الخائن والمجتمع في التراث العربي
حمود عبدالله الأهنومي
لن يشكِّلَ المرتزِقةُ الجدُدُ القادمون من خيانة الثاني من ديسمبر إضافةً جديدةً في قوة العدوان ولا في أدبياته، فكلَّما يقولونه ويحاولونه، قد سبقهم أسلافُهم فيه منذ 3 سنوات، غير أنه على الرغم من إصدار المجلس السياسي الأعلى قراراً بالعفو عن من لم يتورَّطْ في دمٍ حرامٍ منهم، فإن ذلك لن يبيِّضَ صفحتَهم “الجديدةَ” في عالم الخيانة والغدر، ويستوي في ذلك الخائنُ القديمُ والخائنُ الجديد.
لقد كان الوفاء بالعهد والميثاق من أهم قيم وأخلاق العرب حتى قبل الإسْلَام، مهما جر ذلك عليهم من ويلات، وقد ضُرِب المثلُ بوفاءِ السيد العربي السموأل بن عادياء، لما استودعه امرؤ القيس الكندي أدرعا له، فساومه ملكٌ من ملوك الغساسنة على خيانة صاحبه ولكنه رفض رفضاً قاطعاً، ولما هدَّده بقتلِ ولده الذي اعتقله للضغط عليه آثر الإيفاءَ بالعهد على حياة ولده الأثير لديه، فقال:
وفيتُ بأدرُع الكندي، إني… إذا ما خان أقوامٌ وفيتُ
وحينذاك قالت العرب المثل السائر: “أوفى من السموأل”.
وفي المقابل يروي الدكتور جواد علي أنه: “ما برِح العرب يحافظون على عهودهم، وقد يضحي الإنسان بنفسه على أن يخدش سمعته فيوسَم بالغدر, وكانوا في الجاهلية إذا غدر الرجل رفعوا له في سوقِ عكاظ لواءً ليعرِّفوه الناس. ونصبُ اللواء في المواضع العامة وفي المواسم للإشارة إلى غدْرِ شخصٍ بشخصٍ آخر, من أشهر الأشياء عند العرب.
وإذا غدر الرجل بجاره، أوقدوا النار بمنى أيام الحج على أحد الأخشبين، ثم صاحوا: “هذه غدرة فلان” ليحذرَه الناس. وقد قيل لهذه النار: نار الغدر. وربما جعلوا للغادر تمثالًا من طينٍ، ينصبونه ليراه الناس، وكانوا يقولون: ألا إن فلانًا قد غدر فالعنوه. وجاء في الشعر:
فلنقتلن بخالدٍ سَرَوَاتكم… ولنجعلن لظالمٍ تمثالَا
فهذا التمثال هو تمثالُ الغدر والخيانة، نصب ليقفَ الناسُ على خبر غدر “ظالم” بـ “خالد”.
وقد عاب الناس الغادر وعيّروا به, فإذا شتموا شخصًا قالوا: يا غُدَر!”.
ووصل بهم الأمر أنه إذا خاف أحدُهم من ولدِه خيانةً أَوْ خُبثاً ذهب ليحذِّر منه على مرأى ومسمعِ أهلِ الموسم، ونادى فيهم قائلاً: “يا أيها الناس! هذا ابني قد خلعته”، حتى لا يجلبَ عليه عارَ الخيانة.
ولما حرَّك أبرهة الأشرم جيوشَه لهدم الكعبة، انضم إليه رجل من ثقيف، يقال له: أبو رغال ليكونَ دليلاً له، فعابت العربُ صنيعَه، واعتبرت ذلك خزياً كبيراً، وعاراً لا يغسله ماءُ الدهر، بل بلغ بهم الحال أن رجموا قبره بعد موته، وقبرُه في المغمس في أطراف حرم مكة المحرم، عند الزيمة، موضع معروف، وقد أشار “جرير” في شعرٍ قاله في الفرزدق إلى رجم الناسِ قبرَ أبي رغال، إذ قال:
إذا مات الفرزدقُ فارجموه… كرجمكم لقبرِ أبي رغال.
هذا والخيانة من شخص لآخر، وضررُها يعودُ على واحد من الناس، فكيف إذا كانت الخيانةُ للأمة جمعاء، وهي ما تسمى اليوم (الخيانة العظمى)، إنها بلا شك قضيةٌ خطيرة وشر مستطير؛ وذلك لما يترتَّبُ عليها من الفساد والإهلاك للحرث والنسل، والتهديد لحاضر ومستقبل المجتمع، وبالتالي فلا بدَّ وأن تكون عقوبتها من أغلَظ العقوبات، وهو الأمر الذي سنت قانونه المتشدِّد جميع الأمم قديماً وحديثاً.
ورَدَ الحديثُ عن الخيانة في آياتٍ كثيرة في القرآن، ومنها ما ورد في سورة الأنفال في ثلاث آيات، والتي لخطر جرمِها كرَّر القرآن ذكرَ الخيانة أَوْ ما يشتق منها مرتين في كل آية منها:
1-قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
2-وقال: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ).
3-وقال: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
وفي الآية الثانية من هذه الآياتِ أدَّب اللهُ رسولَه صلى الله عليه وآله وسلم إذا خشيَ بدلائلَ وأماراتٍ من قومٍ خيانة لعهدٍ فعليه أن ينبذَ إليهم على سواء، بأن يعلنَ لهم أن ذلك العهد أصبح لاغياً، فإذا هاجمهم كانوا على دراية بأنه لم يعد هناك عهدٌ قائمٌ؛ ذلك أن الله أراد منّا أن لا نكونَ خوَنةً، حتى ضد الخائنين، وإنْ في ظروفٍ ملتبسة.
وما أجملَ إيحاءَ آخرِ تلك الآية بأنه يجبُ أن لا يتمتعُ الخونةُ بأيِّ احترام ولا تقدير من المجتمع؛ ذلك أن اللهَ لا يحبُّ الخائنين، ومن لا يحبُّه اللهُ فجديرٌ بعباد الله أن لا يحصلَ على ذرةِ محبةٍ في قلوبهم، ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾.
والآن بعد ألف يوم لوَّثها الخونة بغدراتهم اليومية.. كم من التماثيل الطينية يجبُ أن تُنصَب؟ وكم من ألوية الغدرات يجب أن ترفع؟ وكم من القبور يجب أن تعودَ العربُ لرجمها كما رجمت قبر أبي رغال؟!!