قاتنا.. كما أن خمسةً من المجاهدين في هذه المهمة كانوا قد استشهدوا وتفحموا تماماً جراء إحدى ضربات طيران العدوان.. في مواقف كتلك رأيت عينَ اليقين كيف أن ثقتَنا بالله وتوكلنا عليه هو ما يفوقُ أفتك الأسلحة وأحدث التقنيات ويهزم أعتى الإمكانات..
سألته: كيف كانت أجواء الجبهات عند زملائك الجامعيين المجاهدين وكيف وجدتم العيشَ في تلك الأجواء؟؟
أجابني: من خلال ملامستي للواقع في الجبهات كطالب جامعي فقد ارتقى عددٌ من زملائي شهداءَ، سواء من كلية الشريعة والقانون التي أدرس بها أَوْ زملاء من كليات أُخْـرَى.. وما يزال الكثير منهم إلى الآن مرابطين في الجبهات كلها، وأعرف عدداً منهم أوقف دراسته بكلية الطب في السنة الخامسة والسادسة.. ومستمرون في الجبهات إلى الآن وقد تعاهدوا أن لا يعودوا من الجبهات إلا وقد انتصروا على العدوان أَوْ فلن يرجعوا إلا شهداء..
-
أقول للكوادر الجنوبية؛ أنتم في الأخير إخوتنا وما يؤلمكم يؤلمنا.. فلا تكونوا مطية للعدوان، مهما كان الصعوبات والاحتياجات التي أنتجها العدوان واستغلها
هنا رَنَّ جواله بنغمة رسالة إليكترونية.. فسألتُه هل لديك حسابٌ في أحد مواقع التواصل الاجتماعي؟
أجابني: نعم لديَّ حسابٌ في (الفيسبوك) وقد تعرضت عدة حسابات سابقة لي إلى الإيقاف -قالها ضاحكاً وهازئاً- فسألته: هل تنقل من واقع إعاقتك بعض آرائك أَوْ مواقفك عبر منشوراتك فيه؟
أجابني مقاطعاً: لا، أبداً، أنا بالنسبة لي في مواقع التواصل الاجتماعي لا أتكلم عن إعاقتي أَوْ على أنني جريح؛ ﻷنني أخجَلُ أن أقول إنني مصاب، والشعب اليمني كله قدم وضحّى، لا أتكلم عن أنصار الله فقط، ترى المرأة وهي تستقبل شهيداً لها أَوْ جريحاً سواء ابنها أَوْ زوجَها أَوْ أخوها أَوْ أبوها، فترى وتسمع من عظيم ما تفعل هي وتقول، فتستحي وتخجل بعد ذلك أن تقول إنك قد قدمت شَيئاً مهما كان.. وفي الأول والآخر بالنسبة لما قدمته أنا هو شيء قليل، بل قليل القليل.. ورغم إصابة نصف جسمي الأسفل بالشلل فأنا لا أراني معاقاً.. بل إن المعاق هو العميلُ المرتزقُ الذي خضع لهذا العدوان وباع نفسه للغزاة والمحتلين.. تخيل أنني أعرف جرحى ومعاقين حالتهم الصحية أسوأ بكثير مما أنا عليه ولديهم من العزائم العظيمة الشيء الكثير الذي أنا أتزوّد منه وأستمد منه، لدرجة أن أحدهم كان يقول لي: والله إننا مستعدون أن نقاتِلَ وأن نبذل في سبيل الله لو لم يتبقَ منا إلا هذه الشعرات من رؤوسنا، وسيكون لها دورٌ في التصدّي لهذا العدوان.. والحمدُ لله كُلّ من أعرف من الجرحى معنوياتهم تناطح السماء؛ لأننا استمدينا عزمنا وقوتنا وإرادتنا من إمامنا وقائدنا الإمام زيد بن علي عليهما السلام الذي قال: (والله لوددت أن يدي ملصقةٌ بالثريا فأقعُ إلى الأرض أَوْ حيث أقع فأتقطعُ قطعةً قطعة وأن اللهَ يصلحُ بي أمرَ أمة جدي) هذا منهجنا وهذه عقيدتنا، ونحن لسنا بحال أفضل من الإمام زيد والإمام الحسين ولا من أنبياء الله الذين لاقوا في الله ما لاقوه، فالدنيا لا بد فيها من الجهاد وقد جاهدوا وثبتوا وصبروا..
عندما وصل يحيى في حديثه إلى هنا دخل علينا أبوه فرحّب بنا وجلس عندنا.. وهنا التفت إلى يحيى وسألته: كيف تلقت أسرتك واقع إعاقتك؟؟؟
أجابني: الحقيقة أن الأُسرةَ اليمنية بشكل عام وجدتُ في سبيل الله وفي الشهادة وفي البذل الشيء العظيم الذي يستحقّ منهم ويحفزهم على تقديم المزيد مهما بلغت التضحيات.. وأتحدث هنا عن كُلّ أسرة يمنية.. أما أسرتي فالحمد لله صبرت واحتسبت واستبشرت فأمي قد قدمت خمسة شهداء من أشقائها (من بيت العياني) في الحرب الأولى من الحروب الظالمة على صعدة، وقد جرحت هي نفسُها بطلق ناري في قدمها في الحرب الخامسة، كان موقفها إزاء إصابتي التسليمَ المطلق لله وفي سبيل الله.. وحقيقة ما قدمناه هو القليل القليل.. فبعض الأسر قد قدمت في سبيل الله لمواجهة هذا العدوان خمسة شهداء وأكثر وما تزال تدفع ببقية رجالها إلى الجبهات وانظر إلى نفسك واسألها ماذا قد قدمت وماذا قد بذلت..
سألته: أخي يحيى هل من رسائل تود عبر (صدى المسيرة) أن تبعث بها؟ وإلى من؟؟
أجاب: أقول للسيد: والله لو بلغت بنا الجراحُ ما بلغت لخُضنا بأمرك البحار والصحارى ما خفنا في الله لومة لائم، ومستعدون أن نعودَ إلى الجبهات والميادين علي أيِّ حال من الأحوال.. ولا نريدُ إلا أن يعزَّ الله بنا الدين، ولا نريدُ إلا أن نكونَ باذلين ومستمدين الثقة من الله ومنه.. السيدُ سلام الله عليه عندما نستمعُ لمحاضراته ودروسه وتوجيهاته نشعُرُ بشعور غريب واللهِ ما أقدر أوصفه لك، كما لو أن السيد بيكلمني أنا وكل جريح وكل مجاهد وكل إنْسَان في اليمن فرداً فرداً.. ونشعر بهذا الشيء في خطاباته وتوجيهاته..
أما رسالتي إلى الشعب اليمني فهي رسالتان، الأولى إلى أهالي المناطق التي لم يصل إليها العدوان أقول لهم: مزيداً مزيداً من الصبر فإن النصرَ حليفُنا بإذن الله.. أما رسالتي الأُخْـرَى فإلى إخوتنا في المناطق المحتلة في الجنوب لا سيما الشباب: والله إن العين لتحزن وإن القلب ليحزن مما تعانونه ومما يحدث لكم في الجنوب، عبر استهدافكم بالمتفجرات وبالمفخخات والانتحاريين أَوْ بالانفلات الأمني، وكذلك الاستهداف للكوادر الجنوبية؛ لأنكم في الأخير إخوتنا وما يؤلمكم يؤلمنا.. كما أقول لكم: لا تكونوا مطية للعدوان، خَاصَّة الشباب مهما كان الصعوبات ومهما كانت الاحتياجات التي أنتجها العدوان واستغلها، وقد شاهدنا كم يستغلكم المحتلون لتحموا حدوده بالنيابة عن جنوده.. واللهِ إنَّ في اليمنِ من الخيرات ما يغنيكم ويغني أبناءَكم وأحفادَكم وأجيالكم القادمة، فقط كونوا أحرارا، لا نريد أن ينضم أحد إلى أحد أَوْ طرف إلى طرف.. فقط كونوا يمنيين أحرارا ولا نطالبكم بأي شيء..
أما أعداءُ اليمن غُزاتُه ومحتلوه فهم بمجيئهم إلينا قد ارتكبوا أكبر أخطائهم؛ لأنهم جهلوا أَوْ تجاهلوا الماضيَ المشرقَ لليمن ونقول لهم: إن الذي قد مر عليكم في مختلف الجبهات على مدى عامين من تنكيل الله ومن بأس الله على يد اليمنيين، انتظروا منه المزيد والمزيد، فوالله لو قاتلناكم بالحجارة وبكل ما آتانا الله من قوة، فلا يمكن بأي حال من الأحوال إلا نكون نحن منتصرين منتصرين منتصرين.
-
السيدُ سلام الله عليه عندما نستمعُ لمحاضراته ودروسه وتوجيهاته نشعُرُ بشعور غريب واللهِ ما أقدر أوصفه لك، كما لو أن السيد بيكلمني أنا وكل جريح وكل مجاهد وكل إنْسَان في اليمن فرداً فرداً
وتحية كلها إجلال وإكبار لأبطالنا في الجبهات لما يقدمونه من ملاحم الصدق والثبات مع الله وما يفعلون بالغزاة ومرتزقتهم الأفاعيل، فالحُفاة هؤلاء بهروا العالم وأرعبوا أمريكا وبريطانيا وإسْرَائيْل، فتراهم أدركوا ورأوا ما جعلهم يحجمون عن إرسال جنودهم وجيوشهم إلينا هم لجأوا إلى أن يجيشوا علينا من اشترت أموالهم ذمماً وخونة وعملاء ومنافقين ومرتزقة وتكفيريين ومن يبيع لهم نفسه ووطنه.. فلقد رأوا من خلال الإعلام الحربي الذي نقل للعالم كم أن دباباتهم ومدرعاتهم وفخر صناعاتهم العسكرية والقتالية يحولها اليمني بسلاحه البسيط إلى كومة خردة ويحرقها بولاعة.. وهذا الأمر هو من رعاية الله وتأييده.. ولولا رعاية الله وعونه وقوته وبأسه لما استطعنا أن نصمد في وجه كُلّ ذلك التكالب الإجرامي علينا بالحرب والحصار.. ولله جزيل المنة والفضل ومن عنده النصر والعون وعليه التوكل هو نعم المولى ونعم النصير.