موقعُ “إسْرَائيْل” من الصراعات الإقليمية وأثرُه على تطبيع العلاقات مع بعض الدول العربية (1-2)
يحيى دبوق| كاتب ومحلل سياسي لبناني
رعونةُ العرب واختلافُ مصالحهم وتعارُضُها، وفقدانُ الاستراتيجيات، والارتجالُ في المواقف، والامتناع عن الوحدة، إضَافَةً إلى الانقسام والاحتراب الدائم، والانصياع شبه المطلق للمؤثر الخارجي، تُعدّ أحدَ أهم مداميك الأمن القومي الإسرائيلي.
“إسْرَائيْل” بذاتها، ككيان ومقومات، غيرُ قادرة بالمطلق على مواجهة إمكانات وقدرات العرب، فلا طاقة لها بذلك ولا قدرة، إلا أن الرعونة العربية، وما هو قائم عليها، مكّنها وبقوة، من ترسيخِ نفسها وحضورها في المنطقة، بل – وأيضاً – التطلع إلى ما وراء ذلك.
تعد الصراعات الإقليمية مطلباً صهيونياً منذ ما قبل زرع “إسْرَائيْل” في فلسطين المحتلة، وأحد أهم مداخل ترسيخ الكيان بعد إقامته؛ إذ لا خلافَ في أن صراعات منطقة الشرق الأَوْسَط، بما يشمل تموضع دولها وقواها في محاور متناقضة المصالح والأهداف، تعد بالنسبة لإسرائيل هدفاً لذاته، إذ أن ما يمكن أن ينتج عنها من فرص، من شأنه أن يحد من التهديدات، بل ويبددها.
نعم، لقد حمل ما عُرف بـ (الربيع العربي) تغييرات في البيئة الاستراتيجية لـ “إسرائيل” التي نظرت إليها بريبة وقلق بداية، إلا أن الفرَصَ الكامنة في تلك التغييرات – التي ظهرت لاحقاً – تساوقت تماماً مع الاستراتيجيات الإسرائيلية، وتكاملت معها.
وبصورة عامة، تنظُرُ “إسْرَائيْلُ” إلى تطوُّرات المنطقة نظرةً طمأنينةً نسبية قياساً بالماضي، فمحيطها المباشر، أو ما يعرف بدول القوس، وأيضاً الدائرة الثانية والثالثة من محيطها غير المباشر (دول الخليج وإيران….)، لا يشيران إلى تهديدات وجودية، ونسبياً هما لا يتضمنان وجود تهديدات استراتيجية إلا ما يرتبط بالساحتين السورية واللبنانية وإمكانات تنامي التهديد فيهما، ومن خلالهما. إلى ذلك، أعداؤها مشغولون بالتصدي لهجمات أصدقائها، فيما أصدقاؤها ينمّون علاقاتهم معها إلى حدود التحالف شبه المعلن.
النتيجة التي تحققت إلى الآن تعد بالنسبة لـ (تل أبيب) تحقيقاً لواقع، واتجاه واقع ما كان يخطر على بال مخططيها الاستراتيجيين، ومن ذلك: تعزيز أكثر للعلاقات مع دول تجمعها بإسرائيل اتفاقيات تسوية (الأردن ومصر)، إبعاد أو تظهير إبعاد، القضية الفلسطينية لدى أنظمة عربية وازنة في المنطقة، انقسام إقليمي ومذهبي وتقسيم محاور عداء بعيداً عن فلسطين وإسرائيل، مصالح وتهديدات مشتركة مع كثير من الأنظمة العربية، والتموضع جنباً إلى جنب انصياعاً لإرادة واشنطن، بالرغم من الفشل المدوي للسياسات الأميركية في المنطقة.
تهدف هذه المقالة إلى استعراض المقاربة الإسرائيلية – في البعد الزمني القريب – لصراعات المنطقة وتغييراتها، والفائدة التي تتوقعها منها، وتحديداً ما يتعلق بتبدل أو بتظهير تبدل محاور جيوسياسية لإسرائيل دور أساسي ومتقدم فيها إلى جانب بعض الدول العربية كحلفاء وشركاء. ستحاول المقالة أن تبتعد عن دائرة العوامل التي أدت مباشرة إلى نشوب الصراعات وأَسْبَابها، إلا فيما يلزم، وتجْهد لإلقاء مزيد من الضوء على الرؤى الإسرائيلية لصراعات المنطقة كفرص مقابل تهديدات. الهدف الأخير للمقالة، والاستشهادات الواردة فيها، قد تكوِّن معطى إضافياً يساهم في إدراك وفهم تموضعات بعض الدول العربية إلى جانب إسرائيل.
مدخل:
فاجأ (الربيع العربي) إسرائيل، كما فاجأ كثيرين. نظرت “إسْرَائيْل” بدايةً بريبة وقلق إلى ما بدا لها اتجاهاً للتغيير لدى الشعوب العربية، واندفاعاً إلى عدم الانصياع المطلق لتوجهات حكامها، الأمر الذي أنذر بإمكان دفع أولئك الحكام لتغيير مواقفهم من إسرائيل، وتحديداً مسألة التسوية معها، وذلك منعاً لإثارة شعوبهم. من هنا، جاءت التسمية الإسرائيلية للهزة في العالم العربي بـ(الشتاء الإسلامي)، بدلاً من مصطلح (الربيع العربي) الذي ساد في الغرب، وتبعته في التسمية لاحقاً كتابات ومواقف عربية.
إلا أن لقلق وحشية “إسْرَائيْل” تحولا لاحقاً نحو التطلع لاستغلالهما كفرصة، وذلك لتثبيت “إسْرَائيْل” نفسها كحليف في محيطها المباشر والأبعد، خاصة مع انحراف (الربيع العربي) عن مقاصده الابتدائية الإصلاحية باتجاه التمحور والتدخلات الخارجية، ومصادرة الحراك الشعبي في أكثر من بلد عربي، وبالأخص بعد تولي الجماعات المسلحة السلفية الإرهابية زمام المبادرة بتسهيل، بل وبتمويل عربي وغربي، ما مكنها من مصادرة (الهبات) الشعبية وتحويل المواجهة من إصلاحية داخلية، إلى مواجهة متداخلة ومتشعبة، تقاطعت معها مصالح المحاور واستغلال الجماعات الإرهابية للدفع قدماً بالأجندات الإقليمية والدولية. نتيجة لذلك، وجدت “إسْرَائيْل” نفسها أمام فرصة تشكل محورين اثنين متقابلين: (محور الاعتدال)، ومن ورائه الولايات المتحدة، الذي تطلع إلى استخدام (الثورات)، ولاحقاً الجماعات المسلحة، لإنهاء أو إشغال أو استنزاف (محور المقاومة) الذي يضم الدول والجهات المقاومة لمحور الاعتدال والمقابلة له في المنطقة. النجاح بدفع وتحويل الهزة الإصلاحية إلى ذراع كسر واستنزاف لمحور المقاومة، جاء ليصب في مصلحة إسرائيل، وعُدّ من قِبَلها صيرورة ذات فائدة استراتيجية يمكن البناءُ عليها لدفع مصالحها قدماً.
بعد أعوام على (الربيع العربي)، والتحول عن مقاصده الابتدائية، ودون الخوض في صيروراته، بات اللاعبون الإقليميون، وحلفاؤهم من الجماعات التابعة بما فيها (التنظيمات ما دون دولة)، ومن ورائهم – أيضاً – الدوليون، متموضعين ضمن محورين اثنين، فيما يشبه الصراع الوجودي: السعودية وتركيا وقطر وعدد من الدول الخليجية التابعة أو المتقاطعة معها في المصلحة، ومن ورائها الغرب الولايات المتحدة، أو ما بات يعرف بـ (الاعتدال العربي)، يندفعون هجومياً لإنهاء أو تحجيم أو إضعاف أو إشغال دول وجهات محور المقاومة الذي ثبت دفاعياً – وما زال – في صد الهجمات الدؤوبة عليه: إيران وسوريا واليمن وحزب الله، وفصائل مقاومة ناشطة في الساحة الفلسطينية.
الحلف والشراكة:
موقع “إسْرَائيْل” من المحورين سالفي الذكر، تكفّل رئيس الحكومة الإسرائيلية (بنيامين نتنياهو) بالإعلان والكشف عنه في مقابلة متلفزة بداية العام 2016م، حيث أشار إلى أن دول (الاعتدال العربي) لا تنظر إلى “إسْرَائيْل” على أنها دولة عدوة، بل حليف وشريك. وهذا هو التوصيف الإسرائيلي الجامع تجاه موقف عدد من الدول العربية، وتحديداً الخليجية منها، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وذلك ضمن الاصطفافات والأحلاف الجديدة في المنطقة بعد التطورات الأخيرة الناتجة عن (الهزة الإقليمية) التي لم تنهِ تداعياتها، ولم تستقر على نتائج نهائية حتى الآن.
توصيفُ نتنياهو لتموضع “إسْرَائيْل” سبقه إليه مسؤولون إسرائيليون في الحكومة والكنيست، وأيضاً في المُؤسّسة الأمنية، مع إسهاب في الشرح والتحليل والأمل بمخاض يفضي إلى تحقيق مصلحة “إسْرَائيْل” الكاملة من التطورات والاصطفاف العربي إلى جانبها.
رأس الهرم السياسي في تل أبيب (نتنياهو) حدد في المقابلة سالفة الذكر أسس التعاون والتحالف مع بعض الدول العربية التي وصفها بـ (السنية) مقابل (الشيعية الإيرانية) – تماشياً مع مطلب تعزيز وترسيخ الشروخ المذهبية في المنطقة – مشدداً على واقع الشراكة وتحديداً مع السعودية بما يشمل المصالح، والنظرة إلى التهديدات وأسلوب مواجهتها، والمفضي بدوره إلى التحالف البيني.
وفي المقابلة المتلفزة تلك، أوضح نتنياهو أنه: “يوجد تغيير دراماتيكي في العلاقات الخارجية لإسرائيل في المدة الأخيرة بينها وجيرانها العرب. (السعودية)، كما هم كثر في العالم العربي، ترى في “إسْرَائيْل” حليفاً وليس تهديداً”. وفي المقابلة نفسها، أكد نتنياهو على شعار العداء المشترك لإيران، كرافعة شراكة وائتلاف مع (الاعتدال العربي السني)، وقال: إن الدول العربية المعتدلة “تواجه التهديد نفسه المتمثل بإيران وداعش، وهي تسأل (أي الدول العربية) عمّن يمكنه مساعدتها؟ وبطبيعة الحال، “إسْرَائيْل” والدول العربية السُّنية ليسوا على طرفي نقيض”.
وللدلالة أكثر على حسن العلاقة مع هذه الدول، ذكر نتنياهو أنه التقى بعض المسؤولين في الاتحاد الأوروبي، وطلب منهم أن يظهروا لإسرائيل الفهم نفسه الذي يظهره لها (جيرانها العرب) الذين (كانوا) هم الأعداء التقليديين (للدولة اليهودية). وأضاف: “لدي طلب واحد، أن تعكس سياسة الاتحاد الأوروبي حيال “إسْرَائيْل” والفلسطينيين، السياسة العربية السائدة تجاه “إسْرَائيْل” والفلسطينيين”، معبّراً عن اعتقاده بأن إقامة علاقات بين “إسْرَائيْل” والدول العربية المعتدلة “التي ترى في “إسْرَائيْل” شريكاً لها لمواجهة خطر الإسلام المتشدد، قد تؤدي إلى حل الصراع مع الفلسطينيين، وليس النقيض”. ولعل المحددات الواردة في كلام نتنياهو تختصر المقاربة الإسرائيلية.
النظرةُ إلى التهديدات:
حدد نتنياهو عنصر الشراكة مع (الدول العربية السنية)، وفي مقدمتها السعودية، في: مواجهة مشتركة لإيران وحلفائها. وبحسب تعبيرات عبرية: مواجهة (المحور الشيعي) الممتد من إيران مروراً بالعراق وسوريا، وصولاً إلى لبنان وفلسطين، بما يشمل حزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية، على أن يشمل ذلك – أيضاً – الساحة اليمنية، كجزء لا يتجزأ من هذا المحور.
دراسة معمقة صدرت عام 2013م، عن (مركز أبحاث الأمن القومي) في تل أبيب، أكدت على الواقع التحالفي بين “إسْرَائيْل” وعدد من الدول العربية الخليجية المبني على المصالح المشتركة، مع توصيف لهذا الواقع على أنه إلى الآن (حلف غير ظاهر)، لكنه حلف فاعل ومؤثر ومتبادل. تشير تلك الدراسة إلى أنه بالنسبة لإسرائيل، يعد تعزيز الاتجاه الإقليمي مقابل إيران، مصلحة وضرورة. وهو الأمر الذي يفسر ما يحدث في السنوات الأخيرة بين “إسْرَائيْل” و(المحور السني) الذي يخشى بدوره من إيران. وهذه المصلحة المشتركة – بحسب الدراسة نفسها – هي التي دفعت إلى الشراكة وتبادل المعلومات الاستخبارية والتنسيق البيني بين “إسْرَائيْل” وممالك وإمارات الخليج، كما أن للجانبين، إضَافَة إلى المصلحة في مواجهة إيران والحد من نفوذها، مصالح إضافية تتعلق بمواجهة التطورات الأخيرة في المنطقة، وضرورة إبقاء الدول (المعتدلة) فيها بعيدة عن تداعيات ما يجري في المنطقة ومنع إسقاطها، الأمر الذي يمكن توصيفه بـ (حلف غير ظاهر) بين “إسْرَائيْل” وهذه الدول.
أُضيف للمحور الشيعي، كتهديد وإن كان مؤجّلاً، (التنظيمات السلفية الجهادية): داعش والقاعدة وأشباههما، إلا أن هذه الجهات – من وجهة نظر “إسْرَائيْل” وعدد من الدول العربية – هي تنظيمات تمثل وسائل قتالية متقدمة في مواجهة المحور المعادي (الشيعي بحسب التعبيرات الإسرائيلية)، الأمر الذي يمكن التقاطع في المصالح معها، والتعايش معها طويلاً طالما أنها تنجز المهمة في محاربة المحور أو إضعافه أو إشغاله.
وتشير مقاربة تل أبيب، كما ترد على لسان مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية (دوري غولد)، إلى أن: “بعض الدول العربية تنظر على نحو متزايد إلى الشرق الأَوْسَط من منظور إسرائيل”، وإلى أنه: “وسط المخاوف المتزايدة لدى الدول السنية من النفوذ الإيراني، خصوصاً في سوريا والعراق واليمن، تعقد “إسْرَائيْل” مشاورات سرية حول الوضع الأمني مع دول عربية، بما في ذلك تلك التي ليس لديها علاقات رسمية”، في إشارة من دوري غولد إلى الدول الخليجية، وفي مقدمتها السعودية. بينما سبق لـ (غولد) نفسه أن أشار في حديث صحافي، إلى أن هذه اللقاءات تجري في الدول العربية نفسها، لا في أماكن محايدة، ولمح خلال زيارة له – في حينه – لجنوب أفريقيا إلى أن هناك: “زيارات رسمية إسرائيلية إلى دول الخليج، فإسرائيل تلقى اليوم استقبالاً جيداً في أجزاء عدة من الشرق الأَوْسَط، بين البلدان العربية السنية”.
وسبق لـ (غولد) أيضاً موقف أكثر إيضاحاً، مبني على النظرة المشتركة مع (الدول العربية السنية) لتهديد الاتفاق النووي الإيراني؛ إذ أشار في كلمة ألقاها أمام لجنة رؤساء الجمعيات اليهودية في الولايات المُتحدة، إلى أن: “الدول السنية في الشرق الأَوْسَط هي حليفة لإسرائيل في مواجهة الخطر النووي الإيراني”، موضحاً أن المقصود من هذا التحالف مع “الدول السنية بزعامة السعودية”، إيجاد حل مناسب للاتفاق النووي السيء (مع إيران).
وفي إطار الكشف عن المصالح المشتركة، وأيضاً (العلاقة الاستراتيجية) البينية مع عدد من الدول العربية وفي مقدمتها السعودية، أثنى رئيس القسم الأمني السياسي في وزارة الأمن الإسرائيلية، اللواء عاموس غلعاد، على العلاقات الاستراتيجية الآخذة في التطور بين “إسْرَائيْل” ودول عربية سنية جارة تعتبر معتدلة، وأضاف أنه: “في الدول السنية الجارة إقرار بأن “إسْرَائيْل” تستحق منظومة علاقات؛ لأن إيران هي العدو رقم واحد لإسرائيل، وكذلك للسعودية”.
واللافت في المقاربة الإسرائيلية تلك، استخدام العبارات المذهبية في توصيف الدول الحليفة معها، كمحور سني في مقابل محور شيعي؛ إذ لتحقيق هدف استنهاض الشارع الإسلامي (السني) لمصلحة خيار الاصطفاف إلى جانب إسرائيل، لا بد من معارك تحمل عناوين مذهبية، وأداءً إعلامياً مذهبياً، وسياسة حقن مذهبي. وفي هذا الإطار ليس صدفة أن كل الخطاب الإسرائيلي الرسمي، وتحديداً على لسان نتنياهو وسائر المسؤولين الإسرائيليين، ومعه الخطاب الإعلامي ومقاربات الخبراء السياسيين، ومعاهد الدراسات، يتبنى المصطلحات نفسها التي تخدم هذا الاتجاه في التعبئة المذهبية. فمثلاً في “إسْرَائيْل” يتبنون تسمية المحور الشيعي بدلاً عن محور المقاومة، وكأن السنة لا علاقة لهم بالمقاومة، وتجري تسمية المحور المعادي للمقاومة وتدعمه “إسْرَائيْل” بالمحور السني المعتدل، للإيحاء بأن “إسْرَائيْل” إلى جانب السنة المعتدلين في مواجهة محور المقاومة.
*نقلاً عن مجلة مقاربات سياسية