خياراتُ صالح وخياراتُ الثورة .. مفترَقُ طُــرُق
صلاح الدكّاك
إذا كان المديرُ التنفيذيُّ الأمريكي قد دشّن عدوانَه على اليمن بغطاء إقليمي عربي ومن ثَمَّ باشر هذا التحالف “العربي” عملياته العسكرية بغطاء ذرائعي محلي اسمُه “الشرعية”، فإن إنهاءَ هذا العدوان بعد فشله عسكرياً مع تمرير مشروعه تعوزُه لافتةٌ وذريعةٌ وأداةٌ لم تتلوثْ في الظاهر بتأييد العدوان، وَهنا تبرز الحاجةُ إلى مؤتمر الداخل بقيادة علي صالح بوصفه الأداةَ الأمثلَ لهذه المهمة.
كان معلوماً منذ البدء أن المقاربة الثورية الجذرية الرافضة للهيمنة الأمريكية على اليمن والتي يتبناها الأنصار والقوى الشريفة في البلد هي مفترق الطريق الحتمي بينهم وبين المؤتمر الشعبي المنبثق نشأةً ومساراً وَوظيفة من رحم عقود الوصاية والهيمنة الامبريالية، غير أن صالح الذي خذلته أمريكا في 2011 وأرغمته على الانزياح للظل وتسليم الدفة لخصومه التقليديين داخل سلطة الحكم بالوكالة وأعتقته لاحقاً ثورة الحادي والعشرين من أيلول 2014 كرقبة بين ملايين الرقاب اليمنية، لم يكن ليطمئن لمغازلة أمريكية تجعله ينقلب على حليف الوفاق السياسي الأنصاري في الراهن من ظروف البلد دون ضمانات يركن إلى حيادها وقد سعى منذ البدء لاستجداء دور روسي في هذه الوجهة.
يدرك صالح أن الغاية الجوهرية من العدوان هي إعَادَة اليمن إلى حظيرة الوصاية الأمريكية، وذلك باجتثاث الخطاب الثوري التحرّريّ وتقويض رافعته الطليعية الاجتماعية والسياسية، متمثلةً في الأنصار، تحديداً على أن غايةً كهذه تبدو عسيرة المنال بعد عامين ونصف العام من الفشل العسكري ورسوخ الأنصار في الوعي الشعبي كقيادة وطنية راكمت رصيداً هائلاً من الصدقية والإيثار وفدائية البذل والانتماء المبدئي لآلام وآمال المستضعفين شمالاً وجنوباً.
إزاءَ هذا الفشل الذريع لقوى العدوان مقابل تنامي شعبية الأنصار تجلّت الحاجةُ لانقلاب داخلي ناعمٍ في واجهته برَزَ صالح وحزبَه كوسيلة مثلى لهذه المهمة.
إن صالح لا يناهِضُ العدوان بهدف تخليص البلد من أكبال الهيمنة الأمريكية ولا نُشداناً لحرية القرار اليمني واستقلاله بالقطع، وإنما وجد نفسَه بالقصور الذاتي لسياقه الظرفي ميّالاً لمعارضة تحالف يتذرّع بشرعية خصومه التقليديين الذين شغلوا مكانَه في سدة الحَظْوَة الأمريكية، وهكذا راح يستثمر على هذا المستوى يساعده في ذلك انحسار شعبية خصومه في الداخل بانحيازهم للعدوان وارتفاع رصيد شعبيته بانحيازه ظاهرياً للشعب والبلد، وفي الأثناء حرص على أن يوظِّفَ هذا الكسب ليبرهن للإدَارَة الأمريكية على أنه لا يزالُ الرجل المثالي لجهة ما تريدُ تحقيقَه من غايات وأنها أخطأت في رهانها على هادي وأرتال الخونة الآخرين والعملاء.
الضمانات هي فقط ما كان ينقص صالح لمد اليد مجدداً للأمريكان والشروع في تمكينهم من تمرير الغايات الرئيسة من العدوان، حد حساباته، وَفي هذا السياق فإن روسيا هي الضامن.
يقتضي السيناريو الذي راهنت عليه قوى العدوان ومديرها التنفيذي الأمريكي أن تنبثق المبادرة من الداخل المعارض للعدوان ومن طرف غير الأمم المتحدة فوقع الاختيارُ على برلمان صنعاءَ بنوابه الذين هم في معظمهم من المؤتمريين والإخوان وأحلافهم وتكفّل صالح بتوفير الغطاء الشعبي للمبادرة، فكانت فعالية التأسيس التي جرى التحشيدُ لها قُبَيْلَ موعدها بشهرين وزامنتها حملةُ شيطنة ممنهجة للأنصار بوصفهم هُواةَ حرب وغيرَ جديرين بأمور السياسة والحكم، كما واستغلال آلام الشارع ومواجعه المترتبة على العدوان وتحميل الحليف الثوري المسؤولية عنهَا والقول إن الشارع قد تعب وآن الأوان لأن يمُدَّ يدَه للسلام بأي ثمن ومن ثَمّ يتصدر مؤتمرُ صالح المشهدَ الشعبي بوصفه الأقدرَ على قسْرِ المجتمع الدولي على إنهاء عدوان جرى الاتفاقُ في الكواليس على إنهائه بعودة اليمن لحظيرة الوصاية الأمريكية كثمن مضمر.
كان الرهانُ على عزل وتكبيل الأنصار بخيارَين كلاهما مُرٌّ، فإما الاصطدام بالشارع في صورة فعالية التأسيس التي انضوت تحتها بالتوافق في الظل قوى العمالة والخيانة التي فقدت أغطيتها السياسية بانضوائِها في تحالف العدوان، وبالتالي انهيار الجبهة الداخلية بالنتيجة أو الإذعان لسلام الاستسلام.
إن مهاجَمةَ صالح لـ “الملازم” وَوصفه اللجانَ الشعبية البطلة بـ “المليشيا” وَتحذيرَ الزوكا أمين عام حزبه من خطر تغيير المناهج التربوية والتعليمية لم تكن زلّات لسان ولا ارتجالاً، بل رسائلُ مؤتمريةٌ فحواها أن مستقبلَ اليمن هو ضمن محور أَدَوَات أمريكا الإقليمية ومصالحها؛ ولذا كان صالح وإعلامه بحاجة لتأكيد وطنية النشأة المؤتمرية بإلحاح ونفي صلات حزبه بإيران وتطمين المجتمع الدولي لجهة أن اليمن لا تمثل خطراً على “السلم الدولي” ولا حتى على إسرائيل ذاتها، وهي رسائل محددات تتهم ضمناً “أنصار الله وخطابهم وأدبياتهم” بكل ما حرصت على نفي صلات المؤتمر به من مواقف وتوجهات تبرئة للذمة لدى الإدَارَة الأمريكية وتجديداً للبيعة معها.
إن زيارةَ ولد الشيخ لإيران تتضحُ في سياق هذه القراءة كمحاولة لتحييد موقف إيران إزاءَ ما يعزمُ حليفُها الروسي تمريرَه في المحفل الأممي كمصلحة له في اليمن من مبادرة تتولى موسكو إدارتها تنفيذياً بالشراكة مع الإدَارَة الأمريكية وربما الصين الباحثة عما يطمئن مخاوفها من الحرب في اليمن، وليس صحيحاً أن هذه الزيارة كانت بهدف توسيط إيران لدى الأنصار، فالأمريكيون يعلمون جيداً خرافة تبعية الحوثي لطهران فهي من إنتاج معاملهم بالأساس.
كلمة صالح الأخيرة أمام الأمانة العامة لحزبه هي الأخطر بين مجموعة مشافهاته المتلفزة منذ بدء العدوان فهي تنطوي على تعهدات بإزالة أسباب المخاوف الأمريكية إزاء يمن المستقبل بما في ذلك الموقف من القضية الفلسطينية التي باتت مع ثورة أيلول نصب عين القوى الوطنية الشريفة قولاً وعملاً كما والموقف من الصراع مع العدو الإسرائيلي الذي أفصحت دوائره السياسية والعسكرية علناً عن قلقها لتنامي القدرات الصاروخية البالستية اليمنية وَوضوح رسالة السيد القائد عبدالملك الحوثي للعدو الصهيوني بأن عليه أن يحسب حسابَ الموقف اليمني في أيَّة مواجهة قادمة وتأكيده على المشتركات القيمية بين اليمن ومحور المقاومة في مواجهة خطر الاجتثاث والتعبيد الأمريكي لشعوب ودول المنطقة.
إن الأمرَ لا يتعلق بعدوان يتوجب إنهاؤه بأيّ صورة بل ببلد نريد له أن يأخذ مكانَه ودورَه الفارق والوازن على خارطة البلدان والشعوب كلاعب ورقم صعب يتحالف بندية مع ما تقتضيه مصالحُه وقيمُه وتوجّهاته الوطنية والقومية والإنْسَانية المحضة والمبدئية فيما يريد له بقايا منظومة الحكم بالوكالة أن يرزح مجدداً تحت الحذاء الأمريكي كملعب بلا هوية ولا طموح ولا وزن.
الثورة مستمرة ومعها كُلّ الطيف الاجتماعي الشريف والحر في اليمن بجهاته الأربع وتلك هي رسالة الاحتشاد الثوري لرفد الجبهات اليوم ومواجهة تصعيد العدوان ومؤامرات أَدَوَاته المحلية بالتصعيد.
الثورة مستمرة ولا يمكن لها الاتكاء على الجهاز الكمبرادوري العتيق والبائد تحت أي مسوغ في، هذا المنعطف بل أن تجترح مسارها وتبتكر حواملها السياسية الكفيلة بالمضي للإمام وإنجاز القطيعة مع قوى العمالة والخنوع صوب ولادة بكينونة كاملة تسعى قوى العمالة والعدوان لإجهاضها بصورة محمومة.