قراءة في الخلفية السياسية والفكرية لوعد بلفور
المسيرة| إبراهيم محمد الهمداني:
اتَّسَمَ التعاطي الرسميُّ مع قضية فلسطين بنوعٍ من السلبية غير المباشرة، واعتماده استراتيجيةَ تنحية اللَّوم عن الذات؛ رغبةً في التحرُّر من عقدة الذنب وعدم تحمّل المسئولية الدينية والوطنية والأخلاقية تجاه تلك القضية وما نتج عنها من سلبيات وتداعيات على كافّة المستويات والأصعدة، وبالتالي فالمسئوليةُ الكاملة واللومُ المطلقُ يقعُ على وعد بلفور، الذي صاغه المندوبُ السامي البريطاني (آرثر جيمس بلفور)، في صورةِ مقترَح يرى إمكانية جَعْلِ فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود، يجمعُهم في كيان واحد من كُلِّ مواطن الشَّتات.
وبالنظر إلى الخلفية السياسية التي صدر عنها هذا المقترح، فمن المعروف أن أرضَ فلسطين كانت تحتَ حُكم الاستعمار البريطاني، شأنُها شأنُ بقية البلدان العربية التي تقاسمتها الدولُ الاستعمارية بعد رحيل المستعمر العثماني، وليس بخافٍ على أحد طبيعةُ الدور الذي لعبته بريطانيا من خلال جواسيسها في إشعال فتيل الثورات العربية -ودعمها إلى حَدٍّ ما- ضد الاحتلال العثماني، وما كانت تطلق من الوعود والأماني بتمكين العرب من إقامة إمبراطوريتهم العظمى تحت مسمى الخلافة الإسْلَامية، وفي غَمْرةِ تلك الأحلام الوردية حدثت الصدفة، وأفاق العربُ مذعورين على واقع استعماري جديد، أصبح معه حلمُ التحرر والاستقلال مجرَّدَ عملية استبدال مستعمر بآخر!، وبذلك تم اغتيالُ الحلم من قبل مروِّجيه والمبشِّرين به، وفي ظلِّ صراعِ المتناقضات وقف الشارعُ العربي مذهولًا ووقفت الزعامات العشائرية والقيادات الثورية بين مطرقة الامتنان والاعتراف بجميل بريطانيا؛ لما قدَّمته من دعم ومساندة في تحقيق الحرية والاستقلال، وسندان خيبة الأمل والخديعة والمؤامرة الكبيرة التي ترجمها الواقعُ الاستعماريُّ الجديد، وجرى تحقيقُه بتخطيط بريطاني ماسوني، وتنفيذ كباش الفداء العربية؛ لإقامة وتشييد مذبحِ المصالح البريطانية والغربية عمومًا في المنطقة العربية.
رغم تحوُّل بريطانيا من دور صديق الأمس المبشّر بالفجر الجديد، إلى دورِ عدو اليوم القاتل لكل شروق الماحي لكل نور، إلا أن قناعَها المطرّز بالمثالية وحُلم الخَلاص الذي بشّرت وتذرّعت به، ظل مهيمنًا في الوجدان الجمعي العربي، الذي رفض الاعترافَ بجهله وغبائه وإفراطه في السذاجة وإغراقه في الوَهْم، حين شيّد عرش إمبراطوريته الإسْلَامية الكبرى، على مداميك الأحلام السرابية والوُعود الباطلة الخالية من أية ضمانات، أَوْ تموضعات واقعية لتحقيقها، جاعلًا خيانةَ الصديق والحليف البريطاني السببَ الرئيسَ في هزيمته، انطلاقًا من تأسيس عاطفي اتّسمت به طبيعةُ تناول الذات العربية لمختلف مشاكلها، حيث تسعى إلى إدانةِ الآخر بأدنى السلبيات والعُـيُوب الأخلاقية، مكتفيةً بذلك عن التفكير والبحث في أسباب إخفاقها ومكامن قصورها وعثراتها، والعمل على تجاوزها، ولا شك في اتفاق جميع البشر على قُبح الخيانة واستهجان الفطرة الإنسانية السوية لكل مظاهر الرذيلة المنتهكة لناموس الأخلاق الأزلي، لكن ذلك لا يبرّر للذات استسلامَها المسبقَ للخونة، واستحذاءَها لتمثيل دَور الضحية المستلبة، كما أن ذلك لا يحملُ أيَّ إلزام يفرِضُ على الآخر (العدو) التحليَّ بالأخلاق والتمسُّكَ بالفضيلة، ومن الغباء أن تنتظرُ من عدوك إنصافًا أَوْ رحمةً أَوْ أخلاقًا أَوْ أدنى القيم الإنسانية؛ لأن ذلك العدوَّ يؤسِّسُ عداوتَه لك على مبدأ المحو المطلق، وهذا لم يستوعبْه العقلُ العربي الجمعي غالبًا، وربما تعمّد إغفاله في تعاطيه مع مختلف نكساته وهزائمه.
إن محاولةَ تفسيرِ قضية فلسطين ومشروعية وعد بلفور – في سياقها العقلي والواقعي- يُفضي بنا إلى إيجادِ تفسير منطقي لطبيعة الوُجُود الاستعماري البريطاني في المنطقة آنذاك، وهذا بدوره يحتِّمُ علينا قراءة طبيعة ومشروعية الدور الذي لعبته بريطانيا قبل وأثناء الثورات العربية على الاحتلال التركي في المنطقة، ومن خلال التفكير في هذه المتوالية العكسية القائمة على ربط النتائج بأسبابها، يتضحُ انعدامُ المشروعية كليًّا للوجود البريطاني الدخيل على المنطقة المفتقر لأدنى مظاهر ومسميات الامتداد الوجودي في المكان، على كافة المستويات.