ثقافةُ المقاومة.. من الواقع إلى النص: قراءةٌ في زامل (إلى الجبهات رَبّي يناديني) للشاعر/ عبدالسلام المتميّز
صدى المسيرة| إبراهيم الهمداني:
ترى إحْـدَى نظريات الأدب أن الأدبَ في ماهيته لا يعدو كونه انعكاساً مراوياً (حَـرْفياً) للواقع الذي يصدُرُ عنه والبيئة التي ينتمي إليها؛ ذلك لأن الفردَ المبدعَ كائنٌ اجتماعيٌّ بفطرته يعيشُ همومَ مجتمعه وقضايا واقعه وزمنه ويتفاعل مع كُلّ ذلك فيؤثّرُ ويتأثَّرُ ويفكر ويعبّر ويبدع بلسان حال واقعه ومشاكله ومعاناته ومخاوفه، وبذلك فهو يعكسُ في إبداعه واقعَه المعاش بكل تفاصيله لا يحيد عنها ولا يزيد عليها.
وهذه النظرة بأحكامها العامة المطلقة تجعلُ من الأدب والإبداع بشكل عام مجرَّدَ وثيقة تأريخية محضة، شأنُها شأنُ كتب التأريخ وسردياته، ولكنها على ما فيها من التعميم المُجحِفِ لا تخلو من صحة بعض جوانبها، خَاصَّـة في انتماء الأدب لواقعه ومحيطه وبيئته، التي يجبُ أن يصدُرَ منها ويعبر عنها، وإلا لَكان غريباً وهجيناً وغيرَ مستساغ لدى أحد من أَبْنَاء مجتمعه؛ لأنه لا يلامس هوىً في أنفسهم ولم يحرك مشاعرهم ولم يقم علاقته بهم على أي رابط حقيقي.
وفي الجانب المقابل لنظرية الانعكاس (المراوي) تقفُ نظريةُ الخيال التي ترى ماهيةَ الفن والأدب في كونه نتاجاً خيالياً محضاً؛ باعتبار مصدرَ انتاجه واعتماده على المشاعر والأحاسيس والتخييل، وأنه يجبُ أن لا يعبِّرُ بالضرورة عن الواقع، وبين هذا وذاك يمكن القول إن الأدبَ عامة والشعر خَاصَّـةً انعكاسٌ في الواقع حيث أنه لا يمكن فصلُه عن واقعه أَوْ قراءته خارج سياقه الزمني والاجتماعي والثقافي، ولكن بالقدر الذي تسمح به مداراتُ تشكله ومجالات اشتغاله وطرائق تحققه ومعطيات تموضعه، بما يحقق صورة العلاقة التكاملية المتزنة بين الخيال والواقع، ليتسنى لنا القول بعد ذلك إن الشعرَ هو إعَادَة صياغة العالم من خلال اللغة، أَوْ هو رؤية العالم كما يجب أن يكون أَوْ كما تحلم الذات المبدعة تلك التي يجبُ أن نقرأَ نتاجها الإبداعي من منظور عام يتمثلُ في اندماجِها في مجتمعها وواقعها ومنظور خاص يُعنَى باستقلالها وتفرُّدِها في الوقت نفسه، وقد نُقل عن أرسطو قوله: إن الشعر أكثر أنواع الكتابة فلسفةً، وذلك لما فيه من العُمق والشمولية ولتجاوزه الفردي والمحلي، وعبوره حدود الذات في سعيه نحو الحقيقة وصولاً إلى الهَمِّ الجَمْعي والقضايا الإنْسَانية الكبرى؛ ولهذا يكتسب الشعر أهميتَه ومكانته بوصفه نتاجاً إبداعاً صادراً عن الفكر الإنْسَاني وداخلاً في عُمق تكوينه ومعبراً عنه.
وبما أن العملَ الإبداعيَّ -أياً كان جنسه- لا يعدو كونه تمثيلاً لجانبٍ من مخرجات التكوين المعرفي لدى الفرد ويتأسَّسُ هذا التكوين المعرفي بدوره على عدد من المدخلات المعقّدة والمتشابكة التي تشكّل في النهاية ما يمكن تسميتُه بالثقافة بمفهومها الواسع والشامل.
*******
احتلت ثقافةُ المقاومةِ حيّزاً كبيراً في مجال الإبداع والاشتغال النقدي والفكري، فعلاوةً علي كونها حالةً طبيعية فطرية أَصْبَـحت ممارسة اجتماعية سياسية فكرية تهدفُ إلى إثبات حق الذات في الوجود، ورفض سياسة الإلغاء والإقصاء والتهميش والاستلاب والقمع الممارَس ضدها من قبل الآخر.
تقومُ ثقافةُ المقاومة وحق الشعوب في الحرية والحياة على أَسَاس ثابت من الحق الإنْسَاني الخالص، إضَافَة إلى الاحتجاج بثبوته في كافة الأديان والشرائع والقوانين التي تنظّمُ علاقة الذات بالآخر في إطار من التكامل والتعاون، وعلى رأسها القُـرْآن الكريم بما هو دستور حياة، يحمل في طياته جميع الحلول لكافة المشاكل الطارئة على حياة الإنْسَان، وقد حظيت ثقافة المقاومة -بما هي فعل تحرري واعتقادي وسلوك- باهتمامه البالغ حتى جعلها الركيزة الأولى التي قامت عليها دعوةُ الحق على مختلف العصور والأزمنة، ورغم أهميتها الكبيرة إلا أنها غُيِّبت من ثقافة ووعي المجتمعات، خَاصَّـةً في العصر الراهن لتستعيدَ وهَجَها وحضورَها وقوتها على يد الشهيد القائد حسين بدرالدين الحوثي رضوان الله عليه، جاعلاً منها الركيزةَ الأَسَاسَ لمشروعه النهضوي الثقافي والقُـرْآني والذي يعد ثورة فكرية وثقافية وإنْسَانية لا تخص مجتمعاً من المجتمعات بل هي إلهيةُ المصدر إنْسَانيةُ الهدف بشريةُ الغاية، انطلاقاً من كون الدين عند الله الإسلام، وبذلك تحضر ثقافة المقاومة لتعيد بناء مكانة الذات وتحديد أبعاد علاقتها بالآخر، من منطلق الولاء والبراء بعد عقود من الزمن سادت فيها ثقافة الاستسلام والخنوع، حتى جاءت ثقافة الخروج على الظالم لتحطم تلك التصورات المغلوطة والعلاقات القائمة على الارتهان، وبالتزامن مع ذلك انتجت ثقافة المقاومة حالات إبداعية متميزة وقوية تجعلنا نتفقُ مع رأي ت. س. إليوت في كتابه فائدة الشعر ص ١٣٨ بأن الإبداع هو حالة “تحطيم حواجز قوية من العادة تميل إلى إعَادَة تشكيل نفسها بسرعة”.
استطاع النصُّ الشعري المقاومُ في اليمن أن يسجِّـلَ حضورَه الفاعلَ والقويَّ من خلال كونه استجابةً طبيعيةً لضرورة فكرية وتعبيرية أفرزها العدوان العالمي على اليمن وهذا أولاً، وثانياً لانبثاقه عن مفردات المشروع القُـرْآني التنويري ومعطياته من الثقافة القُـرْآنية، وثالثاً: لانتهاجه مساراً مقاوماً صريحاً لا يستجدي المستعمر عطفاً ولا ينتظر من السجان حرية، بل يتحدى ويقاوم ويناضل شامخ الهامة رافع الرأس حتى النصر أَوْ الشهادة، وهذا ناتج عن طبيعة مدخلات وعناصر ومفردات ثقافة الخروج على الظالم ذات النهج القُـرْآني.
وتتجلى تلك البُنَى والأبعاد والدلالات في هذا النص موضوع الدراسة الذي يعكس إضَافَةً إلى نصوص أُخْرَى أبهى مظاهر ثقافة المقاومة في تمظهراتها وأبعادها ودلالاتها المختلفة.
يتكوَّنُ النصُّ من ستة مقاطع كُتبت على هيئة الموشَّحات التي تتكوّنُ من مطلع وبيت وتوشيح وقفل، بتنويعات موسيقية رائعة، تبعَثُ في النفس الارتياحَ بالتنقل بين تنويعاتها، وهذا النمَطُ الكتابي ليس جديداً من حيثُ وجوده، بل من حيثُ توظيفه في سياق خارج سياق الموشح، وهذا يدل على تميُّز وقدرة المبدع والمنشد الرائع عيسى الليث:
(إلى الجبهات.. رَبّي يناديني
هدى الآيات.. بالنور يهديني
معه رحّال.. دروب طوال
وللجبهات رَبّي يناديني)
بتخصيص الغاية والهدف المُرَاد الوصول إليه ينطلقُ مطلعُ النص راسماً الكثيرَ من الأبعاد والدلالات، لعل أهمّها العلاقة بين المنادّي (رَبّي) الله تعالى، والمنادَى الذات المتكلمة، التي تلبّي النداءَ منطلقةً نحو الجبهات؛ لتجسيد أبهى صور مقاومة الطغيان عبر الجهاد المقدس في سبيل الله واستجابة لأمره وتنفيذاً لمشيئته ومراده، وتصل حالة التلازم بين الذات المتكلمة والآخر الله تعالى، إلى حالة من التشبع والمعية الدائمة، فعلاوةً على دلالات النداء وما يوحي به من حالة الحضور والسماع والاستجابة تظلُّ الذاتُ في حالة افتقار إلى هدى الله تعالى ونوره وطلب الهداية والتوفيق منه، رغم الاصطفاء المتحصَّـل دلالياً من فعل النداء وإعْلَان الاستجابة؛ لينتجَ عن علاقة التلازم، علاقة جديدة من الصُّحبة والمعية المتشكلة عبر الترحال لمسافات طويلة توحي بها دلالاتُ كلمة (رحّال) على وزن فعّال للمبالغة والتأكيد، ودلالات جُملة (دروب طوال) التي تصُبُّ في ذات السياق، ليأتي بعد ذلك التأكيدُ بتكرار الجُملة وتخصيصها (وللجبهات ربّي يناديني) دالاً على أن الجبهاتِ وإن كانت الغايةَ الأَسَاسَ والهدفَ الأولَ، إلا أن هناك محطاتٍ إضافيةً للجهاد قد تكونُ تزكيةُ النفس وتهذيبُها وتعليمُ الآخرين وتوعيتهم… إلخ، إحْـدَى تلك المحطات وتلك الدروب الطويلة التي يشملُها السفر، ورحلة الذات مع رَبّها في هذه الحياة.
(تركت البيت وعيالي
وطاب مع الله المسرى
وبِعت النفس والمالي
عسى الله يقبَل المشرى
طرقت الباب يا رب نجيني
من النيران وذنوب تخزيني
أحط أحمال.. ذنوب ثقال)
بعد أن حلقت الذات المتكلمة في مدارات إلهية ومسارات نورانية أفصحت من بعضها وأجملت البعضَ الآخر، في المقطع السابق، تعود في هذا المقطع؛ لترسم – بلغة الواقع- طبيعة فعلها الجهادي واستجابتها للأمر الإلهي؛ لتنتهجَ، من خلال التقريرية والمباشرة واللغة البسيطة، طريقاً من التبريرِ والتعليل المنطقي، الذي يجعلَ من الجهاد فرصةً لا تعوَّض ومناسبةً لا بد من اغتنامها، إذ يهون في سبيل الله ما يجب التخلّي عنه، وتركه (المال والأولاد) لتأكيد انقطاع كُلّ علاقة وتحت أي مسمى تربط الذات بهذا العالم، وتعيد تموضعَ ارتباطه مع عالم الخلود والبقاء، من خلال معطيات ذات معانيَ دنيوية، لكنها اكتسبت أبعاداً دلاليةً كبرى بعد توظيفها في السياق العلائقي الجديد (وبِعت النفس والمالي.. عسى الله يقبل المشرى)، وبعد ذلك البيع الخالص لوجه لله تعالى، والتماس القبول والرضى منه، ما تزال الذاتُ المتكلمة على وَجَلٍ وفي حالة دُعاء ورجاء متواصلَين؛ خوفاً من الذنوب وطمعاً في المغفرة وأنها بكل ذلك تسعى للتخفّف من أوزارها وأحمالها من الذنوب الثقال، متوسلةً لبلوغ ذلك المعنى البساطة في اللغة والصورة والأسلوب.
(أشوف أشلاء الاطفالي
وثكلى دمعها حمرا
أفز اتحزم الآلي
واحط النار في المجرى
ندق غزاة وطغاة ترميني
نصد انذال بالنار تكويني
نِهِب رجال.. قتال قتال)
يعرضُ هذا المقطعُ مشاهدَ كثيرةً تتسمُ بالدينامية والحيوية المتجلية في ردود فعل الذات المتكلّمة تجاه ما شاهده (أشلاء الاطفال، دمعة ثكلى) وما تشعُرُ به من الغيرة والحمية والغضب والمسارَعة لنجدة أولئك المستضعفين من النساء والوِلدان استجابةً للأمر الإلهي والواجب الإنْسَاني الأخوي، ومن خلال المشهد التالي الذي تتموضَعُ الذاتُ المتكلّمةُ في مركَزه سواء في رد الفعل الفردي (أفز اتحزم الآلي.. واحط النار في المجرى) أَوْ في رد الفعل الجماعي المتمثل في دلالات الأفعال (ندق، نصد، نهب) التي تشارك الذات المتكلمة في صنع تفاصيل حركاتها واحتشاد أفعالها وتواترها من خلال تحولها عن التموضع الفردي وما يمثله من خصوصية وتفرد للذات إلى التموضع الجمعي المتسم بطابع المشاركة والتعاون؛ نظراً لما تفتضيه طبيعةُ الموقف من رَدٍّ جماعي قوي ومؤثر وفاعل يكون له بالغُ الأثر على العدو، ويوازي حجمَ ما ارتكبه من مجازرَ وفظائعَ مهولةٍ بالمستضعفين، الأمر الذي يحتم على الذات ضرورةَ توحُّدها بالمجموع واندماجها فيه واشتغالها من خلاله، لتصل في نهاية هذا المشهد المقطع إلى حالة التماهي بالآخر المجموع قولاً وفعلاً (نهب رجال.. قتال قتال)، ناهيك عن ما تحمله هذه اللفظة من جماليات التعبير عن السرعة الفائقة، حيث يهب الرجال كهبوب الرياح واجتياحها لما في طريقها، وما تختزله لفظة (قتال قتال) من شدة استعار الحرب وعظيم بأسها ووطأتها ودلالات السرعة اللامتناهية في تجميع مفردات تلك المعركة البالغة الشدة والهول.
(أنا في سهل وجبالي
خوي الليلة الغدرا
وذكر الله على بالي
في السراء والضرا
أنا لله والله يحميني
ومعنا الله والله يكفيني
أشق رمال. وأدوس جبال”
تعود الذاتُ المتكلمة إلى حالة الفردانية المنسلخة من كُلّ اتصال أَوْ ترابط بشري؛ لتُعيدَ اتصالها الروحي والوجداني بالذات الإلهية، متخذةً من الترحال سبيلاً لبلوغ غايتها وتحقيق وَحدتها وحصول أُنْسِها بذكر الله تعالى في كُلّ الأوقات؛ لتتجلى مظاهرُ ذلك الاتصال الوجداني، بالله تعالى في إعَادَة الذات المتكلمة تموضعها من جديد “أنا لله والله يحميني” فهي مملوكة لله تعالى وهو حاميها، “ومعنا الله والله يكفيني” لتصنعَ من خلال هذه المعية صُحبةً جديدة دائمة لا تنقطع، ولا تنفصم عُراها، فاللهُ حاضرٌ فيها ومعها ومن خلالها هو حاميها وكافيها، ومن كان الله معه من ذا عليه؟!، في صورة تعكس اليقينَ بوعد الله والثقة المطلقة بالله تعالى، وهنا يصل المشهد إلى أروع تفاصيله، وأجمل لقطاته، حيث تنفتح النهايةُ على رحلة طويلة لا نهائية تقطعُ الرمال وتجاوز الجبال إلى ما لا نهاية، في صُحبة الله تعالى تلبية لأمره وتنفيذاً لمشيئته.
(رضا الله غاية آمالي
وهو يفرغ عَلَي صبرا
وهو في كُلّ الاحوالي
يجعل عسرنا يُسرا
بحول الله دُسنا الفراعيني
عبيد امريك خدام صهيوني
قعطنا أذيال.. عبيد المال)
مضت مشاهد الرحلة المقدسة في المقطعِ السابق راسمةً دلالاتِ المسار الأبدي والنهج الخالد الذي اختطته الذاتُ المتكلمة لنفسها في الحياة؛ لتأتي في هذا المقطع مفصلةً ما أجملت ومفسرةً ما غمض وأشكل، جاعلةً من اللفظات الثابتة في هذا المقطع المشهد دلالات لحقائقَ ثابتة ويقين راسخ وغاية لا محيدَ عنها، وتسليم مطلق لله تعالى الذي بيده الأمر من قبل ومن بعد، وله التفويض المطلق والحُكمُ الفصلُ في كُلّ تفاصيل ومجريات الحياة، لتصل الذاتُ المتكلّمة بخطابها التقريري المباشر ذروتَه، مؤكدةً في مضمونه توفيقَ الله وعونه وتأييد في النيل من الأعداء الفراعين، عبيد أمريك، خدام صهيون، عبيد المال” الذي لا يتجاوزون على كونهم أذيالاً وأدوات لتنفيذ مُخَطّطات شيطانية.
(مُحال مُحال ومحالي
أخون الدم والأسرى
بحلف سعود ما ابالي
ورَبّي قوَّته كبرى
ثقة بالله تملا شراييني
هدى القُـرْآن باحميه بعيوني
نهب رجال.. قتال قتال”
لا أظنُّ أن خاتمةً كانت تليقُ بهذا النص الإبداعي أكثر من هذه، حيث تصبح الذات المتكلمة فيها أكثرَ تجرُّداً وظهوراً وأكثر قوةً وفاعليةً وأبهى حضوراً، مؤكداً استحالةَ صدور الخيانة منها لدماء الشهداء والجرحى والأسرى، ومهما بلغت قوةُ حلف سعود ووحشيته، فهو لا يثيرُ الخوفَ ولا يجبُ أن يحصل، ذلك بحق مَن استمسك بالعُروة الوثقى واعتصم بالله تعالى واحتمى بحَوْله وقوته الكبرى، في حالةٍ مذهلةٍ من الثقة المطلقة واليقين الذي لا يتزعزعُ، وعلاوةً على ذلك لا تنفك الذاتُ المتكلمةُ تذكّر بتمسكها بالنور الإلهي المتضمن سر قوتها وسعادتها ونجاحها وفلاحها في الدارين (هدى القُـرْآن باحميه بعيوني)، وما تلبث الحركة والحياة أن تهبَّ في آخر هذا المشهد، جاعلةً من النص حلقةً دائريةً مفتوحةَ النهايات؛ ليستعيدَ زحَمَ حركته وحيويته بمشهد الاكتساح الطاغي المتمثل في الهبوب، والتواتر اللفظي المتتابع بدون حرف عطف أَوْ علامة ترقيم حتى؛ ليدل ذلك على الاتصال الدلالي وتعانق نهاية النص المفتوحة مع بدايته كما هو الحالُ بالنسبة لمفردات هذا العدوان وطبيعة مقاومته والتصدي له.
لعل أهمَّ ما يميّزُ هذا النص – رغم خطابيته ومباشرته- هو أنه انطلَقَ من الواقع بصدق، وعبّر عنه بكل ممتلكاته التعبيرية بعيداً عن صناعة الصورة أَوْ انتقاء اللفظ أَوْ تنقيح العبارة، تجلت فيه صورُ الارتباط بالله تعالى، وطبيعة العلاقة المتحصَّلة بين الذات المتكلمة وبينه، وجاء المقطع الأخير ليكتبَ الخاتمة ويرسُمَ ملامحَ الصراع وطبيعته وموقف الذات من كُلّ مفردات العدوان الأمريكي السعودي وتحالفاته، ورؤيتها لهذا العالم الذي تواطأ على اغتيال الإنْسَانية جماعياً، وتصوّرها الخاص لنهاية هذا الصراع الذي لن تحسمَه إلا الإرَادَة القوية والثقة بالله مطلقاً واتباع نهجه أبداً، وتوحيد الصف والصدق مع الله ومن ثم مباغتة العدو وشلّ حركته والهجوم عليه واكتساحه بشدة وقوة.
يضافُ إلى قيمة النص الأدبية قيمتُه التأريخيةُ واختصاصُه بتجسيد مفردات ثقافة المقاومة واحتشاده بمُعطيات الثقافة القُـرْآنية وتوظيفها بوعي وإدراك صحيحَين، الأمر الذي جعل النصَّ رغم بساطته – على كافة المستويات- ممتعاً جداً وذا قيمة إبداعية أدبية وتأريخية.
إضَافَة إلى ذلك استطاع المنشدُ عيسى الليث أن يمنحَ النصَّ أبعاداً جماليةً ضافيةً من خلال اللحن الرائع والتنويعات الموسيقية البديعة، التي انسجمت مع النص حتى غدت جُزءاً لا يتجزّأُ منه، كما أن المونتاجَ الذي أبدع تفاصيلَه المتألقُ هاني الذيباني أَصْبَـح نَصّاً موازياً للنص الأصلي بامتياز، إذ استطاع توظيفَ المادّة الفيلميّة والفوتغرافية بطريقة سلسلةٍ وأكثرَ من إيجابية؛ وبذلك أَصْبَـح من المجازفة دراسةُ النص المكتوب فقط، بل يجب دراسة العمل الفني في كليته النصية والموسيقية والتصويرية التي أَصْبَـحت من ضمن الداخل النصي.