أبعادُ الصراع الخليجي
علي العماد
رُبَّما لعبت قطر، خلالَ العقدَين الماضيين، دوراً في السياسة الخارجية يفوقُ حجمَها المتواضع… وبعيداً عن قناعتنا الكاملة بأنَّ دولة قطر لم تكن يوماً في صَـفّ اليمنيين كيمنيين، وإنما سَعَت إلى زَرْعِ جماعاتٍ لها ارتباطاتٌ عضوية بها، وعلى رأسهم الإخوانُ المسلمون؛ من أجل تمكينهم في اليمن.
وبعيداً عن كُلِّ ما تسبّبت به السياساتُ القطرية من خلق حالة تنافُر مع الشعوب والأنظمة الحاكمة في المنطقة، دعونا نقرأ الأزمة التي تحدِقُ بها وبدول الخليج والمنطقة، قراءة خالية من الشوائب، وهو ما يعني أن نبحَثَ في عمق الحدث؛ كي تتبينَ لنا حقائقُ وأبعاد ما يحدث اليوم من صراع مصحوب بمواقف متشنجة بين دول الخليج.
ربما الكثير يتساءل: لماذا ظهر الصراعُ الخليجي في هذا التوقيت الحساس؟!، خَاصَّـةً أنه جاء بعد ثلاث سنوات من المواجهة بين قطر وثلاثة من جيرانها (السعوديّة، والإمارات، والبحرين)، ولكن منذ ذلك الحين، زار الشيخُ محمد بن زايد، الدوحة، مرات متكررة، كما أن قطر أرسلت 1000 جندي للمشاركة في العدوان على اليمن في سبتمبر 2015، وهذا ما جعل الكثيرين يعتقدون أن الاضطرابات التي حدثت في عام 2014 كانت شيئاً من الماضي.
وربما هذا ما يجعَلُ السؤال يبدو منطقياً، فماذا تغيّر إذن؟!، ولماذا اندلع النزاعُ فجأةً، وكما لو أنه كان بركاناً خامداً، انفجر مرة أُخْـرَى، وبهذه الطريقة المتشنجة التي وصلت حد تجاوز كُلّ المحرمات والأعراف السياسية.
لكن، أعتقد أنه وبناءاً على معطيات الأزمة، نجد أن محورَ الارتكاز في هذه الأزمة، هو الرئيسُ الأمريكي دونالد ترامب، فالأزمةُ اندلعت عقبَ زيارته للمنطقة، وربما كواحدة من نتائج مخرجات قِمَم الرياض، وما تلاها من أحداث متشنجة مصحوبة بعنجهية مفرطة، من قبَل ملوك السعوديّة، والتي جسّدتها المقاطعة السياسية والحملة الإعلامية السعوديّة الإماراتية، والتي جاءت متزامنة مع حدث رفيع المستوى في واشنطن، حيث طرح المسؤولون الأمريكان الكبار السابقون شكوكًا حول موثوقية قطر كشريك أمني إقْليْمي.
هنا يمكن لنا أن ندركَ بعضَ خيوط هذه الأزمة، ففي الحقيقة أمريكا تحكمُها مُؤَسّسة وليس أشخاص، ومن خبث المُؤَسّسة الأمريكية الحاكمة، أنها اختارت أقوى دولتين في المنظومة الخليجية، وبغض النظر عن نسبة التفاوت من حيث القوة بين السعوديّة وقطر، ولكنهما في الحقيقة تمثلان الدولتان الرئيسيتان في المنظومة الخليجية من حيث امتدادهما السياسي وعلاقاتهما الإقْليْمية والدولية، كما أن (السعوديّة وقطر) استندت على علاقاتها المتينة مع الولايات المتحدة الأمريكية، على اعتبار أنها الراعي الرسمي لكلا الدولتين. وربما أن هذا ما جعل من الحضور (السعوديّ القطري) أَكْثَر قوة من غيرها من بقية الدول الخليجية، فالإمارات مثلا، لا تتمتع بالحضور الذاتي الذي يمكن أن نقارنه بما حظيت به السعوديّة أَوْ قطر، ويعتبر امتدادها الجيوسياسي استراتيجية أمريكية، أما بقية الدول الخليجية، بعيداً عن المساحة والسكان، فإن حضورهم السياسي والدولي ضَعِيف.
أعتقد أن ما يجعل من الصورة أَكْثَر وضوحاً، هو أن نضع (السعوديّة وقطر) في ميزان المقارنة، حيث سنجد السعوديّة قد استمدت قوتها الإقْليْمية والدولية والسياسية، ليس من قوتها كدولة، ولكن لارتباطها بالمصالح الدولية، وخَاصَّـة الأمريكية، ولذلك، فإن قطر اعتمدت في قوتها ونفوذها أيضا، على ذات الطريقة، وهو ما جعل قطر تبدو في الخريطة الإقْليْمية كلاعب يتنافس مع قوى إقْليْمية أكبر منها بكثير، حيث استكملت قطر دورها بأجندة دبلوماسية طموحة. ففي أوائل العقد الماضي أظهرت قطر نفسها على أنها الوسيط الرئيس في الصراعات الإقْليْمية، والتي تشمل الصحراء الغربية وليبيا ودارفور وفلسطين ولبنان واليمن وإثيوبيا وإريتريا. كما أقامت قطر علاقات عمل مع إسرائيل وكذلك مع أعدائها المعلنين إيران وحماس وحزب الله. وقد خدم هذا الموقف “المحايد” العديد من المصالح القطرية. إذ ساعد في بناء العلامة الخَاصَّـة بقطر كصديقة للجميع في المنطقة.
شكلياً، ظهر الخلافُ والتبايُنُ بين السعوديّة وقطر على المستوى الإقْليْمي، حين سارت السعوديّة، في مضمار الدول الرافضة للثورات العربية أَوْ ما يسمى “الربيع العربي”، مثلها مثل مصر، وغيرها من الأنظمة والأحزاب الحاكمة في كثير من الدول العربية، وفي المقابل كان لقطر علاقاتها مع الأحزاب والجماعات السياسية التي تشكلت عقب الربيع العربي، بالإضَافَة إلى تركيا وبعض الأجنحة الليبية، وربما أن قطر خسرت إلى حدّ كبير كُلّ ما كانت قد بنته من حيث الصدقيّة كدولة محايدة وعلى علاقة جيدة مع الجميع خلال الثورات العربية.
على مستوى المنطقة والأيديولوجيا الدينية، نجد التنافس والحضور السعوديّ القطري متشابه إلى حد ما، فعلى مستوى الجماعات المتطرفة مثلا (داعش والقاعدة) لكليهما حضورا ملموسا في أجندتهما، وإن بنسب متفاوتة، ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى مثل هذه الجزئية المهمة والتي تلعب دوراً رئيسياً وهاماً جدًّا في الصراع، خَاصَّـةً وأن السعوديّة وقطر ليستا قواتهما قائمتين لكونهما دولتين قويتين، فبالإضَافَة إلى القوة السياسية التي اكتسبتها الدولتان من أمريكا، تعتمد (السعوديّة وقطر) على الأدوات الدينية والمجتمعية، فكلتا الدولتين يمتلكان وبوفرة مخزوناً بشرياً، فمثلما تمتلك السعوديّة الجناح الوهابي المسلح (داعش والقاعدة) فإن قطر تمتلك جناح الإخوان المسلمين المسلح (القاعدة وجبهة النصرة) والمليشيات المسلحة في عدد من الدول العربية مصر، وليبيا، واليمن وغيرها.
أعتقد أنه ضمن هذه المعادلات السياسية المعقدة، يمكننا وصف ما يحدث من أزمة بين دول الخليج، اليوم، بأنه (صنع في واشنطن)، فالمُؤَسّسة الأمريكية هي من رأت أن يتم إيقاد شعلة الخلاف بين قطر من جهة، والسعوديّة والإمارات والبحرين، من جهة أُخْـرَى، والواضح أن المُؤَسّسة الأمريكية الحاكمة، بعد أن وجدت المنطقة وصلت إلى ذروة الصراع (السّني الشيعي) الذي أوقدته واشنطن وتل أبيب، وألقت بمئات الآلاف من العرب والمسلمين في محارقه، وقذفت بعدد من الدول العربية التي تم تدميرها في سعير هذا الصراع الذي رأت المُؤَسّسة الأمريكية، أن تدعمه بنيران أُخْـرَى، في بقية الدول، وخَاصَّـة الدول التي ليس فيها صراع كدول الخليج العربي، وهنا عمدت على تحريك الصراع بين السعوديّة وقطر لعلمها بما تربض فوقه الدولتان من براكين لصراعات خاملة وبغرض المضي قدما في مخطط تقسيم المنطقة جغرافيا ومنها السعوديّة على وجه الخصوص.
أعتقد يقيناً أن أمريكا لن تسمحَ بنشوب حرب عسكرية بين (قطر والسعوديّة) وذلك تحت مبررات دولية، ولكنها ستكتفي بفتحِ شهيتهما من خلال التصريحات الإعلامية واللعبة السياسية، وستتأرجح بين الطرفين، مستغلة حالة العنجهية المفرطة والجهل والكبر السياسي لدى أمراء الخليج، والذي تجلى في حالة الخصومة القبيحة بينهما، ولذلك، ستحرص واشنطن أن تكون حدود الأزمة والصراع سياسية وإعلامية واجتماعية، من خلال الاضطرابات وحالات من التمرد وثورات داخلية، وبمعنى أوضح أنها ستوقد صراعا حقيقيا بين الإخوان المسلمين والسلفيين، هكذا مثلما أشعلت حربا بين الشيعة والسّنة.
السؤالُ الأبرزُ هو: إلى متى سيظلُّ العربُ والمسلمون عموماً، وقوداً لكل الصراعات التي توقدها أمريكا؟!.. ومتى سيفيق العرب من غفوتهم وسُبْاتهم اللعين؟.