صمودُ الشهادة ونذالةُ العدوان.. مشهدٌ من تفجير جامع بدر
حمود الأهنومي
مَرّا يخطران وراءَ أبيهما بشموخٍ طفولي مبدع، لبس ثلاثتهم (طقماً) موحّداً، كوتاً أسودَ، وثوباً بُنياً، وتظهر أطرافُ السراويل البيضاء تحتَ الأثواب، يتمنطَقون (الجنابي)، يتقدَّمُهما والدُهما الذي تتلمذ عليَّ قديماً في هذا المسجد في أواسط التسعينيات.
هذا هو (تقي المطاع) هذه القامة المتضمِّخة بالخلق الكريم والجمال الأخّاذ يمر متقدِّما ولديه هذين محمداً وعلياً وهما يشقان المصلين ليذهبا إلى أطراف المسجد، يمضي ثلاثتهم وكأنهم في عرض عسكري لم يتمَّ التحضيرُ له قطعا، لا أدري من أوصاهم بهذا الانتظام في مِشيتهم. لقد كان ابتعادهم بهذا النحو كافلا لهما السلامة من التفجير الأول.
أصغر طفليه الجميلين يتذكَّره الحسن ابني بقوة؛ لأنه آخر مرة أبى مصافحتي بعلة صبيانية، أضحكتني وأباه، لم أعد أتذكرها، لكن الحسن يعرفه بهذا الوصف (امْوَلْد الذي ما سلمش عليك).
كان منظر الثلاثة رائقا لولدي علي والحسن الجالسين بجانبيَّ خلف أحد الأعمدة التي سترت ظهورنا عن شظايا الانتحاري الخبيث، لقد كان علي والحسن ينظران إليهم بإعجاب ملفِت وهما بتلك الهيئة الجميلة والمِشية الرائعة كما بدا من متابعتهما، كان ذلك بينما كان الشهيد الدكتور والخطيب المحطوري يؤكِّد على تطبيق الحزم وعدم التهاون مع المجرمين، فعرّج على الخيواني، وأثنى على صحفي شجاع كان أول من رفع سقف الصحافة في اليمن، تساءل هل يجب أن ننتظر القتلة ليقتلونا واحدا واحدا، لم يتركِ النقدَ حتى للمنتمين إلى أنصار الله، لقد طلب منهم بسخريته المعهودة أن يُقْصوا أذني الفاسد من أنصار الله، وأن يعلِّقوه في باب اليمن، وعلى صدره (الصرخة).
كان يؤكِّد على دلالة (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) يكرر ذلك، يحاول إسقاطها على قضايا مختلفة. وبينما هو يعود للخطبة الأولى ويعود لتفاعله المعهود منه، ويمهد للمصلين بأنه سيُخْبِرُهم بنكتة قال إنه: “يخشى أن تنقض الوضوء”، ما إن أكمل هذه العبارة حتى انتقضت عرى الإنسانية، وتعرى إسلامهم الأمريكي، فتزلزل المسجد بسقوط العشرات هنا حولنا بسرعة خاطفة.
الملفت أن المكان الذي كنت أتعوَّد الجلوسَ فيه أصيب ذلك اليوم جالسوه، ما الذي منعني من الجلوس فيه؟ لا أدري، ربما لأن جواز سفري لم يؤشّر بعدُ للرحلة الكبرى في هذا الكون.
صعق الجميع، رأيت ابني يلتصقان بالأرض فحذوت حذوهما، لكن الغبار والأتربة والزجاج غمرت رؤوسنا، فقمنا ننفضها.
هُرِع الأطفال الصغار إلى الباب مع بعض المصلين، وهرع أولادي خلفهم، كان هذان الطفلان “المطاعيان” يطلبان من والدهما المغادرة كما يبدو، لقد كان بيتهم على مقربة من المسجد وعلى بُعْدِ بضع خطوات منه، لا أدري ما الذي حدث لي حيث اتخذت قرارا في اللحظة الأخيرة بعدم مغادرة الحسن وعلي المسجد، آمرا إياهما بالبقاء في زاوية من زواياه خوفا أن تكون هناك عبوات في الطريق، وحتى أبحث عن عمها الدكتور إبراهيم ورفيقيه الحسين وعبدالصمد، بسرعة خاطفة بعد دقيقة أو دقيقتين انفجر متربص آخر هنا في البوابة، لقد كان ينتظر الخارجين وبالتأكيد كثير منهم من الأطفال وآباؤهم، لقد حصد أَرْوَاحا كثيرة في بوابة المسجد، من دون شك كان كثير منها بريئا طاهرا، ومع ذلك لم تشفع له براءته ولا طهره في هذه الجريمة النكراء.
في أعقاب الانفجار الثاني أمسكني ابني الحسن، قائلاً: أترى ذينك الولدين، لا أدري أين ذهبا، لقد اختفيا لم أعد أراهما لعلهما بين الشهداء على قارعة الباب، كرر لي: أتتذكر (إمْوَلْد الذي ما سلمش عليك؟) لعله استُشْهِد، كان عقلي تلك الساعة في واقع اللامعقول، لم أستجْمِع الموضوع، وعدْتُ للبحث عن شقيقي وابن أختى ورفيقهما.
ها هي الزجاجات الصغيرة تملأ المسجد نحن ندور بسرعة من هنا إلى هناك، ولا ندري لماذا، في تلك اللحظة ترى هذا الشلو الممزَّع هنا، وتلك اليد هناك، أصادف الأستاذ يحيى الجيوري التلميذ الوفي للدكتور يتضمّخ بالدم، ويقطب وجهُه من الألم، ومع ذلك يمشي، لقد ظل هذا قريبا من الدكتور، لكنه لم يُفِدني اليوم هل نجى الدكتور من الجريمة أم لا، وذات الإجابة لقيتها من الأخ عبدالمطلب المحطوري، هو لا يدري أيضا، ولكنني في لحظة أخرى لمحت (محطوريا) آخر من بعيد وهو يجهش بالبكاء، شككت أنه حصل مكروه للدكتور، كان الوقت أقصر وأسرع من التفرغ للسؤال، إنني يجب هنا أن أبحث عن الصِنو ورفيقيه.
التفَتُّ مرة أخرى فلم أعد أرى واحدا من ولديَّ المرعوبين، اللذين يشاهدان هول القيامة، يدور رحاه على الطيبين والأطفال، فاقترحت على أحدهما بالمغادرة، وبعد ذلك بقليل أجِد الآخَر وآمرُه بذلك، أشرْتُ لكليهما أن يذهبا من بين باصات الفرزة وأن يأخذا طريقا مغايِرا للشارع العام.
أعود لأتملّى مدى الوحشية المُخْزية وهي تشوي هذه الوجوه والأجسادَ في أطهر بقاعِ الله المساجد، وفي أفضل ساعة في الجمعة، إنه مشهد فيه ربح (الشهداء) وخسارة الأمة التي فقدتهم، أجد الرفيق الثالث عبدالصمد النعمي الذي كان بوجه أبيض، والآن قد تفحّم وجهه، أسأله أين إبراهيم والحسين؟ فأجاب: ربما استشهد إبراهيم، يؤكد أن الحسين هناك لكن إبراهيم لم يره رغم أنهما كانا بجانبه، لقد رآه عند الانفجار وهو يتحرك إلى قفاه. ثم اختفى.
ذهبْتُ أبحث في هذه الوجوه المروِّعة، وفي هذه الأكوام من الأشلاء البشرية الحارقة، وأشم روائح لحوم الأبرياء المصلين تشوى بنار حقد العدوان، فأجد رجلي الحسين ابن أختي مكسورتين وقد رُدَّ أسفلُهما على أعلاهما، وقد غطى على وجهه البريء جثتان هامدتان، فأستخرجه من بينهما وهو يومض بعينيه فأسأله سؤال الأبله المتحيِّر: هل أنت بخير، ما الذي أفعله لك؟ آآآآآه يا بزيي (ابن أختي) ما الذي تريده؟ كان لا زال ينظر إلي بعينيه اللتين كانتا تكتنزان قدرا هائلا من التساؤل البريء والحثيث، فكان يحاصرني بنظرته الهامدة، التي توشِك على الإغماض الأبدي، كأنه كان يسألني هل فعلا هذا حدث يا خالي؟ هل بالفعل أوشكت ساعة الفراق وإلى الأبد؟ كانت عيناه تتحرك بهدوء في بقيةٍ من الابتسامة، غير أن الشظايا كانت قد ملأت جبهته، واتضح لي لاحقا أن عشرات الشظايا قد اخترقت جسده النحيل، وغيّرت كثيرا من ملامح رأسه.
بني العزيز.. ألستَ أنت الذي دخلت قبل قليل يسبِقك خالك وسلمتُما علي بابتسامتين، آه كم أخطأت حين اعتبرت ذلك سلام اللقاء، لكنه اتضح أنه كان سلام الوداع.
حسين ابني هل ستعود إلى المدرسة لتحقِّق الوعدَ الذي وعدْتَني إياه؟ هل ستحصل على الترتيب الأول في صفك في مدرسة المبدعين (عبدالناصر) كما وعدتني؟ أكأنك الآن تخبرني أنه لا مقام لك هنا، ألسانُ حالِك يقول: أنت يا خالي الذي حشوْتَ أذني: (لنا الصدر دون العالمين أو القبر)، لكن يبدو أنني ذاهب من الصدر إلى القبر.
لا أدري يا خالي إن كنت سأحقق أملك المعقود بالمعرفة والمتزين بالآداب الجميلة.
أخذته ومررت به من تلك البوابة التي ترصّد الإجرام عندها هذه الرقاب التي لم تكن قد “أينعت”، على حد قول ذلك الظلوم في صدر الإسلام والذي كان أرحم من هؤلاء.
في البوابة صحت: يا ألله ما هذه الشدة!!! لقد كان هنا طفلان يبيعان كتبا وصورا، هذه هي بقية الصور والكتب، متطايرة، وهذه أشلاء كثيرة تتراكم على بعضها، وهناك معاء، وتلك يد، وهناك ما بقي من قذارة المجرم الانتحاري، غير أن الطفل البائع أو أحدهما، وكان يتربَّع على كرسي البيع، لكني وجدته الآن لا يبيع كتبا بل انتهى به الحال أن يبيع من الله، لقد بقي على كرسيه، غير أنه كان للأسف بغير رأس.
كان هناك شكٌّ يراوِدني أن ذينك الطفلين لا زالا حيين؛ لأنني لم أرهما هنا، بين هذا الحصيد من الضحايا. لقد كان ظنا خائبا.
أخرجت الحسين وعبدالصمد إلى البوابة واستوصيت رفيقي (الكبسي) بإسعافهما مع أول سيارة، لا زال هناك أمل يراودني أن أجد أخي إبراهيم، سأعود مرة أخرى لأبحث عنه، لكنني ما إن وصلت حتى طلب مني أحد الناجين من هذا المكان المُمِيت أن أربط رجله المكسرة، كان يبدو سليما ويحرِّك رأسَه بشكلٍ طبيعي، ولكنه رضي أن يبقى بين هذه الجثث الكثيرة لأن أكسار رجله أقعدته، فسألتُه بم أربطك؟ أجاب بصمادتك، ابتسمتُ ولات حين بسمة، لرجل مصابٍ هادئٍ يتذكَّر هذا، وأنا المعافى قد نسيتُ، ربطته تحت صيحات ألمه.
طلبت ممن كان هناك أن يذهب للنعش لنحمله عليه، وطفقت أنا أبحث عن أحبِّ إخوتي إلى قلبي إبراهيم، أين أنت يا أبراهيم؟ أين أنت أيها المتفوق في دراساتك دائما منذ صغرك؟ أين أنت يا من كنت أردد أن الله ما خلق إبراهيم إلا للعلم؟ أين أنت يا مَنْ كنتَ تنجح في كُلّ تحديات العلم؟
تبحث وتدور، فيأتي هاجس ليقول لك: ليس هناك مجال للبحث، وهذه الضحايا تملأ المسجد، يجب أن تتحرَّك لتُخْرِج الأول فالأول، لم أجد إبراهيم، راودني شك جميل وحالم في غير محله، قلت: إنه طبيب، لعله تحرك ليُسْعِفَ نفسه بعد الحادث مباشرة، هكذا سيفعل الأطباء بأنفسهم، سيتذكرون هذا الأمر، إنه إذا بخير، وقد نجى من هذه المحرقة، ما أجملَ أن تحاول انتزاع الآمال الساذِجة من وسط هذا الإجرام اللامعقول واللامتخيل في أطهر الأمكنة المساجد.
أوووووووووه حسين ولدك هناك عند الباب حيث تركتَه لم لا تذهب لإسعافه؟ هكذا تتزاحم الأفكار الكثيرة في الأوقات الحرجة، وتتقافز التأنيبات الآنية والسريعة، وهكذا تتناقض بسرعة الضوء الأولويات لديك، بأيها تبدأ وبأيها تنتهي، هُرِعْتُ بسرعة، بين كسر الزجاج الصغيرة، وعلى صفحات الدماء المراقة، إلى تلك البوابة، غير أنني لم أجد لا حسينا ولا عبدالصمد، ومن قبل ذلك لم أر إبراهيم.
كان هؤلاء الشبان يتحرَّكون بسرعة، لإخراج الجثث إلى المشافي، بيدي تلفونان كنت أريد الاتصال بصديق أو قريب أطلب منه التحرك بسرعة للبحث في المشفى عن إبراهيم والحسين وعبدالصمد، لكنني بسرعة أنسى، يتحرك هنا مشهد يخرجك عن السياق، أحاول أن أمضي إلى البيت ولكن المتحلقين هنا يرشدهم منظر الدماء التي على ثوبي وكوتي بأنني جئت من معمعة دم، يتكاثرون علي للسؤال، فأضجر أن أجيب على كلِّ أحد، إن الوقتَ يداهمني، ولا يسمح للتفصيل لكل هذا التساؤلات المُحِقة والتي تريد التعرُّف على ما حصل بشكل أكثر، أزمعت العودة إلى المسجد حتى أجد سيارة أجرة أركب فيها.
تلفوناي (يمن موبايل وإم تي إن) تتزاحم على شاشتيهما الاتصالات من الأقارب، والأصدقاء، لم أشأ أن أرد على أحد في تلك اللحظة، ولا يمكنني ذلك، غير أنني وأنا أدور في ردهات المسجد الكبير، بين تلك الأشلاء كنت قد سمعت انفجارا ضخما، وبسرعة البرق ذهب ذهني إلى أن هذا النموذج المتسخ والقذر قد تكرر في مساجد مختلفة، واستقر رأيي أن المساجد المزدحمة بالمصلين هي الهدف، ومنها الحشحوش،.. يا ألله كم إذن من الأصدقاء والناس الأبرياء قد ذهبوا أدراج هذا العدوان على بيوت الله؟!
أخيراً علمت بأن الحسين في مشفى الثورة شهيداً، وأن إبراهيم في الشرطة القديم أيضا شهيد، يا ألله خُذْ ودائعك التي يريد المستودِع استبقاءَها لديه، أنت صاحب الحق، وأنت الكريم الذي يكرم مخلوقاته.
ها أنذا وقد بدأت أكتُبُ هذه التراجيديا المأساوية، يعلنون أن شيخنا العالم المحقق والخطيب المفوَّه الدكتور المحطوري صار عميداً لشهداء المنبر، بعد عمر جيد في مقارعة هذه الاشكال الغريبة التي كان نهايته عليها، وهل كانت هناك نهاية أروع من هذه القصة المروِّعة والرائعة التي اختتمتها يا شيخَنا المفدى، وهل يليق برجل مثلك علماً وعملاً وتحقيقاً وشجاعةً إلا أن يكون شهيداً سعيدا.
يااااااااه يا للهول، لقد عرفت أن عشرات الشهداء قضوا في هذه الجمعة الدامية في المسجدين، هناك أحباء ومعروفون كثيرون من ضمنهم، لكن هل تتذكرون ذينك الطفلين اللذين توقعهما (الحسن) ضمن الشهداء، نعم هذه صفحة في الفيسبوك تخبِرُني بنهاية مأساوية لهما، لقد ركضا من الانفجار الأول، ليقعا في آخر مثله، وصدق عليهما قول من قال: (ومن لم يَمُتْ بالجبس الأول مات بالثاني).
عدت إلى البيت لأرد على عشرات الاتصالات وكان على أثيرِ كلٍّ منها يأتي خبر شهيد، مشفوعاً بعبارات الحمدلله، وعظيم الصبر، أتذكر أنه بينما كنت في مشفى الثورة أبحث عن المصابين سألني مراسل المسيرة، فقلت كلمة لم أنسها: إن هذه جريمة كبيرة وحقيرة وعدوان سافل لكنها بالتأكيد لن تستطيع إيقاف حياتنا، والحياة بنهرها العابر والمتموج بالآمال وبيقين العدل الإلهي هي أقوى من كُلّ هذه التعنترات القبيحة.
معجم شهداء المسجدين.. لم يُكمِل الرواية
في العام الماضي كنت على رأس فريق لجمع معجم للشهداء في المسجدين، فإذا بي أجد عدوانا صامتا وحقيرا في مكاتب الوزارات المعنية برصد وتوثيق أعداد وأسماء هؤلاء الشهداء، عدوان في إخفاء البيانات، والتلاعب بها، والتضليل فيها، والإهمال الكبير؛ لنكتشف ضرورةَ أن يدور الفريق للبحث عن معلومات وأسمائهم وصورهم كما كنت أدور في ذلك المسجد أثناء وبعيد التفجيرين.
بحمد الله أُنْجِزَ الكتاب، وقد جمَعَ بين دفتيه (153 شهيدا) وحوالي (400 جريحا) في المسجدين، منهم شهداء لم نعرف معلومات كثيرة عنهم حتى اليوم؛ لأن العدوان السعودي الأمريكي المواكِب لهذه الجريمة والستمر حتى اليوم صعَّب حالة التواصل بين المجتمع. ومع ذلك وبينما قد أنجزنا طبعتين من الكتاب إذا بنا نجد شهيدين آخرين لم نبلغ بهما إلا في وقت متأخر، أحدهما من آل الأمير من مدينة مأرب، والآخر هو الشهيد علي حسن عبدالوهاب الديلمي من مدينة ذمار. ومن يدري (لعل لها شهيدا وأنت تلوم).
تبيَّن في المعجم أنه بذلك حوى تنوعات المجتمع اليمني جميعا بداخله، ففي شهدائه العلماء، والدعاة، والأكاديميون، والأطباء، والمهندسون، والجامعيون، والعسكريون، والمدنيون، والأطفال، والشيوخ، والشباب، والموظفون، والعاملون أعمالا حرة، والأغنياء، والفقراء، والمشاهير، والمغمورون، ومن محافظات متعددة، من الأمانة، وصنعاء، وعمران، وصعدة، وحجة، والحديدة، والجوف، وذمار، وإب، والضالع، ومن أسر وقبائل يمنية كثيرة؛ فأعطى ذلك صورة واضحة أن عين الإرهاب التكفيري عمياء، ويده شوهاء وخبيثة، مثلها مثل طائرات وأسلحة العدوان السعودي الأمريكي لا تستثني أحدا عن طائلة عدوانها.
وبيَن الكتاب أن من بين كُلّ خمسة شهداء طفلا شهيدا، وأظهر أن الجريمة تكاد أن تكون قد أعدمت أسرة تماما وهي أسرة شايف الحاج، حيث استشهد هو وطفلان له، وسلبت الجريمة من الأستاذ علي القبلي طفليه، أما الأستاذ تقي الدين المطاع من صنعاء، والأستاذ محمد الهادي من حجة، فقد جُرِحا جراحة بالغة، واستشهد ولداهما الوحيدان، هذه الجريمة قتلتِ الأب والابن، والأخ وأخاه، بل إن الجريمة طالت – في حالة أسرة الجاهلي من أهالي مسور وشمّاخ من حجور حجة – ثلاثة أجيال، حيث قتلت الجد، والابن، والأحفاد.
لقد سلبتنا الجريمة كثيرا من العلماء، وعلى رأسهم العلامة الدكتور المحطوري، والعلامة القاضي عبدالملك المروني، والعلامة القاضي عبدالإله الكبسي، والعلامة الداعية عمار اللاعي، والعلامة الأستاذ محمد عبدالملك الغيثي، وآخرون كثيرون.
وخلّفت الجريمة أيضا مآسيَ كبيرة في الجرحى، لا زال الكثير منهم يعيشون آلامهم وحِرمانهم وإعاقاتهم الدائمة، وهنا نلفت عناية المؤسسات الاجتماعية للقيام بدورها في هذا الجانب، وإعطاء فئة الجرحى اهتمامها أيضاً.
المساجد هدف لداعش السماء وداعش الأرض
ومثلما أوغل العدوان في دماء اليمنيين على مدار عامين كاملين، وبينما كان ولا زال يفخِّخ طيرانُه رؤوسَ الناس والمصلين بالخصوص من الجو، كان مرتزقته وعملاؤه ينفِّذون غزواتهم التكفيرية الخبيثة ضد بيوت الله، وكان حظ العاصمة صنعاء فقط حوالي 12 مساجد، وهي مسجد الإحسان، وجامع القبة الخضراء، وجامع قبة المهدي، وجامع المؤيد، وجامع البليلي، وجامع البهرة، وجامع الروض، وجامع الصياح، وجامع النور، وجامع قطينة، بالإضَافَة إلى بدر والحشحوش.
لا فرق بين هؤلاء وأولئك، فلو أن أبا بكر البغدادي امتطى طائرات سلمان ليقصف بها اليمنيين لما ارتكب من الجرائم إلا بقدر ما ارتكبه سلمان وطائراته، ومثل ذلك في العكس، فجدة التكفيريين واحدة، وأمهم التي أرضعتهم الحرب على المسلمين أمريكا، لما يحِن أوانُ فطامها.
مع مرور 700 يوم على الصمود اليماني، أحصى المركز القانوني ما يزيد على 700 مسجد طالها قصف طيران آل سعود في مختلف محافظات الجمهورية، بواقع مسجد كُلّ يوم، وفي هذا دلالة خطيرة كان يفترض أن تحرك وعي المسلمين جميعاً من خطورة السكوت على مثل هذه الجرائم الخطرة والتي لا سابق لها في تأريخ المسلمين.
النكزُ العميقُ لوعي المجتمع
ثم يأتي إعلام العدوان عند كُلّ استهداف للمساجد والمصلين ليقول: إنه تم استهداف المساجد الحوثية، بكل صفاقة وقبح ودمامة، وكان مخططو العدوان يودون أن يفتحوا جبهة تفجير المساجد، ليشعلوا الفتنة بين اليمنيين، بتفجير هذا المسجد ليذهب المتضررون بتفجير المسجد الآخر، لكن ما أثبته اليمنيون كما عهدهم التأريخ أنهم أفشلوا هذه الجبهة من أول يوم، بل لا أبالغ بأن تفجير المسجدين كان بمثابة نكزٍ عميقٍ ومؤشِّر خطير حرّك المجتمع – بشكلِ لم يحسب المعتدون له حسابا – نحو جبهات الصمود والتحدي، بل كان هزة مجتمعية خارجية أعادت بوصلة الحقيقة نحو العدو الحقيقي الذي يجب أن يُوَجَّه إليه سخط الأمة وغضبها.
ولم تنس دماء أولئك الأطفال والأبرياء والمصلين أن تفضَحَ دعاةَ مملكة قرن الشيطان وأن تعرِّي وجوهَهم القبيحة وقلوبَهم الخاوية من كُلّ القيم الإنسانية حين صرَّحوا وصرح دعاتهم أن تلك التفجيرات هي من فعل المقاومة التي تريد تحرير صنعاء، وهم بهذا كشفوا حقيقة أمرهم لعامة الشعب ولكل ذي لب أن هذا هو نموذج التحرير لديهم، لا سمح الله؛ وهنا أتذكر تغريدات المدعو عايض القرني أحد قيادات الإخوان المسلمين في مملكة قرن الشيطان، والذي استضاف الشيخ الزنداني عند فراره إلى بلد العدوان، لقد قال في تغريداته: إن تلك التفجيرات هي عمليات المقاومة ضد الحوثيين في صنعاء، أما عبدالله صعتر فمؤخرا صرح أن عمليات العدوان ومنها الجرائم الكبرى أمرٌ رباني.
لهذا ما يجب أن يعيَه اليمنيون دائما وبشكل مختصر أن هؤلاء أعداء الإنسانية، وأن استهدافهم للمساجد ما هو إلا صورة ومثال لإيغالهم في الخسة والدناءة والحقارة، وأنه لا مناص من الاستمرار في هذه الحالة الكريمة التي يخوضها اليمنيون بجدارة، إنها حالة العزة والصمود والمواجهة والجهاد في سبيل الله إلى أن يتحقق النصر والاستقلال والحرية والكرامة.
فهل توقفت الحياة أيها المعتدون، أم ظل نهرها جارياً على صفحات التصدي والصمود متصاعدا نحو النصر بطريقة صاخبة ومتدرجة.
وأخيراً فمن لا يتورع عن استهداف بيوت الله، لا يمكنه أن يتورع عن قتل خلق الله.