الإنسانُ صاحبُ موقف، سواء تحرّك أو قعد، فالقاعدون يحاولون التبريرَ لقعودهم ويزيدون من إثمهم بترويجهم للباطل
إعداد | بشرى المحطوري
ألقى الشَّهِيْدُ القَائِدُ -سَلَّامُ اللهِ عَلَـيْـهِ- من 28/5 إلى 3/6/2003م سبْعَ محاضرات ــ ملازم ــ رائعاتٍ جداً -حُقَّ لها أن تُكتبَ بماء الذهب- يشرح فيها كتابَ (مديح القرآن) للإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام، هذه المحاضرات كلها تحكي عن القرآن، وكيفية الاهتداء بالقرآن، وكيفية طرح القرآن للقضايا، ومنهجية القرآن في كُلّ شيء، قال عنه الشَّهِيْدُ القَائِدُ: [كتاب هو من إمام كبير من أئمة أهل البيت، الزيدية متفقين عليه، هو مشهورٌ عندهم جميعاً، وكتابته بالطريقة التي تكشف كيف رؤية أهل البيت، وتوجه أهل البيت الأصلي، قبل تجي أشياء أخرى]، ويقصد -سَلَّامُ اللهِ عَلَـيْـهِ- بـ(أشياء أخرى)، أي الثقافات المغلوطة التي هي تعتبرُ معارِضةً للقرآن، ومعاكِسةً لمنهجية القرآن التي عليها الأئمة الأوائل من آل البيت -سَلَّامُ اللهِ عَلَـيْـهِم أجمعين-..
ونصح -سَلَّامُ اللهِ عَلَـيْـهِ- بإخراج هذا الكتاب بطريقة ممتازةٍ والقيام بتدريسه لطلبة العلم وللثقافيين، والعمل على نشره بين أوساط الناس، حيث قال: [وهذا الكتاب مناسب أنه يصوّر، ويخرج بأحسن مما هو عليه، يكبَّر؛ لأجل يدرَّسُ في المراكز، وينتشرَ للناس. فهو مناسبٌ جداً نشرُه في الفترة هذه بالذات. يعني الناس الآن أحوج ما يكونون إلى القرآن، في الزمن هذا بالذات. نحن بحاجة إليه في المساجد, في المراكز, ينتشر في أوساط الناس].
وفي تقريرِ هذا العدد سنتناولُ محاضرة من المحاضرات السبع، المعروفة بــ(مديح القرآن)، للاستفادة مما فيها من علمٍ غزير، ووعي كبير، وطرح قَلَّ نظيره.. فجزى الله الشَّهِيْدُ القَائِدُ خير الجزاء، وجعله مع النبيين والصديّقين والشُّهَدَاء.
ثقافة مغلوطة:ـ
البعضُ يتصوَّرُ أن اهتمامَه بأمور دينه يضُرُّ بـ(دُنياه)!!
وابتدأ الشَّهِيْدُ القَائِدُ -سَلَامُ اللهِ عَلَـيْه- المحاضرة الثالثة من محاضرات (مديح القرآن) بالحديث عن ثقافة مغلوطة يؤمن بها كثير من الناس ألا وهي: (الاعتقادُ بأنه إذا انطلق في سبيل الله وإعلاء كلمة الله فإن دُنياه ومصالحه ستتأثّر سلباً، حيث قال: [البعض يتصور أنها ستضيع مصالحهم في ظل الاهتمام بدينهم! هذا ما هو صحيح، إن أصل المسألة ما هو صحيح. إن الدين نفسَه، الدين جعله الله يجلُبُ الخيرَ للناس من عنده هو, وفي واقع حياتهم، في واقع الحياة؛ ولهذا يعد الناس بالخير، يعدهم بالبركة، يعدهم بالأمطار، يعدهم بالدفاع عنهم.. الدين هو للحياة الدنيا وللحياة الأخرى، لسعادة الناس، لسعادة البشر في الحياة الدنيا وفي الحياة الأخرى. إنما نفس التوجه إذا أنت تريد تتجه للدنيا نفسها تخربطت عليك الدنيا، تتخربط الدنيا كلها. عندما يكون البشر غارقين في الدنيا ومعرضين عن الدين. لا، اتجه للدين والدين تجده كله متعلق بالحياة.. هذه القضية هي سنة تقريباً في كُلّ شيء، سنة في كُلّ شيء، تحصل الأشياء تلقائياً، يحصل الخير من جهة الله سبحانه وتعالى، تستقيم الحياة بدون ما يغرقوا هم في الموضوع، يتجه الناس إلى الله، يتّجهون إلى دينه، متى ما اتجهوا إلى الله واتجهوا لدينه فهو يصلحُ دُنياهم وآخرتهم].
أحكامُ الدين كُلُّها مرتبطةٌ بـ(الدنيا).. مثل:ـ
أولاً: قضية الجهاد:ـ
واسترسل الشَّهِيْدُ القَائِدُ في الرد على الثقافة المغلوطة التي تقولُ بأن الاهتمامَ بالدين قد يضُــرُّ بمصالح الأفراد، وضرب على ذلك أمثلة من خلال تأمّل آيات القرآن الكريم، حيث قال: [لو تأتي مثلاً تنظر لأحكام الدين وتوجيهاته، تأتي تنظرها وتتأملها تجدها مرتبطة كلها بالدنيا هذه؛ لاستقامة الإنسان, متى ما استقام الإنسان استقامت الحياة.. تجد كثيراً من تشريعاته ـ وبعضها من الأسس الهامة ـ هي بالشكل الذي يدفع الناس إلى أن يعمروا الدنيا. مثلاً قضية الجهاد ـ مثلما تحدثنا عنه أكثر من مرة ـ أن يحمل الناس مسئولية الدين، هذه النقطة لوحدها تتكفل بعمارة الدنيا كلها؛ لأنك تحتاج فيما بعد أن تزرع، أن تصنع، أن تعلِّم، أن تطور الحياة على أرقى ما يمكن. التخلف الذي نحن فيه سببه أن ما هناك اهتمام بالدين! لما لم تكن مثلاً الدول مهتمة بأمر الدين، أهملت الدنيا، وأهملت الأمة؛ لأنه لا يوجد عنده قضية، لا يوجد عنده اهتمام].
ثانياً: قضية المواريث:ـ
واستمر كذلك الشَّهِيْدُ القَائِدُ في الرد على الثقافة المغلوطة (أعلاه) من خلال تأمل آيات القرآن الكريم، حيث قال: [قضية المواريث مثلاً، الميراث نفسه له علاقة بعمارة الحياة، تجزئة الميراث. إذا هم أسرة خمسة أولاد وعدد من البنات، أبوهم معه أموال، عندما يتقسمون الميراث أليست الأموال تتجزأ عليهم؟ لاحظ كُلّ واحد من بعد ما هو في الأخير يذهب يشتري له أصلاب، أو إذا معهم أصلاب يحاول يخرجها أو إذا معهم محجر قاموا يخرجوه؟ هكذا كُلّ تشريعات الدين لها علاقة بعمارة الحياة].
ثقافتان مغلوطتان.. متداخلتان مع بعضهما:ــ
ــ الاعتقاد بأن الدين صلاة وتسبيح وذكر.. فقط!!
ــ الاعتقاد بأن الله ذم الدنيا، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة!!
في سياق رده -سَلَامُ اللهِ عَلَـيْه- على الثقافات المغلوطة، أكد على الآتي:ــ
أولاً:ــ من خلال عمارة الدنيا..
تتجلى بشكل أكبر مظاهر قدرة الله، التي لها علاقة بمعرفته، وأن معرفته تملأ الحياة، حيث قال: [هكذا كُلّ تشريعات الدين لها علاقة بعمارة الحياة.لأنه لو الموضوع فقط، الموضوع فقط هو أنه يريد تسبيح، وصلوات، السماء ملان ملائكة مسبحين مصلين أكثر مننا, صفوف من الملائكة ملايين من الملائكة. حتى عبادتنا هذه تجدها ليست إلا نموذج مما لدى الملائكة. أليس الإمام علي يقول في وصفهم: (منهم قيام لا يركعون، وركوع لا يرفعون، وسجود لا يقومون) مِنهم هكذا ناس على طول. نحن أعطانا قليل ركوع وسجود وقيام وتسبيح قليل، خمس صلوات؛ لأن الدور واحد, أساساً الدور واحد، دور الملائكة ودور البشر في الغاية هو دور واحد. من خلال عمارة الإنسان للحياة تتجلى أشياء كثيرة جداً من مظاهر قدرة الله، وحكمته، وعلمه، وألوهيته، وتدبيره,.. كلها بهذا الشكل. الملائكة هم قد يكونون يستفيدون مما يظهر على يد الإنسان نفسه.لاحظ عندما تقدمت العلوم ألم تتكشف أشياء كثيرة لها علاقة بالجوانب الإيمانية، لها علاقة بمعرفة الله؟ هكذا؛ لأن الله طبع الحياة بهذا الشكل، معرفته تملأ الحياة، وهي الغاية من الحياة، يتجه الناس في عمارة الدنيا تتجلى على أيديهم مظاهر قدرة الله].
ثانياً:ــ الإنسانُ نفسُه آية من آيات الله
كُلّ ما يعمله من اختراعات وابتكارات رائعة في الحياة، هو يشهد بعظمة الخالق الذي أبدع (الإنسان)، حيث قال: [الإنسان نفسه هو آية من آيات الله مهما أبدع هو فهو شاهد لمن خلقه أنه الحكيم، وأنه المبدع، وأنه.. مهما أبدع الإنسان، أليس الإنسان الآن يبدع أشياءَ غريبةً في صناعاته، في اختراعاته؟ طيب ما يزال شاهداً على أن من أبدعه هو. كُلّ ما يأتي على يده، كُلّ ما يتجلى على يده هو شهادة لمن أبدعه هو، لمن خلقه، لمن صوره، لمن خلق الحياة هذه. وإلا تجد كُلّ ما في الحياة ما أتى الإنسان بجديد أساساً، ما أبدع هو, يعني ما فطر بمعنى الكلمة من عدم, كلها شغل لما هو مودع في الحياة. عندما تأتي تشرَحُ مثلاً جهاز معين هل تجد فيه حاجة ليست من الأرض؟ كلها مما خلقه الله، الكهرباء موجود، المعادن موجودة، بلاستيك، نحاس، حديد كلها موجودة، إنما يأتي الإنسان يعمل دوائر كهربائية، يعمل حاجة فيها قليل كبريت، أو قليل قصدير، أو قليل ملح، أو أية حاجة من هذه، كلها ليست إلا من هذه].
ثالثاً:ــ ليس المقصود بالآية [فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا] هو ذم الدنيا
أوضَحَ الشَّهِيْدُ القَائِدُ بأن اللهَ هنا يذُمُّ من سعى للدنيا فقط.. وترك الدين الذي يُوصل لـ(الدين، والدنيا) معاً. حيث قال: [عندما يقول: {وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}(النجم29) يعني هو ذهنيته مستغرَقة في الموضوع وبشكل مغلوط، يعني ما يفهم أن الدين له علاقة بالحياة، هذه الحالة هي قائمة عند الكثير من المسلمين خلي عنك الآخرين، الحالة هذه، هذا الشعور: [ما هو وقت اللدادة، ما هو وقت المقرى، ما هو وقت وعاظ، معنا شغل، معنا كذا] أليسوا يقولون هكذا؟ {ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ}(النجم30) وهو جهل هذا, هذا آخر ما عنده.. في هذه العبارة ما هو يعتبر تهكم بمن تفكيره هذا التفكير؟ معرض عن ذكر الله، ما هو متفرغ لهذا! مشغول، غارق في الدنيا. ما هو غارق في الدنيا؟ لكن الدنيا، الدنيا! ارجع إلى القرآن الكريم تجد كم تحدث الله عن الدنيا من وعود أن تستقيم إذا استقام الإنسان على هدي الله.. ترجع إلى الدين نفسه تجد كثيراً من تشريعاته مرتبطة بالدنيا. فعندما يأت واحد يريد مثلاً يوعظ الناس يقول: [لاحظتم أن الدنيا هذه ما تصلح {وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} إذاً الناس ينبذوا الحياة الدنيا!] ويقوم يوعظهم فقط من الدنيا! هذا ما هو أسلوب صحيح.. قل لهم أن يتجهوا إلى الدين بإخلاص، ويسيروا عليه، ويجعل الله كثيراً من الدنيا يستقيم تلقائياً بالبركات بالخيرات، تصلح تلقائياً، زراعات الناس تصلح، كثير من الكوارث الطبيعية ما تحدث، أمطار تتنزل].
القرآنُ.. لا يُعطي إلا من يتحرّكون له:ــ
ولفت الشَّهِيْدُ القَائِدُ -سَلَامُ اللهِ عَلَـيْه- بأن مَن ينطلقون في سبيل الله يؤتيهم اللهُ الحكمةَ، والمعرفة الجمَّة، ويهديهم لحل أية مشكلة قد تصادفهم، حيث قال: [ولهذا أن موضوعَ الجهاد في سبيل الله، حمْلَ مسؤولية الدين هي وسيلةٌ من وسائل المعرفة، باب من أبواب العلم. عندما تقحم نفسك في عمل في سبيل الله تجد بعد كم هناك عن مشاكل، وكم هناك من حاجة إلى حلول، وتجد مشكلة يتفرع منها مشاكل، وحل تجد له ذوق، تجد هناك حاجة ماسة إليه.هنا تزداد معرفة، تزداد هدى. لكن إذا أنت مقفِّل ذهنيتك ما هناك شيء, ما تهتم بشيء، وفي نفس الوقت تغلق على نفسك باب من أبواب المعرفة الواسعة الذي هو باب العلم حقيقة؛ لأن العلم بكل سعته، بحكمته هي في القرآن، والقرآن ما يعطي إلا من يتحركون له، ما يعطي أحد لو كان كيفما كان, لو كان عبادة كيفما كان وهو يجلس محله لن يعطيه شيئاً, أشياء بسيطة سيعطيه. لكن مع حركته في سبيل الله، يعني حمل قضية الدين بكل ما تعني، نصر دين الله، إعلاء كلمة الله، إرشاد عباد الله، دفاع عن دين الله, هذا العنوان الكبير تتحرك فيه, في القرآن الكريم تلمس كم فيه من هدى! كم فيه من نور، كم فيه من حكمة، كم فيه من معارف جمة؛ لأن الحياة هذه هي مطبوعة بالحركة، حركة على طول، لا يوجد وقفة فيها نهائياً].
القرآنُ معروفٌ حتى عند (الملائكة)، ويشهدون بعظمته:ــ
واستمر -سَلَامُ اللهِ عَلَـيْه- في حديثه عن (عطاء القرآن) لمَن يتحركون على ضوء هداه، حيث قال: [يعني عندما قال: {وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ} يعني أن القرآنَ معروفٌ لديهم, يعرفونه, ويشهدون بأنه مِن الله, ويشهدون على أن الله أنزله بعلمه.. تلاحظ أنه حتى الكلام الكثير حول القرآن الكريم الذي يعرضه الله في القرآن ما تعرف أهميته إذا ما هناك حركة قرآنية, ما تعرف أنت, لكن إذا عند الناس حركة قرآنية, يعني حركة تقوم على أساس القرآن, حاجة إلى القرآن, عودة إلى القرآن, تثقيف بالقرآن في الأخير تجد كُلّ واحدة من هذه أنه فعلاً على ما هي عليه في أن القرآن هام جداً, عظيم جداً, واسع جداً, وإلا فيمكن يأتي يدرسها واحد, يدرسها كلها {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}(الحشر21) ولا يعيرها أي اهتمام!.كلمة هامة جدا هذه, كبيرة جدا هذه الكلمة بما تكشف عن أهمية القرآن, لكن لن ترى أهمية قرآن ولا أهمية شيء وأنت معرض, ما لك دخل [وهل يجد واجد أبداً خلفاً منه؟! كلا لن يجده, ولو جهده جهده!] لن تجد شيئاً يمكن أن يكون بديلاً عن القرآن, أو يغني عن القرآن, لا تجد شيئاً على الإطلاق].
جُملةٌ رائعة.. من السهل الممتنع:ــ
قال الشَّهِيْدُ القَائِدُ -سَلَامُ اللهِ عَلَـيْه- جُملة رائعة تختصرُ ألفَ كلمة، تستحق الحفظ، والوقوف عندها، والاستدلال بها، وينبع منها لأي إنسان خطيب أو محاضر مادة خصبة للحديث ساعات طوال، ألا وهي قوله: [يعد الإنسان صاحب موقف، سواء تحرك أو قعد]..
فالقاعدون: هم أصحابُ موقف، شاءُوا ذلك أم أبَوا!! هم بقعودهم يحاولون التبرير لذلك القعود، بالثقافات المغلوطة، فيزيدون الطين بلة، ويزيدون من إثمهم بترويجهم للباطل، ويزيد إثمهم بمن يغرّرونه بكلامهم الخاطئ، فيصدقهم ويميل إليهم.
والمتحركون: هم أصحاب موقف صحيح بمقاومتهم للباطل، فيزدادون حسنات بأعمالهم، بتوعيتهم للمجتمع، ويزدادون حسنات بكل إنسان يتأثر بهم، وينطلق مجاهداً في سبيل الله.