من بلفور إلى ترامب: المواجهة هي الرد
حسن خليل
يُشَكِّلُ اعترافُ ترامب بالقدس عاصمةً للكيان المحتل وطلبه نقل سفارة بلاده إليها، حدثًا سياسيًا لا يمكن المرور عليه بسهولة. فالمسألة هنا، لا تستهدف طبيعة المدينة أَوْ رمزيتها أَوْ موقعها في الوجدان الإنْسَاني بشكل عام والعربي بشكل خاص، وإنما يتعداه إلى القرار بطبيعته السياسية، وما هو مُخَطّط لفلسطين وقضيتها. من دون أدنى شك، يستهدف القرار، وبالدرجة الأولى، شطب تأريخ كُلّ الشعوب التي ناضلت من أجل الحرية والتحرر من الظلم والتبعية، وهذا مسار لطالما دأبت الولايات المتحدة العمل عليه منذ الانهيارات الكبرى في بداية التسعينيات، والتبدّل الذي حصل في طبيعة الصراعات ببعديها الفكري – السياسي وبأهدافها.
واستكمالًا، تؤكد الولايات المتحدة الأميركية المؤكد، بانحيازِها إلى الكيان المحتل بطبيعته ووظيفته ودوره في المنطقة، والذي يشكّل جزءًا أساسيًا من تركيبة المشروع الاستعماري بشقّيه السياسي والاقتصادي الذي تقوده، سواءٌ أكان بالمباشر أَوْ بواسطة أدواتها، من دول ومجموعات وكيانات طائفية ومذهبية، تستفيد منها موضوعيًا وتوظّفها خدمةً لمشروعها في «وضع اليد» على العالم وقيادته وفق مصالحها وأهدافها. سلوك مارسته كُلّ الإدارات الأميركية المتلاحقة، منذ ما قبل بداية القرن الحالي وإلى يومنا هذا.
كما يعكس القرار، حقيقة موقف الولايات المتحدة من قضية فلسطين، فهي في هذا المجال، ليست عدوة فلسطين وقضيتها وحسب، وإنما عدوة كُلّ الشعوب الرافضة لمنطق الهيمنة وسلوكياته، التي ما انفكت «إمبراطورية الشر» تمارسه على مساحة الكرة الأرْضية، مسخّرة كُلّ الوسائل والإمْكَانيات المتاحة، بالإضَافَة إلى المُؤَسّسات الدولية، لخدمة تنفيذ برنامج هيمنتها المطلقة على العالم وبكل مقدراته؛ بهذا المعنى، هي هنا «رأس الإرْهَاب العالمي»، الذي يُوجب على كُلّ متضرر منه مقاومته، وبكل الوسائل المطلوبة لذلك. وتؤكد مرة جديدة في قرارها هذا، والذي يُعدّ بمثابة عدوان على كُلّ الشعوب العربية، موقعها الدائم إلى جانب المعتدين، وهذا طبيعي فهي أول من رعى الإرْهَاب، وموّل الحروب، وسلب الخيرات وأفقر الشعوب، وضرب بعرض الحائط المواثيق الدولية والقرارات الصادرة عن الأُمَــم المتحدة ومجلس الأمن وتسخيرها لمصالحها ومصالح الكثير من القوى الاستعمارية السابقة، لتصفية كُلّ القضايا العادلة، وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية، وبتغطية من أنظمة لم تكف يومًا عن التفريط، ليس بمصالح شعوبها وثرواتها فحسب، وإنما بكل القضايا والقيم الإنْسَانية، ومستفيدة أيضًا من أحادية عالمية واضحة نتيجة انهيار الاتحاد السوفياتي.
هذا الواقع يستوجب، من كُلّ القوى الرافضة لأمر الواقع هذا، العمل لتغيير جذري في نمط ونوعية المقاربات الواجب اتخاذها والعمل بها. فالقضية الفلسطينية هي قضية جامعة بطبيعتها، وهي قضية تهمّ الجميع، أي تتعدى الكيانية الفلسطينية إلى الحالة العالمية، وبهذا المعنى أيضًا، هي أشمل، ويجب التعامل معها ومع مستجداتها على هذا الأساس. وعليه، لا يمكن مقاربة ما يتعلق بها ومناقشته – المرتبطان بالتطورات الأخيرة، أَوْ ما سيليها مستقبلًا – لا حصرهما بالجانب الفلسطيني باعتباره صاحب حق حصري ومباشر، وإنما بكل القوى التي تناصب الإمبريالية والرجعية والاستعمار، العداء، باعتبارها صاحبة حق، ويجب عليهم الانخراط الجديّ في إنتاج برامج المواجهة وتنفيذها.
إن إغفال القضية الفلسطينية طويلًا وغيابها عن الساحة كقضية جامعة، منذ اتفاقات أوسلو حتى اليوم، وتشريع حالة الانقسام على الساحة الفلسطينية ساهمت بشكل كبير في وضع «عدالة» تلك القضية وأحقيتها وشموليتها في إطار المحدودية الفئوية، من القوى الفلسطينية بالأساس، ومن قوى «المواجهة» استكمالًا. لقد تجسّد الغياب الكلي للقضية في السنوات السبع المنصرمة، وضاعت ما بين خنادق الحروب المتكاثرة في «بلدان الطوق»، والنقاش العقيم في شرعية «سلطة» تقوم على جغرافيا منفصلة ومجزأة، ومحاطة بكيان الاحتلال وإجراءاته العدوانية-العنصرية.
اليوم، وإن بدت بعض قوى محور «الطوق» بفلسطين تشعر ببداية انتصاراتها في الحرب ضد سوريا والعراق، واستكمالًا فلسطين، فعليها أن تتابع وتضع استراتيجية مواجهة جديدة: فإذا كانت كُلّ تلك الحروب التي خيضت ضد سوريا والعراق هي صنيعة الامبريالية والصهيونية والرجعية ومدعومة منها، وحيث أن حدود المواجهة اليوم، أَصْبَحت بجزء كبير منها متاخمةً لحدود فلسطين المحتلة، فلتُستكمل تلك المواجهة ولتفتح الجبهات؛ هي فرصة تأريخية، يمكن أن تجمع قوى عديدة ومتنوعة في طبيعتها ومقارباتها، وهي فرصة أَيْضًا لإنهاء مفاعيل العدوان الغربي، الذي بدأ منذ قرن مع «وعد بلفور» المشؤوم، ويستمر اليوم مع «وعد ترامب». هي مئة عام من الضياع والانقسام والدماء والضحايا والشهداء والتشريد واللجوء عاشتها شعوبنا العربية، وبالتحديد في فلسطين ولبنان وسوريا والأردن، على أمل التحرير والعودة، لكن كلما بعدت السنين بَعُد حلم فلسطين أَكْثَر. هذا الواقع يستوجب إعادة النظر في ماهية وكيفية المواجهة للعودة بالقضية إلى أساسها كقضية تحرر وطني.
المواجهة الشاملة لا تعني المعركة المتماثلة، وإنما تعني بجوهرها، العمل في كُلّ الساحات وحول كُلّ القضايا، وإن اختلفت الوسائل. فلتكن قضية الأساس – فلسطين، سببًا لإعادة بوصلة الصراع إلى مكانه وطبيعته الاصلية: قضية فلسطين، ليست قضية أرض انتُزعت من أصحابها أَوْ شعب شُرّد في بقاع الأرْض فقط، هي قبل كُلّ هذا وذاك، قضية مشروع استعماري بدأ منذ قرن، هدفه السيطرة والهيمنة على المنطقة وقهر شعوبها، وما الكيان المصطنع في فلسطين اليوم بوظيفته، إلّا شكلًا متقدمًا من الفاشية العنصرية وموقعًا متقدمًا للعدوان. على هذا الأساس تصبح مقاومتُه مقاوَمَة نمط الهيمنة بذاته والذي ما انفكت الولايات المتحدة تمارسه، وبأبشع صوره ووسائله. وهذا يدفع باتجاه أن تتعدى موجبات مواجهته وتتنوع لتشمل كُلّ من يؤمن بالعدالة والحرية والتقدم في المنطقة والعالم.
إن هذه المرحلة تتطلب التأسيس على المستجدات الحالية بكل تجلياتها، السلبية منها والإيْجَابية، لإنتاج «مشروع مواجهة»، تستطيع من خلاله قوى المقاومة، الفلسطينية والعربية، إعادة تصويب الصراع وردّه إلى ساحة فلسطين، حيث الوجهة واضحة والعدو محدد، من خلال تأكيده على:
ــ إن القدس عربية، وهي عاصمة دولة فلسطين، وعاصمة كُلّ ثوار العالم، وواجب تحريرها وكل فلسطين هي مهمة مطلوبة وضرورية، ولا يمكن شطب التأريخ والجغرافيا بقلم «بلفور العصر» وسياساته الرعناء. وأن لا فرق بين مدينة ومدينة في فلسطين المحتلة، فسواء كانت عاصمة الكيان المحتل هي تل الربيع أَوْ غزة أَوْ رام الله أَوْ القدس، فالوضع سيان؛ فكل فلسطين تحت الاحتلال، وأي تبديل، في طبيعة المدن ووظيفتها، يقوم به الاحتلال، هو واحد والنتيجة واحدة.
ــ إن التصرف الأميركي بهذه الطريقة، أي بإعطاء نفسه الحق بنزع الشرعية عن هذا أَوْ ذاك، أَوْ بتثبيت حقيقة أَوْ إسباغ صبغة رسمية لهذا الكيان، يُعتبر بمثابة اعتداء سافر، فلا شرعية تُعطى لاحتلال مهما كان ومهما علا شأن من يعطيها. هذه ثابتة، وكل ما عداها هو في إطار التعدي على التأريخ والجغرافيا، والمطلوب مواجهتها، ليس بالتمنيات وبيانات الاستنكار والشجب بل بالمقاومة، وبمختلف أنواعها ووسائلها.