فلسطين بين وعد بلفور والتزام عبدالعزيز آل سعود
إبراهيم محمد الهمداني
سبق وَتحدثت في مقالٍ بعنوان (الخلفية السياسية والفكرية لوعد بلفور) عن الرؤى والتصوّرات التي قام عليها هذا الاقتراحُ، ولم يكن لهذا الاقتراح أن يصبحَ وعداً لولا تواطؤ بعض الأنظمة السياسية الحاكمة آنذاك وسعيها الحثيث لتنفيذه؛ لأنَّ وعد بلفور -كما أسلفنا- ساقط الشرعية الوجودية والحقوقية، أي أن فلسطينَ لم تكن امتدادًا جغرافيًّا لوجوده، ولم تكن حقًّا شرعيًّا له؛ ولذلك فإن وعد بلفور لم يتجاوز كونه حبراً على ورق، لولا ما لحق به وعزّزه من وعود والتزامات الملك عبدالعزيز آل سعود، الذي نصّبته الماسونية والصهيونية العالميتين كمؤسس لدولة الكيان السعودي في المنطقة.
وبمراجعةٍ سريعةٍ للتأريخ نجد أن عبدالعزيز آل سعود، ينتمي إلى أسرة يهودية من يهود نجران وينتهي نسبه إلى مقرن بن مردخاي، كما هو مثبت في جميع كتب التأريخ والموسوعات الإلكترونية ولا غبار عليه ولا جدال حوله، ويعزز هذه الحقيقة رفض جميع القبائل العربية آنذاك إلحاق نسب آل سعود إليها، رغم وسائل الترغيب والترهيب التي استخدمها آل سعود وبريطانيا آنذاك؛ لأن من طبيعة القبائل العربية عدم قبول إلحاق الأنساب المشكوك فيها أَوْ المجهولة بها، ورغم محاولة عبدالعزيز آل سعود تمرير وجوده وحضوره تحت مظلة الدين الإسْلَامي، إضَافَةً إلى محاولته التلقُّب بلقب الإمام ذي البعد الديني السلطوي، إلا أن ذلك لم يجد نفعاً، ولذلك حاولت بريطانيا الاستعانة بشخص آخر هو محمد بن عبدالوَهَّاب، الذي ينحدر من يهود البلقان، وانطلاقاً من قاعدة (الإسْلَام يجب ما قبله) استطاع محمد بن عبدالوَهَّاب أن يتزعم حمل لواء الدين ويمثل ذلك الدور باتقان، ورغم أن مشروعه الديني كان قائماً أسَاساً على الموروث الديني اليهودي، المتسم بالعنف والتوحش والتشدد والمغالاة ورفض الآخر ووو… إلخ، وهي كلها مناقضة ومنافية لجوهر الدين الإسْلَامي الحنيف، إلا أنه استطاع تكريس مشروعه مستغلاً العاطفة الدينية والحماس والجهل لدى العامة، تحت مسمى إحياء سنة السلف الصالح ومحاربة البدع والشركيات، ولم يكن هناك بدعة أسوأ ولا أخطر على الدين الإسْلَامي من هذا المذهب الوَهَّابي الدخيل.
استطاع ثنائي السيطرة الاستبدادي _ المكون من السلطة الدينية بقيادة بن عبدالوَهَّاب والسلطة السياسية بقيادة بن سعود _ من التمدد والتوغل في مناطق شبه الجزيرة العربية، متخذين من قداسة المكان (الحرمين الشريفين) مشروعيةً وسلطاناً نافذا ينطلقون منه ويتكأون عليه في تنفيذ المشروع الاستعماري الجديد، الذي سيحفظ للكيان الصهيوني في فلسطين أمنه واستقراره، ويحقق مشروعية تواجده.
لم يكن وعدُ بلفور هو الجاني الوحيد على القدس العربية، أَوْ المُشَرِّع المطلق للتواجد الصهيوني في فلسطين، فقد عزّزه وسانده وحقّق مشروعيتَه المطلقة، وعدُ عبدالعزيز آل سعود للسير برسي كوكس المندوب السامي البريطاني، المُكلف بترسيم الحدود بين كيان آل سعود والكويت والعراق في مؤتمر (العقير) 1922م، حيث تعهد عبدالعزيز آل سعود في وثيقة خطية ممهورة بختمه، لمندوب بريطانيا بتسليم فلسطين لليهود، وفيما يلي نص الوثيقة: “أنا السلطان عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن آل سعود أقر وأعترف ألف مرة للسير برسي كوكس مندوب بريطانيا العظمى، لا مانعَ عندي من أن أعطي فلسطين للمساكين اليهود أَوْ غيرهم، كما تراه بريطانيا التي لا أخرج عن رأيها حتى تصيح الساعة)، كان هذا هو نص الوثيقة التي اخرجتها ونشرتها صحيفة الحرس السعودية المعارضة وأصدرها تجمع علماء الحجاز في 21 تموز 1991م، وذكرها أْيْضاً (جون فيليبي) في مذكراته، قائلاً إنها كانت نوعٌ من إثبات حُسن نية عبدالعزيز آل سعود لبريطانيا، وهي الوثيقة ذاتها التي هدد (جون فيليبي) عبدالعزيز آل سعود بنشرها إذَا لم يعمل على إعادته من منفاه في لبنان إلى أرض الحجاز.
إذا كان وعد بلفور هو(عطاء مَن لا يملك لمن لا يستحق)، فإن إقرارَ والتزام عبدالعزيز آل سعود هو عطاء من يملك السلطة الدينية ويمثل العمق الاستراتيجي والتأريخي والمرجعية الفكرية والحضارية والثقافية والدينية، للوطن العربي وَالإسْلَامي بأكمله، وغيرها من مظاهر المشروعية التي أضفتها عليه قداسة المكان (الحرمين الشريفين)، الذي تآمر عليه بالغلبة وحد السيف والخديعة تحت مسمى الدين.
ولا أدري إنْ كان التأريخ يعيدُ نفسه أم أن هناك قوىً خفيةً تدير عجلة التأريخ، فها هو اليوم ترامب الرئيس الأمريكي والراعي الرسمي لمصالح اليهود في المنطقة العربية والمشرف الأول على تنفيذ مشروعهم الاستيطاني الغاصب، يُعلن من البيت الأبيض تحقيق وعد سلفه (آرثر جيمس بلفور)، وإن القدس هي عاصمة هذا الكيان الغاصب، ولم يكن ذلك ليتحقق لولا جهود أمير قرن الشيطان محمد بن سلمان ولي عهد مملكة آل سعود، وتحَـرّكاته التي قام بها في المنطقة لإقناع وإرغام جميع الحكام والأنظمة الحاكمة العربية والإقليمية والدولية، بضرورة التخلي عن القدس، والاعتراف بها رسمياً عاصمةً لهذا الكيان الصهيوني، في سياق التعجيل بظهور مملكة إسرائيل الكبرى، وقد سبق هذه الخطوة قيام مملكة آل سعود بتفتيت وحدة الصف العربي والإسْلَامي والاستيلاء على الجامعة العربية وهدم كافة المشاريع القومية والاتحادات العربية والإسْلَامية، وشن حروب عبثية متوحشة ضد محور المقاومة والممانعة (اليمن، لبنان، سوريا) بهدف اضعافه واستنزافه ووأده إن أمكن ذلك، وفي الوقت نفسه قاموا بإنشاء اتحادات وكيانات ومنظمات بديلة تحت مسميات عربية وإسْلَامية تخدم توجهات أمريكا وإسرائيل ومشاريعهما الاستعمارية في المنطقة، التي لا تقتصر على استهدَاف الجغرافيا بل تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك لتشمل التأريخ والحضارة والدين والهوية والثقافة، لتمح وتنسف كُلّ مظاهر السياسة والاستقلال والتفرد والانتماء وَو.. إلخ، ليبقى بعد ذلك الكيان الإسرائيلي في مسمّاه الجديد دولة إسرائيل الكبرى أَوْ العظمى، هو الكيان الوحيد الأجدر بالبقاء، لما يستند عليه من مرجعية دينية روحية، تتمثل في انتساب الدولةـ كنظام وشعب ـ إلى إسرائيل أي نبي الله إسحاق بن يعقوب عليهما السلام، وبما يمتلكه هذا الكيان أيضاً من امتداد تأريخي مزعوم، وبما حققه من وجود فعلي على الأرض، من خلال الاستيطان اللامشروع وقتل وتهجير وتشريد الفلسطينيين واغتصاب أراضيهم.
أعود وأكرر.. لم يكن لهذا المشروع الاستيطاني الغاصب، الذي لا يمتلكُ أدنى شرعية، أن يكتملَ بهذا الشكل، ويصل إلى هذا المستوى من الهيمنة، لولا التسهيلات والدعم اللامحدود على كافة المستويات، الذي قدمه ويقدمه ملوك آل سعود ابتداء من جدهم المؤسس عبدالعزيز ووُصُوْلاً إلى سلمان وولي عهده الملقب (المهفوف)، الذي يلعب هذا الدور الخياني القذر بكل جرأة وصلف وقبح، في العلن على مرأى ومسمع من الجميع، وهذا بالإضَافَة إلى ما سبق ذكره من أكبر الشواهد الدالة على إن إنشاء كيان آل سعود والكيان الصهيوني هدف إلى تحقيق نوع من التكامل الوظيفي العنصري بين الكيانين الدخيلين الغاصبين، كما يؤكد أْيْضاً يهودية ملوك آل سعود ولاءً وانتماء، في أحسن الأحوال، كما يؤكد أن الماسونية أرادت أن تجعل من مملكة آل سعود درعاص حائلاً ومانعاً، يقي الكيان الصهيوني _ في فلسطين المحتلة _ من شر غضب وثورات الجماهير العربية، ويجعل الوصول إليها متعذراً؛ نتيجة لما تفرضه طبيعةُ الأعراف والتقاليد الدبلوماسية من احترام الحدود بين الدول، وعدم انتهاك سيادتها.
إنَّ الدورَ الذي لعبه ويلعبه ملوك آل سعود لم يعد خافياً على ذي بصيرة، ولم يعد مقبولا لذي عقل، ولم يقتصر على انتهاك وحدة وسلامة الأرض الفلسطينية، بل تجاوز ذلك لتصل أياديه العابثة، ومُخَطّطاته الهدامة التدميرية إلى كُلّ بلدان العالم العربي والإسْلَامي، ولتبلغ جرأة وقذارة وانحطاط ملوك آل سعود إلى إدخال الصهاينة الإسرائيليين إلى الحرم المكي الشريف، تحت مسمى شركات حماية، تقوم _ حسب زعمهم _ بتأمين الحجاج ومساعدتهم في أداء مناسكهم بيسر وأمان، كما تقوم بإدخال اليهود الصهاينة إلى الحرم النبوي الشريف، لا أدري تحت أية ذريعة، في انتهاك صارخ وواضح وجريء لكل المقدسات الإسْلَامية، وعدم وضع أدنى اعتبار لمشاعر الملايين من المسلمين.
هؤلاء هم آلُ سعود وهذا هو دورُهم الحقيقي منذ التأسيس إلى آخر لحظات السقوط، ولا أظن أن مستودعَ أسرارهم يخفي أكثر مما هو ظاهرٌ للعيان، وليسوا أكثرَ من موظفين لدى الماسونية والصهيونية لتسهيل قيام المشروع الاستيطاني الاستعماري الجديد، دون أدنى مراعاة لحقوق الشعب الذي يحكمونه، أَوْ اعتبار للدين الذي يتسلطون باسمه، أَوْ احترام لقداسة المكان الذي طالما دنسوه وانتهكوا حرمته واستهانوا بعظمته، وذلك لانعدام أدنى مظاهر الانتماء والارتباط الفعلي بالمكان أَوْ الإنْسَان أَوْ الدين.