مؤلِّفُ الكتاب الأَكْثَر مبيعاً في العالم: كانت مهمّتي هي إجبار الدول على الرضوخ والقبول باتفاقيات قروض مُجحِفة لا يمكنُها سدادُها
الاغتيالُ الاقتصادي للأُمَـم.. (الحلقة الأولى)
تستخدم الكوربوقراطية كُلّ قوتها المالية والسياسية لتتأكد أن مؤسساتها من المدارس وقطاع الأعمال والإعلام تساند رغباتها المتوحشة في جعل العالم إقطاعاً تابعاً لها
صدى المسيرة| زكريا الشرعبي:
لم يكُنِ الشاعرُ العربيُّ محمود درويش مبالغاً حين قال “أَمريكا هي الطاعونُ والطاعون أَمريكا”، فما من بلد تصلُ إليه هذه الدولة إلا وأصابته بالموت، وهذا ليس افتراءً عليها، بل ما يقوله أَبْنَاؤها وأبرز مسؤوليها وما تشهده مذكرات أدواتها في البغي والجور.
بكل ما تعنيه كلمة اغتيال من معنى تمارِسُ الولاياتُ المتحدة الأَمريكية اغتيالاتِها للأُمَـم والشعوب من منطلقات عدة؛ سعياً إلى الهيمنة على هذه الأُمَـم وإبقائها خاضعةً خانعة، وذلك بوسائلَ متعددة تتمحور جميعُها حول الاغتيال الاقتصادي للأُمَـم وقتل الشعوب بالفقر، وتستخدم للوصول إلى ذلك عدداً من المُؤَسّسات الدولية التي ترفع شعاراتِ المساعدات الإنْسَانية وتنمية الدول التي تصفُها بالفقيرة.
ورغم أن المؤلّفات التي كُتبت حول هذا الموضوع بأقلام مسؤولين سياسيين واقتصاديين أَمريكيين كثيرة، كمؤلفات ناعوم تشومسكي من “الدولة الفاشلة إلى “الهيمنة أم البقاء” وَ”أشياء لن تسمع بها أبداً” وكتاب “الدولة المارقة” لويليام بلود، وكذا كتاب الصنم لـ “نيل فرجسون”، فضلاً عن الاعترافات الواضحة في مذكرات هينري كيسنجر وكولن باول، وغيرهما من قيادات الإدارة الأَمريكية، إلا أن ما كتَبَه القاتلُ الاقتصادي جون بركنز في كتاب “الاغتيال الاقتصادي للأُمَـم.. يوميات قاتل اقتصادي” الذي أَصْبَح في عام 2004 الأَكْثَرَ مبيعاً في العالم، يعد واحداً من أبرز الشهادات الأَكْثَر توضيحاً لأساليب ووسائل الهيمنة الأَمريكية على الدول واغتيالها اقتصادياً.
وحيث كان جون بريكنز واحداً من أهم الموظفين في أعلى هرم داخل المُؤَسّسات الاقتصادية الدولية ويعمل لصالح الولايات المتحدة الأَمريكية كقرصان اقتصادي كما يعبر عن نفسه فإن اعترافاتِه تشرح الهيمنة الأَمريكية على المُؤَسّسات الدولية وكذب الشعارات التي ترفعها هذه المُؤَسّسات لتضليل الأُمَـم والشعوب بالإنْسَانية والحقوق والتنمية.
يقول القاتلُ الاقتصادي الدولي، الأَمريكي جون بيركنز، عن ماضيه في أعلى هرم المُؤَسّسات الدولية الاقتصادية مثل البنك الدولي: ”كان عملي هو إجبار الدول ورؤساء الدول والحكومات ورؤساء الحكومات على الرضوخ والقبول باتفاقيات قروض مجحفة، لا يمكن معها لتلك الدول، إلا ربما بشق الأنفس، سدادُها والتخلص من ربقة الديون التي أثقلها بها. ويأتي هذا كله انطلاقاً من منهجين أساسيين في السياسة الأَمريكية لإذلال الشعوب، الأولى حد السيف والأخرى هي عن طريق الديون، وذلك وفقاً لتعبير الأَمريكي جون ادامز.
يضيف بركنز: نحن القتلة الاقتصاديون مسؤولون حقاً عن خلق هذه الإمبراطورية العالمية الأولى من نوعها، ونحن نعمل بطرق مختلفة، ولكن ربما كانت الطريقة الأَكْثَر شيوعاً هي أننا نحدد بلداً لديه موارد تثير لعابَ شركاتنا، مثل النفط، وبعد ذلك نرتب قرضاً ضخماً لهذا البلد من البنك الدولي أو أيٍّ من المنظمات الحليفة، ولكن المال لا يذهب حقاً إلى هذا البلد.
وبدلاً عن ذلك يذهب إلى شركاتنا الكبرى لتنفذَ أعمالاً تعودُ بالنفع على القلة القليلة من الأغنياء في ذلك البلد، بالإضَافَة إلى شركاتنا، ولكنها في الواقع لا تساعد أغلبيةَ العامة من الناس، ولكن هؤلاء الناس وكل البلد يترك حاملاً عبء دين ضخم من المستحيل سداده، وهذه هي الخطة أنهم لا يستطيعون سدادَه، وهنا يأتي دورُنا نحن القتلةَ الاقتصاديين لنقول لهم: “أنتم مَدينون لنا بالكثير من المال ولا يمكنكم سداد ديونكم، حسناً قوموا ببيع النفط الخاص بكم بسعر رخيص لشركاتنا النفطية.
اسمحوا لنا ببناء قاعدة عسكرية في بلدكم أو ارسلوا قواتٍ لدعمنا في مكان ما من العالم، مثل العراق، أو صوّتوا معنا في تصويت الأُمَـم المتحدة المقبل”.
ولا تكتفي الولاياتُ المتحدةُ بذلك، بل -كما يعترف جون بريكنز- إن القتلة الاقتصاديين يقومون بعد ذلك؛ بعرض إعادة تمويل الدين ودفع المزيد من الفائدة، وهو ما يعني أن على أهل البلد أن يبيعوا مواردهم للأَمريكيين، بما في ذلك خدماتهم الاجتماعية وشركات المرافق، وأحياناً النظم التعليمية ونظام عقوباتهم، وبالتالي فإنه ثنائي ثلاثي رُباعي الضربة.
من هم القتلة الاقتصاديون؟
يُعرِّفُ جون بركينز القتلة الاقتصاديين بأنهم قتلة محترفون، يقبضون أعلى الأجور، ليبتزّوا رؤساءَ الدول في شتَّى أنحاء العالم، ويسرقوا مليارات الدولارات منها. وكان بيركنز نفسُه أحدَ هؤلاء القتلة، جنّدته (سي آي أيه) سِـرّاً، وعمل معها تحت غطاء عمله في شركة استشارية دولية، فزار أندونيسيا وكولومبيا وبنما والإكوادور والسعودية وإيران وسواها من الدول التي تمتلك أهميّة في الاستراتيجية الأميركية.
وقد بدأت مهامُّ هؤلاء القتلة في خمسينيات القرن الماضي، كما يقول بركينز، وذلك في إيران حين بدأ رئيس الوزراء حينها محمد مصدَّق بسياسة تأميم النفط لكي تُنفَقَ عائداته على الشعب الإيراني وشرع بمطالبة شركات النفط العالمية بدفع حصّة أَكْبَر للإيرانيين أو مغادرة إيران، وقد دفع هذا الولايات المتحدة لإرسال أشخاص إلى إيران، من بينهم حفيدُ الرئيس روزفلت، يحملون ملايين الدولارات، وسرعان ما استطاع تنظيم مظاهرات بدت كأنها شعبية تطالِبُ بالإطاحة بمصدق بينما لم يكن مَن نظّمها سوى عدد من الأشخاص الإيرانيين.
وبذلك تمت الإطاحة بمصدَّق ووضعه رهنَ الإقامة الجبرية وإعادة الشاه المخلوع إلى الحُكم وإعادة عمل الشركات النفطية الدولية. وقد أدرك المسؤولون الأَمريكيون بعدَها كيف يعملون للهيمنة على العالَم.
الاغتيالُ الاقتصادي للأُمَـم
صدر كتابُ الاغتيال الاقتصادي للأُمَـم لجون بركينز عام 2004 بأَكْثَر من ثلاثين لُغةً، من بينها العربية التي صدر بها عن دار الكناني بالقاهرة، ويتضمن الكتاب أربعة أجزاء وخمسة وثلاثين فصلاً، يتحدث فيهَا المؤلف عن نماذجَ حية لعمل قراصنة الاقتصاد في بلدان عديدة، من بينها الإكوادور وغواتيمالا وبنما والعراق وإندونيسيا، كما يتناول عدداً من الأساليب والوسائل المستخدَمة مع الدول والشعوب، كالحكم الرشيد وتحرير التجارة وحقوق المستهلك، وقد تعرض المؤلف لتهديدات كَبيرة من الإدارة الأَمريكية حين عرفت عزمَه على إصدار الكتاب، كما تلقى الكثير من الرشاوى ورفضت الكثيرُ من دُور النشر طباعتَه.
* من أجل الهيمنة الاقتصادية على العالَم تستخدم أمريكا رجالاً يتقاضون أموالاً عالية فإذا فشلوا تستخدم ثعالِبَ الاستخبارات فإذا فشلوا تستخدم الجيوش
وقد تساءل المؤلف في مقدمة كتابه كيف تنوحُ أَمريكا على ثلاثة آلاف مواطن قُتلوا بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وفي كُلّ يوم يموت 24 ألفَ مواطن؛ لأنهم لا يجدون من الطعام ما يسُدُّ رَمَقَهم.
وحيثُ لن نستطيعَ في هذا العرض اختصارَ جميع ما ورد في الكتاب فإننا سنكتفي بالمقدمة، وسيتم عرض فصول الكتاب في حلقات متتالية تباعاً؛ وذلك ليتم التعرف عن قرب على دور الشيطان الأَكْبَر وخطورته في المنطقة وليتم معرفة أسباب عدوانه على اليمن وأهدافه من هذا العدوان.
يوضح القاتل الاقتصادي جون بركينز، أن مهمتَه كانت تشجيع زعماء العالم ليصبحوا جزْءً من شبكة اتصالات واسعة تروّج لمصالح الولايات المتحدة الأَمريكية، وفي النهاية يقع هؤلاء الزعماء في شراك شبكة الديون لضمانِ خُضُوعهم لأَمريكا، ويتم الاعتماد عليهم لإشباع رغباتها السياسية والاقتصادية والعسكرية.
ويمضي بركنز في الحديث فيقول: والآن لنرى نتائجَ هذا النظام -أي نظام الهيمنة الاقتصادية- تسري وتنتشر, فإن كبارَ الإداريين في أَكْثَر شركاتنا احتراماً يسخّرون العمال بأجور العبيد ويجعلونهم يعملون تحت ظروف غير إنْسَانية في ورش العُبودية في آسيا. وتضُخُّ شركاتُ البترول السمومَ في انهار الغابات الاستوائية لتقتلَ البشر والحيوانات والزرع, وأما الصناعاتُ الدوائية فإنها تمتنعُ عن تقديم ما يتوجَّبُ عليها من الأدوية في هذه البلدان كي تنفذَ ملايين المصابين بمرض الإيدز وحتى في بلادنا في أَمريكا فإن هناك اثني عشر مليون عائلةً لا تعرف كيف ستدبّر وجبة طعامها التالية. ص19
الكوربوقراطية واستنزاف الشعوب:
يؤكد بركينز أن هذا النظام أو ما أسماه بالكوربوقراطية تستخدم كُلّ قوتها المالية والسياسية لتتأكدَ أن مُؤَسّساتها من المدارس وقطاع الأعمال والإعلام تساند رغباتها المتوحِّشة في جعل العالم إقطاعاً تابعاً لها.
ويضيف: لا يكوّنُ أعضاءُ الكوروبوقراطية مؤامرةً أو اتفاقاً جنائياً، ولكنهم يتبنون بعض القيم والأهداف المشتركة، وأهم وظيفة لهم هي الإبقاء على هذا النظام (عدتهم وعتادهم، قصورهم، يخوتهم، وطائراتهم الخَاصَّة). كنموذج يُحتذى به لنسعى جميعاً لأن نستهلك ونستهلك ونستهلك. ص20.
ويشير بركينز إلى طرق هذه الجماعات التي تمثل أساس النظام الأَمريكي، حيث تعتمد على أشخاص كبركنز يتقاضون مرتبات خيالية لترويج هذا النظام، فإذا فشلوا يبدأ الثعالُبُ في تكملة الطريق أي رجال (سي. آي. أيه)؛ وذلك لتنفيذ عمليات الاغتيال للرؤساء والزعماء المعارضين تسليمَ بلدانهم للولايات المتحدة، منوهاً إلى أنه في حال فشل الثعالب فتتدخل الجيوش، وهذا ما سيُبَيِّنُ بركينز نماذجَه في الفصول التي سيتم عرضُها تباعاً في الأعداد القادمة.
وبالإشارة إلى تصدير الكتاب، فقد تناول الكتابُ دولةَ الإكوادور كنموذج حي لما ألحقته بها سياسة الولايات المتحدة الأَمريكية، حيث يقول: بسبب ما فعلتُه أنا وأمثالي من القراصنة ساءت حال الاكوادور كَثيراً عمّا كانت عليه قبل أن نسحبَها إلى معجزات الاقتصاد الحديث والبنوك والهندسة، فمنذُ عام1970، وخلال الحِقبة التي عُرِفت – تجَوُّزاً –بمرحلة الازدهار البترولي، ارتفعت نسبة الفقر من 50 إلى 70 بالمائة، وازدادت البطالة من 15 إلى 70 بالمائة، وَزادت الديون العامة من 240 مليون دولار إلى 16 مليار دولار، في الوقت نفسه، تدنّت حصة الطبقات الفقيرة من المصادر القومية من 20 بالمائة إلى 6 بالمائة.
-
بسبب “الاستثمار” الأمريكي في الإكوادور، ازدادت البطالةُ من 15 إلى 70 بالمائة، وَزادت الديون العامة من 240 مليون دولار إلى 16 مليار دولار، وتدنّت حصة الطبقات الفقيرة من المصادر القومية من 20 بالمائة إلى 6 بالمائة
ويضيف: للأسف ليست الاكوادور استثناء، فتقريباً كُلّ بلد وضعناه – نحن قراصنة الاقتصاد – تحت مظلة الامبراطورية العالمية واجه المصير نفسه. فمنذ عام 2004 بلغت ديون العالم الثالث أَكْثَر من 5ر2 تريليون دولار، كما يمثّلُ عبءَ خدمة الديون أَكْثَر من 375 مليار دولار سنوياً، وهو أَكْثَر مما يمكن أن ينفقَه العالم الثالث على الصحة والتعليم، وأَكْثَر عشرين مرة مما تتلقاه البلاد النامية سنوياً من معنويات أجنبية.
إن أَكْثَر من نصف سكان العالم يعيش على أقل من دولارين في اليوم، وهو تقريباً المبلغُ نفسُه الذي يعيشون به منذ بداية السبعينيات. وفي الوقت نفسه، فإن 1% من الأسر في العالَم الثالث تحصلُ على (70 إلى 90) بالمائة من الثروات والممتلكات الخَاصَّة في بلادهم، وتعتمد النسبة الحقيقية على طبيعة كُلّ دولة.