جماعةُ أنصار الله.. الخطابُ والحركة
جماعةُ أنصار الله.. الخطابُ والحركة
دراسة سوسيو ثقافية
(الجزء الأول)
عبدالملك العجري
تُنسَبُ لماركس مقولةٌ مشهورةٌ عنه بعدَ أن سمع أحدَهم يُعرِّفُ الماركسية بطريقة خاطئة فقال ماركس: «إذا كانت هذه هي الماركسية، فمن المؤكَّد أنني أنا ماركس، لست ماركسياً»!!
ينطبقُ ذلك بشكل كبير على جماعة أَنْصَـار الله أَوْ “الحوثية” التي أحيطت منذ خروجها للمجال التداولي الإعْلَامي والبحثي بغيرِ قليلٍ من الضبابية والغموض، ومع تدشين أول جَولة صيف 2004م كان السؤالُ الحَرِجُ: مَن هم أَنْصَـارُ الله؟ كيف نشأت الجماعة؟ ما هي أهدافُهم، مقولاتُهم، أجندتُهم، استراتيجياتُهم، أصولُهم المعرفية وخصائصُهم الفكرية؟.
في هذه المرحلة الحرجة في مسار تأريخ جماعة أَنْصَـار الله، وفي مناخ مضطرِبٍ تخلّقت الفكرةُ الأوَّليَّة، وكان التصوّرُ الأولي أَوْ الأفكار الأولية تتدحرج مع الأيام ككرة الثلج، والمعلومات المتكونة في تلك المرحلة مثّلت دورَ الخبرات السابقة التي تُسهِمُ في تضليل نتائج البحث العلمي وتؤثر سلباً على مخرجات القراءات التالية، وأكثر مقولات استنزفت جهودَ الباحثين والكَتَبة، هي مقولةُ الإمامة السياسية، الصحابة، العلاقة مع إيران والمذهب الجعفري، وهي مقولاتٌ هامشيةٌ في الخطاب الحوثي أَوْ مفتعَلة، كما سيأتي، ويتم اصطفاؤُها وتسليطُ الضوء عليها عن قصدٍ في الغالب، كجُزء من أدوات المكافحة.
باستقراء عددٍ كافٍ من المواد والتقارير والدراسات التي تناولت أَنْصَـارَ الله؛ نجد انفسَنا أَمَـام كَمٍّ كبير من التعريفات المتضاربة وَمن بين التعريفات النمطية الشائعة:
– جماعةٌ إحيائية زيدية مطلبية تتبنى مطالبَ حقوقيةً سياسية وثقافية واجتماعية، وتسعى لحماية التقاليد الدينية والثقافية للزيدية، ممّا يعتقد أعضاؤها أنه تعديات سلفية/ وهّابية.
– ظاهرةٌ صنعها البؤسُ وحالةُ الحرمان الاقتصادي والمظالم المرتبطة بالهوية الثقافية، وإقصاء الرأسمال الثقافي والاجتماعي الزيدي من المساهَمة في رسم وتشكيل مستقبل اليمن الجمهوري عقبت ثورة سبتمبر 1962م.
– تجمُّعٌ عقائدي مغلَقٌ يعبِّـرُ عن وعي فئوي، وتمثّلُ مصالحَ طائفية طبقية أَوْ طائفية.
– حركةُ تمرُّدٍ وميليشيا مسلحة تتربَّصُ شرًا بالثورة والجمهورية، ورِدَّةٌ سياسية ضدًا لعملية التحوُّل الذي أحدثته ثورةُ السادس والعشرين من سبتمبر1962م، لاستئناف وإحياء الإمامة السياسية وسُلطة الهاشميين في اليمن.
– مجموعةٌ من الشيعة المرتبطين بإيران، والذين تحوّلوا عن الزيدية إلى الاثني عشرية.
أَنْصَـارُ الله ليست نزعةً علموية، ولا مجرد مدرسة نظرية صرفة، بل مكوّنٌ اجتماعي وحراك شعبي وتيار سياسي نشأ في سياق انقسامي، وبيئة مفعمة بالصراعات والتناقُضات الرأسية والأفقية مع النظام والفاعلين المحليين، كتَجَــلٍّ للفشل في إقامة دولة وطنية تصهَرُ الهُويات التحتية في إطار وطني جامع، خاضت جولاتٍ من القتال، سواء مع النظام أَوْ أطراف محلية، غالبًا ما كانت تكتسبُ أبعادًا إقليمية ودولية، ومعظم النتاج الأدبي في مقاربة أَنْصَـار الله أنتج على هامش أَوْ في سياق هذه الصراعات، ومن قِبَلِ قُرَّاء هم بشكل أَوْ بآخر جزءٌ من الصراع، لذا كان نتاجُهم تعبيرًا عن مخاوفهم أَوْ انطباعات ذاتية مستوحاةٍ من الذاكرة التأريخية لصراعات النصف الأوَّل من القرن السابق أَوْ بتأثير حالة التقاطب الجيوسياسي في المنطقة.
وغيرَ العوامل الدعائية والكيدية سياقُ نشأة أَنْصَـار الله- أيضًا- ارتبط بجُملة من العوامل الموضوعية، إن على مستوى الرموز وَالطقوس والشعائر والخلفية الثقافية أَوْ السياق المكاني والزماني، ربطها في الوعي الجمعي بمذهبٍ وجغرافيا وفئة معنية.
من جهة ثالثة تباينت القراءاتُ والتعريفاتُ لأَنْصَـار الله بتباين المناهج، والفرضيات السوسيولوجية النظرية لمقاربة الظواهر الاجتماعية والتعبيرات الدينية، وأكثر المناهج استخداماً هي المناهج ذات الطابع الاستاتيكي أَوْ السكوني الجامد التي تقاربُها كائنًا فوق تأريخي، وفعلاً استئنافيًا لظواهرَ مذهبيةٍ مفترضةٍ في الأزمنة الغابرة وتلحيقها بها بصورة مصطنعة، وتغريسُها قهرًا في القرن الحادي والعشرين من دون أَية مناسبة.
أو تفترضُ أن مسارَ حركة المجتمع اليمني مسارٌ جامدٌ وثابتٌ يعيدُ تكرارَ أبنيته بطريقة ميكانيكية، أَوْ أنه يمكنُ أن ينحكم لرغبة فردية ومؤامرة مُخَطّطة متفلتًا من كُلّ القوانين والشروط التي تحكم حركة الاجتماع الإنْسَاني.
النوع الآخر من المناهج (منهج الأزمة) المنهج الذي كان سائدًا على التراث السوسيولوجي التقليدي في تفسير عوامل وأسباب نشأة الإحيائيات الإسلامية، وربط كُلّ أشكال التعبيرات الدينية بأزمنة التراجع والتقهقر وخيبة الأمل.
المقارباتُ اليسارية واليبرالية التقليدية على الخلافِ بينها لا تخرُجُ عن كونها تنويعًا على منطق الأزمة تستبطن فكرة مسبقة، ترى أن العلمنةَ وأفولَ المقدس هو التطور الطبيعي.
إلا أن التطوُّراتِ والتحوُّلاتِ التأريخية جاءت مناقضة لأطروحات أفول المقدس، وانحسار الدين، والطفرة الدينية التي شهدها العالم والمنطقة العربية والإسلامية نهاية القرن العشرين أوقعت نماذجها الإرشادية (البراديغم) في أزمة كشفت قصورها عن مواكبة دينامية الظاهرة الإسلامية، وتفسير تزايد الطلب الاجتماعي عليها، وظهرت اتجاهات حديثة أعادت مراجعة فرضيات التراث السوسيولوجي التقليدي، وأدواته ومفاهيمه التحليلية.
المنهجُ النظريُّ للدراسة:
لا يعني ذلك أن كُلَّ أشكال التعبيرات الدينية المعاصرة كائنات مفارقة، وظواهر مستقلة عن الشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياقات البنيوية، والفرضية المنهجية التي أصبحت أكثر انتشارًا أنَّ التعبيرات الدينية المعاصرة لا يمكن معالجتها إلا على أرضية الفكر الإسلامي نفسه في سياق تفاعله مع الواقع الذي يتحَـرّك فيه..، وأن أصل المسألة كامن في بنية العقل العربي والإسلامي في تعالقاته مع البُنَى الاجتماعية والاقتصادية.
الظاهرة الإسلامية ترجع بالأساس لـ (كامن ثقافي) يدفع بها إلى حيز الوجود، وتسهم السياقات الاجتماعية والسياسية في مددها أَوْ انحسارها والمسارات التي تسلكها كما تتدخل في تحديد نوع الأنشطة والممارسات، فالدوافع الفكرية الثابتة المنبثقة عن النظام العقدي الإسلامي الذي يشكل المدخلات أَوْ الإطار المفاهيمي تعرض على الزمن تحت تأثير العوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية للمحيطين الداخلي، مخرجات متفاوتة على شكل تحَـرّكات إسلامية مختلفة.
جماعةُ أَنْصَـار الله ككل التعبيرات الدينية المعاصرة يثيرُ الاقترابُ منها تداخلاتٍ أكثرَ من حيز معرفي، بعضُها يتعلقُ بالحيز الديني وبعضها يتعلق بالإطار الثقافي كما بالسياق السياسي والشروط الاجتماعية والاقتصادية، والاشتغال عليها لا يكون إلا باعتماد مقاربة تركيبية (ثقافية – اجتماعية) تدمج بين الدلالات الثقافية لوجودها، ولا تهمل السياقات السياسية والشروط الاجتماعية، ولا دور القيم والعقائد والقيادة الملهمة التي مثلها السيّد حسين الحوثي، ومن بعده شقيقه عَبدالملك الحوثي في إلهام وتوجيه سلوك مناصريهم، وفي صوغ هوية الخطاب لأَنْصَـار الله في تعالقها مع ظروف وشروط السياق التأريخي المحلي والخارجي لإعَادَة تشكيل الاجتماع السياسي للجماعة.