النصر.. بين واقع المفاجآت وموائد المفاوضا
بقلم /حمود الأهنومي
ليست الحرْب لحظة ثمَلٍ عابرة يمارسُها الغُواةُ ساعةَ سكرهم بخمر الكبر والهمجية والنزوع الشيطاني، بل هي عملية تفاعُلية وسلسلةٌ متجددةٌ بين طرفين أو أكثر ولا يمكن للطرف المبطل فيها مهما عَظُمَت قوته المادية أن يحسم خياراتِه كما يحب.
بعد مرور أكثر من 73 يَوْماً من العُـدْوَان يعترف (عسيري) متحدث العُـدْوَان بأنه يقاتل خصماً شرساً، ولديه ما يُخفيه في معرض رده على تساؤل يقول: كيف تتحدثون عن إطلاق الـيَـمَـنيين صواريخ (سكود) بعد زعمكم في أول أيام العُـدْوَان القضاء على منظوماتهم الصاروخية، وفي هذا الجواب ما يسلط الضوء على المسافة الشاسعة بين مزعوم أهداف العُـدْوَان في أيامه الأولى من استعادة شرعية الفار عبدربه منصور وتدمير الحوثيين من جهة ومزعوم القدرة على مواجهة صواريخ (سكود) الـيَـمَـنية التي بدأت مؤخراً تهاجم القواعد العسكرية في العمق العميق من المملكة، بالتزامن مع عاصفة من الهجومات الكاسحة لقوات الجيش واللجان الشعبية على طول الحدود من نجران إلى جيزان.
لقد كان وَاضِحاً من البداية أن لدى الجانب الـيَـمَـني إيماناً عميقاً بقضيته، وثقةً مطلقةً في الله ناصر المستضعفين، ووقوفاً صادقاً مع مظلوميته؛ باعتباره شعباً قرّر أن ينعتقَ من حالة التبعية والذلة لخدام الأَمريكان، وأن لديه قيادةً تَأريخية صادقة ومخلصة وشجاعة وحكيمة وموحدة، وروحية عالية بلا سقف ولا قيد، وتلاحماً شعبياً قوياً وعاصفاً وغير مسبوق، تمثّل في هبّة الشباب الصادقين المتسلحين بروح الاستبسال والتحدي والصمود، وفي دفع الآباء والأمهات بأولادهم إلى ساحات الوغى بشكل لم يسبق له مثيل في التَّأريخ، وأن لديه شعوراً طاغياً بالمسؤولية التَّأريخية في المواجهة الفاصلة، شعور فاض على الكبير والصغير، والرجل والمرأة، والقيادي والعادي، والمؤسر والمعسر، وكلٌّ أنفق وينفق مما آتاه الله.
استوقفتُ بعضاً من الشباب حديثي السن وهم ينطلقون إلى ساحات الجهاد والرجولة والشرف، قائلاً: ماذا قالت لك أمك وأنت تستأذنها في التحرك الجهادي؟ فكانت الإجابة أنها كانت راضيةً؛ لأنه ينطلق في الدفاع عن دينه وعرضه وأرضه، وأخرى استبشرت، وثالثة دعمت، ورابعة (وهي حالة لامرأة قريبة لي): غاضَبَت ولدها الأكبر وعائل أسرتها الأوحد؛ لأنه لم يسرع في الالتحاق بركاب الشرف والكرامة والرجولة. تيقّنتُ عندئذ أن الأمرَ كله بيد الله، وأن الله يهيئ هذه الفرصة لعبادة للوصول إلى مرحلة كبيرة من النصر والتأييد والفتح، أثق أن بلد الإيمان والحكمة ذاهب إليها بتوفيق الله ونصره، ولكن لا أدري ما مقدارها وكيف الطريق إليها بالتفصيل.
على الجانب الآخر فإن العدوَّ السعوأَمريكي يشعُـرُ أنه باغ، وظالم، وهو بلا أفق، وبلا خطة مدروسة، وبعشوائية قاتلة، وبأَخْطَاء منهجية فظيعة، وبمجازر دموية بحق المدنيين تشكل هزيمة مدوية ودائمة بحد ذاتها، إنه يعيش عدمية مظلمة في كُلّ شيء، في الهدف، وفي الطريقة، وفي الوسيلة وفي الرهان، وفي المأزق، وفي المخرج، وهو تحت قيادة الأَمريكان النفعية التوريطية أولا، وتحت قيادة “الوِرعان” المتهورة وغير المجرِّبة ثانيا، وتحت تهويل وتضليل القيادات الفارة والخائنة ثالثا، وخلفه شعب القطيع الذي لا يهش ولا ينش، وبروحية فارغة، وجيش فرّار لا عقيدة ولا روحية إيمانية، وتحت تأثيرات طابور طويل من الفاشلين، لم يستطيعوا أن يقدموا شَيئاً على أرض الواقع، ولن يستطيعوا، وإذا كان من تأثير لبعضهم فهم أشقاء مملكة قرن الشيطان في التكفير والدموية، القاعدة وداعش، وتأثيرهم سلاح ذو حدين، لا يؤمن انقلابُه في أَي وقت، وربما جاء بنتائج عكسية لا سيما في يمن الإيمان والتسامح الرافض تَأريخياً واجتماعياً لهذا الفكر الدموي التدميري، بالإضَافَة إلى القلق والخوف والرعب المستبِدِّ بقيادة آل سعود والخليجيين والتي ظهرت بشكل مثير للشفقة في قمة كامب ديفيد، وإلى سقوط عملائهم المدوي في الداخل ولا سيما (الإخوَان المسلمين) في وحل الخزي ومستنقع النذالة الاجتماعية وفي ظلال الانكسار الفظيع والعجز المريع، كما أن ظهورَ العُـدْوَان مؤيَّداً ومدعوماً ومباركاً من الأَمريكان، وبتنفيذ الإسرائيليين في ما يتعلق بالقنابل النتيروجينيية المحرمة دوليا، وما يتكشَّف تباعا عن علاقة السعوديين بالصهاينة وتنسيق جهودهم، وآخر ذلك لقاءات (عشقي- غولد)، كُلّ ذلك بالإضَافَة إلى التحديات الأمنية الداخلية والخلاف المتصاعد داخل الأسرة السعودية المستبدة، أدّى وسيؤدي بالضرورة إلى الهزيمة المدوِّية لهذا العُـدْوَان الذي ضرب المثل الأقذر والأعنف والأكثر وحشية وخسة ودناءة ودموية وهمجية في تَأريخ العالم القديم والحديث والمعاصر.
يجب التنبيه إلى أوفَقية القيادة في الرد على العُـدْوَان بصورة دراماتيكية ومتصاعدة، بدءا من إسقاط مشاريعه في الداخل، إلى الصبر الاستراتيجي الذي يعطي العدو نصراً زائفاً أول وهلة، ثم صفعه بضربات خاطفة، إلى التلقين بالدروس النوعية، إلى مفاجآت إنتاج المنظومات الصاروخية (النجم الثاقب- الزلزال- والحبل على الجرار)، إلى الهجوم الكاسح وإسقاط المواقع والمدن الحدودية، إلى استخراج صواريخ (سكود) من كيس المفاجآت المنسي، والتي كان يُظَنُّ أنها من سابع المستحيلات، والقادم أعظم وأقوم وأكثر صعقا وصفعا.
لقد ساهمت هذه الحيثياتُ في إيصال العُـدْوَان إلى مأزقه الخطير الذي لا يدري كيف الخروجُ منه، وليست مفاوضات مسقط غير المباشرة سوى توسُّلِ متكبِّرٍ ومكابرٍ للخروج بصورة تحفظ ماء الوجه، والرائع أن الـيَـمَـنيين مثلما فاجأوا العالم بمقاومتهم الأسطورية وشجاعتهم الباسلة في الميدان فاجأوه أَيْضاً على موائد المفاوضات بقوة الموقف وصلابته، والذين ألقموا السعوديين والأَمريكان الحجر، فلم يخرجوا منهم بطائل، حيث بقي موقفهم الحق والقوي الذي انتصر وينتصر للـيَـمَـن والـيَـمَـنيين ولحقوقهم وحاضرهم ومستقبلهم، رغم أن الأَمريكان والسعوديين استحضروا دولَ العالم إلى مسقط في محاولة يائسة لتوفير فرصة ضئيلة في إعطاء نصر زائف وصوري كالانسحاب من بعض المدن، وها هو الوفد الـيَـمَـني الذي حاصر العالمُ بلدَه تزلٌّفا إلى السعودية في أول أيام العُـدْوَان أَصْبَـح اليوم محل ترحيب وطلب حثيث من دول العالم الكبرى بعد الصمود الأسطوري للـيَـمَـن شعباً وجيشاً ولجاناً شعبية، فبعد أن استدعتهم مسقط ها هي تستدعيهم موسكو، وفي نهاية الأمر ستمضي شؤون هذا العالم على واقعية الأمر الواقع، فمن بيده مقاليد الأرض سيكون له حق تقرير المصير.
ومع ذلك يرى مراقبون أن مفاوضات مسقط أكثر جدية من مؤتمر جنيف، حيث تتوسل الدول ذات الشأن بالعُـدْوَان في مسقط الخروج من هذا المأزق، وليس هناك من فاعل في هذه المرحلة إلا هم وهذا الشعب الـيَـمَـني العظيم بمجتمعه وَجيشه ولجانه المجاهدة.
بيد أن مؤتمرَ جنيف أظهر المعتدين بصورة المتراجع والمنهزم الذي اشتط في الشروط سابقا، ثم بشكل سريع تنازل بشكل عجيب، وقبِل ذليلا الذهاب إليه بدون قيد ولا شرط، وبالربط بين جنيف ومسقط، فإن جنيف في نظر كثير من المراقبين لا يعدو أن يكون مهرجانا أمميا، لا يجب التعويل عليه في صناعة إحداث أَي حل، شأنه في ذلك شأن كثير من المؤتمرات الأممية كما هو الحال في سوريا وغيرها من البلدان، ومن المهم التذكير أن العُـدْوَان استبق هذا المهرجان إلى مسقط في سعي حثيث للترتيب لخروج أكثر واقعية من مأزق ورطته الكبرى في الـيَـمَـن.
لا أحتاج للتذكير للوفد الـيَـمَـني المجاهد والبطل أن العُـدْوَان قد استنفذ كُلّ ما بوسعه من قتل وتدمير، بينما لدينا مفاجآت متزاحمة، وأن كُلَّ يوم من أيام العُـدْوَان يمُرُّ إلى الأمام هو انتصارٌ للـيَـمَـن وعبءٌ ثقيل على العُـدْوَان، وأن مجازرَه اليومية وإن كان يرى فيه المتوحشُ الهمجي رغبته وشهوته الضالة فإنها تشكل في عمق وعيه وفي قرارة نفسيته هزيمة دائمة ومدوية وتسرع في تدمير ذاته وإظهار بعض مشاكله وأمراضه، لقد كان العُـدْوَان من الغباء بمكان أن قذف بكل ما لديه من خيارات وأوراق، بينما من الحنكة والحكمة والتوفيق أن أظهر الـيَـمَـن قدرة كبيرة في التصدي المتصاعد والمفاجئ والمتجدد والمثير فكان الوكيل الحصري الذي بيده رسم المشهد الأخير.
أيها المفاوضون أينما كنتم، كما يليق النصر بالـيَـمَـن في معارك الساحات، يليق به وبكل شرف في معارك المفاوضات، وأنتم أهل لكل ذلك.