عن حرض وتهامة وجريمة الجرائم السعوديّة
محمد عايش
قبل العدوان كان تعدادُ سكان مدينة حرض 120 ألف نسمة..
وبعد العدوان صار تعداد سكان مدينة حرض صفر نسمة..
هذه إحدى أكبر الجرائم السعوديّة المهملة.. المنسية.. المسكوت عنها، أَوْ غير المطروقة عند الحديث عن الكوارث الإنسانية التي أنجزها العدوان في اليمن حتى الآن.
إنها جريمة التهجير القسري، لمئات آلاف السكان، وباستخدام المذابح الجماعية المتعمدة، والتدمير الواسع والممنهج.
زرتُ حرض ثاني أيام العيد، دون أن أدريَ بأني على موعدٍ مع زيارةٍ سترافقني نتائجها القاسية، لا بد، حتى نهاية عمري.
المدينةُ الأكثر نمواً والأسرع توسعاً وعمراناً بين المدن اليمنية..
المدينة الوحيدة، بين مدن اليمن، التي لا تنام ليلاً..
المدينةُ الضاجّة بالحياة، المحتفلة بالناس من كُلّ أنحاء اليمن..
المدينة الشريان، والتعب، والأحلام والسفر والغربة والبضائع والطموحات..
صارت ركاماً، بعضُه فوق بعض، لم يعد يسكنها آدمي، ولم يعد بإمكانك أن تسمع فيها غير همس الريح وأزيز الطائرات الحربية التي لا تتوقف عن التحليق فوقها طوال اليوم.
بقصد التهجير القسري، ومنذ بداية العدوان، ضربت السعوديّة كُلّ شيء، وحين أقول كُلّ شيء فإني أعني كُلّ شيء: ليس في المدينة مبنى واحد إلا وهو مدمر كلياً أَوْ جُزئياً.
قصفت السعوديّة حرض عمارة عمارة، بيتاً بيتاً، فندقاً فندقاً، مطعماً مطعماً، مستشفى مستشفى، سوقاً سوقاً، محطةً محطةً، حتى تركت مدينة المائة وعشرين ألفاً كُوٓماً متناثرة من الإسمنت والتراب.
ولم تكن حرض وحدها المستهدفة، بل منطقة شمال تهامة اليمنية بكاملها، حيث طالت جريمة التهجير القسري، مدينة أُخْـرَى أصغر، هي مدينة ميدي التي صارت مدينة أشباح هي الأُخْـرَى. إضافة لمئات القرى هناك.
لا بد أن العدوان رسم بين أهدافه منطقةً خاليةً من السكان بعمق 40 كيلومتراً على الأقل (المنطقة الممتدة من الطوال حتى قريب من عبس شرقاً ومن حدود الموسم السعوديّة إلى نهاية ساحل ميدي غربا وجنوباً، وكل القرى والأسواق في هذه المساحة)، وذلك تمهيداً لاحتلالها وخلق واقع “حدودي” أَوْ “أمني” جديد، أَوْ لتحويلها لمسرح عمليات مفتوح في الداخل اليمني ضد اليمنيين.
وفِي التنفيذ كانت الوسيلة الوحيدة هي المذابح الجماعية.
في البداية كانت جريمة استهداف مخيم المزرق، مخيم النازحين الواقع بين حرض وبين الحدود مع السعوديّة، وقد أدى ذلك إلى إنهاء المخيم وانتقاله.
بعد ذلك، وبالتزامن مع القصف اليومي، السجادي، داخل حرض، انطلقت سلسلة الجرائم الجماعية الأُخْـرَى، حوالي حرض وما بعدها:
جريمة سوق مثلث عاهم.
جريمة سوق مستبأ.
جريمة سوق حيران.
جريمة سوق أبو طير.
وبقية الجرائم التي تعرفونها جميعاً، وقد حان الوقت لنضعها جَميعاً في الصورة الكاملة لما أرادت السعوديّة أن تصل إليه من خلال هذه الجرائم.
عشرات القرى المتناثرة في هذه البقعة استُهدفت، واضطرت مثلها مثل حرض وميدي والأسواق الشعبية، إلى النزوح عن بكرة أبيها، ليتكون قريباً من عبس ما يمكن أن يكون أكبر مخيم للنزوح القسري في الشرق الأوسط.
وغير المناطق المأهولة؛ مئات المزارع تم سحقها بالطيران، لم يتركوا مزرعة ولا ارتوازا، حتى لقد استخدموا القنابل الفوسفورية لإحراق مزارع كاملة.
هكذا خلقوا مساحة شاسعة من الفراغ القائم حتى اللحظة، وإلى كُلّ هذه المنطقة لا يستطيع أحد الدخول، حيث الطيران يقصف كُلّ ما يتحرك على الأَرْض حتى لو كان فردا واحداً (دخلتُ رفقة مقاتلين في الحدود بتمويهٍ وتحين مرهق للفرص النادرة والقصيرة لتوقف الطيران).
120 ألف إنسان هُجّروا من حرض وحدها (ما يقارب تعداد سكان دولة خليجية كاملة كقطر، بدون الأجانب). وضعف هذا الرقم على الأقل هُجّروا من ميدي والقرى المجاورة والمابين المدينتين.
وبالطبع لم تبنِ السعوديّة على جريمتها هذه (والتي لا بد ستصدم العالم حين تتكشف له معالمها) أي شيء؛ لأنها في النهاية عجزت، ولا زالت عاجزة حتى اللحظة، عن اقتحام المنطقة عسكرياً.
وعلى العكس فقد اقتحم المقاتلون اليمنيون أراضيَ سعوديّة ولا يزالون يحتلون بعضها كقرية الحثيرة.
لصمود ميدي وحرض الأسطوري قصة أُخْـرَى، شئت أن أبدأ فقط بتبيان حجم الجريمة قبل الكتابة عن الإعجاز الواضح في مقاومتها.
تدمر السعوديّة كُلّ حياةٍ في مناطق شمال تهامة اليمنية، متسلحةً بـ100 عامٍ من العدائية والوساوس والارتياب والغطرسة تجاه اليمن.
ويواجه فظائع جرائمها مقاتلون يمنيون متسلحين بذاكرة 100 عام من الشعور بالقهر والظلم ومرارة الاستعلاء والغطرسة.
هذا ما أستطيعه من تلخيصٍ لمعركة السعوديّة ومعركتنا معها في تهامة.. في حرض وميدي تحديداً.
ودعونا اليوم نظل في الشق الأول من الموضوع؛ شق الجريمة الكبرى وأهدافها:
قطعاً، ونزولاً عند كُلّ الشواهد، لا علاقة لما يفعله السعوديّون هنا بأي عنوان من عناوين العدوان المسمى “عاصفة الحزم”.. لا علاقة له بالشرعية ولا بالانقلاب ولا بالحوثيين ولا بصالح ولا بإيران ولا بروافض ولا بمجوس ولا بأي عنوان آخر. بل له علاقة مباشرة بكراهية السعوديّة لليمنيين، وبشكلٍ أخص: له علاقة بوساوسها الأمنية الدائمة تجاه الحقائق الديمغرافية في اليمن.
يرعب حكام السعوديّة أن يكون لديهم جار بهذه الكثافة السكانية، ويرعبهم أكثر أن يتمركز جزء من هذه الكثافة، ويتنامى، في منطقة هي على تماس مباشر مع خطهم الحدودي (يشمل هذا كامل الخط الحدودي والمدن القريبة منه مثل صعدة والجوف ولكن محو حرض وميدي يبدو للسعوديّة هدفا في المتناول في الوقت الحالي عكس غيرهما).
مدينة حرض كانت تنمو بسرعة قياسية، حركة العمران فيها باتت تتمدد حتى داخل الجانب اليمني من المنطقة العازلة بين الحدود.
ولو استمر الحال بضعة سنوات أُخْـرَى، فإن مدينة الترانزيت هذه، أو الميناء البري هذا، لربما كان سيتحول إلى واحد من أكبر التجمعات السكانية في اليمن.
تخيلوا حرض وقد أَصْبَحت مدينة تيخوانا، خامس أكبر مدينة مكسيكية سكانا وأكثرها تسبباً للأمريكيين بالأرق، لقربها من الحدود الأمريكية.
الرياض لا تريد نسخة يمنية من تيخوانا المكسيكية على حدودها، فضلا عن عدم رغبتها في بقاء أي تجمعات سكانية صغيرة متناثرة قرب الخط الحدودي.
ولذلك، وربما على مدى عقود، لم تكن تنتظر إلا المناسبة المواتية لتمحو أي وجود سكاني هنا، بضربة واحدة، وإلى الأبد.
هكذا ومن أول يوم للعدوان، وقبل أن تتشكل لأنصار الله أو لأي طرف يمني أية جبهة عسكرية أو أي وجود قتالي في المنطقة، بدأت السعوديّة بمحو المدن والقرى والأسواق والمزارع بآلاف الصواريخ وأطنان القنابل.
في الأربعين يوماً الأولى من العاصفة كانت الحرب هنا، كما يعرف الجميع، من طرف واحد. إذ لم يبدأ الطرف اليمني بتشكيل جبهة حدودية والرد على العدوان إلا بعد هذه المدة.
ما هي الحرب التي تشن من طرف واحد وتمحو مدناً وقرى كاملة؟!
ليست غير حرب مبيّتةٍ من عشرات السنين وبنوايا الاقتلاع والاجتثاث النهائي لمئات آلاف السكان.
لم تعد حرض ولا ميدي مدينتين صالحتين للحياة ولا لإعادة الإعمار في حال توقفت الحرب، وهذا هو الهدف السعوديّ (حتى حين ينتصر الضحايا هنا فإنهم سيضطرون لبناء مدينة بجوار المدينة حيث الكلفة ستكون أقل، ولا حل آخر، لتظل حرض المدمرة شاهدة مدى الدهر على أسوأ فرعنة، وأَلْعَن انحطاط، شهدته الجزيرة العربية طوال تأريخها).