نزاعات فنجانية وخوَنة بأثرٍ رجعي
حمود عبدالله الأهنومي
الاستنطاقُ للأحداث التأريخية المعاصرة التي حدثت منذ بداية الألفية الجديدة على مستوى الأمة العربية والإسلامية ووضعُها على طاولة بحث واحدة، وضمن سياقٍ متصل، يؤدّي إلى نتيجة واضحة لكل ناظر، وهو أن هناك مشروعاً غربياً وأمريكياً على وجه الخصوص يريد لهذه الأمة التمزُّق والتشرذم والضياع في غياهب النزاعات “الفنجانية” التي أغلبها مفتعل، ويشكِّل برامج وأنشطة رئيسة للمشروع التمزيقي الذي يعصف بهذه الأمة من أقصاها إلى أدناها.
ليس هناك شعب عربي أو مسلم بعيدٌ عن دائرة الاستهداف، حتى أولئك الذين يسارعون في حالة الاسترضاء للأمريكان، هم مستهدفون أيضا، والسعودية أكبر شاهدٍ صارخٍ على هذه الحالة، وأينما وجَّهنا النظر وجدنا هذا التفسير هو الذي ينسجم مع التطورات والمتغيرات الكثيرة والمتعاقبة، وما يُطْرَحُ من تفسيرات أخرى سرعان ما تسقط في أول اختبارِ سبرٍ لها.
ما يحدث في تونس مؤخرا وفي مصر وفي ليبيا وسوريا، وحتى في وسط منظومة أولياء أمريكا في الخليج من اختلافاتٍ بينية – شاهد أيضا أن حالة الاستهداف ليست خاصة بالمناهضين للسياسات الأمريكية والصهيونية في المنطقة؛ ذلك أن إغراق المنطقة بالمشاكل البسيطة والتي لا يجد لها المجتمعُ الدولي ولا أيٌّ من الدول الصديقة حلا!! هو بحد ذاته برهان على أن المشروع الأمريكي الصهيوني مخطَّطٌ له أن يكبر وينمو في ظل هذه البيئة المساعدة، فاستنزاف ثروات هذه البلدان، وإغراقها بالمشاكل “الفنجانية”، التي تتحول بقدرة قادر إلى مشاكل عويصة مستعصية على الحل، كل ذلك يراد من ورائه الاستهلاك العابث لمقوماتٍ نهضوية كبيرة وكثيرة تمتلكها هذه الشعوب وهذه البلدان.
مجمل القول أن هذا العدوان على بلدنا لا يتطلب تفسيراً بعيداً عن هذا السياق، وكل ما طرح من تبريراتٍ سخيفة لم يصدِّقها حتى الذين اختلقوها، أما عملاؤهم ومرتزقتهم من أبناء شعبنا فليس على أحد منهم سوى النظر إلى من يقف بجواره في هذه المعركة، ليكتشف أنه في المكان الخطأ، ولا أستنكف للمرة الألف أن أذكِّر أصناف العمالة هؤلاء أن حلفاً تقوده وتخطِّطُ له أمريكا، وتسعى فيه إسرائيل، وتشارك فيه بريطانيا، وتنفذه أسوأ الأنظمة العربية العميلة والخانعة، أنه حلفٌ شيطاني عدواني، لا يمتلك من الحق ولا من الخير نقيرا ولا قطميرا.
لم يوجدْ تحالفُ حربٍ في التأريخ، شنَّته قوى الشر والعدوان ضد بلد من البلدان، فانضم إلى صفوفه مقاتلون محليون من ذلك البلد، فائتمروا بأمر الغزاة المحتلين الأجانب، ونفذوا أجنداته، وهم يرونه ينتهك سيادة بلدهم، ويطمع في الاستيلاء عليها، وكانوا فيه مجرد تابعين أذلاء، مهانين، محتقرين، فجاء التأريخ ليتحدث عن هؤلاء التابعين الأذلاء بأنهم السادة والقادة فيه، وأن المعركة كانت معركتهم، وأنهم أهل للفخر والإشادة.
كلا.. لم يكن شيء من ذلك أبدا؛ فإذا كنتَ في حربٍ عدوانية يقودك فيها الأمريكي والصهيوني والمنافق، واستهدفت مئات الآلاف من أبناء جلدتك، ولم تدَّخر مدنيا ولا امرأة ولا طفلا؛ فأنت بالتأكيد أبعدُ ما تكون عن الحق، وهذه المعركة ليست معركتك الوطنية، ونتائجها سوف لن تكون في مصلحتك، وستظل دماء أولئك الضحايا تنادي عليك كلَّ يومٍ بالويل والثبور، وعظائم الخيانة والفجور، وستظل مقابرُهم شواهدَ حسية مادية على أنك كنت عبدا للشيطان، وأداة رخيصة بيد المجرمين من أول يوم.
أما إذا ظلَلْت دهرا تدَّعي شرف المواجهة لهؤلاء المعتدين؛ بأنهم اعتدوا وبغوا بحق بلدك، ومواطنيك، وفي لحظة من اللحظات انقلبتَ على عقبك، وانسلختَ من تأريخك المجيد، تحت أي مبرر كان، وبأية علة كانت، فإنك لسْتَ أكثرَ من خائن وعميلٍ ومرتزٍقٍ بأثرٍ رجعي، وذنبك أعظم، وخطيئتك أطم؛ ذلك أنك قد اتضح لك الأمر، وتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وتبريرك الارتدادَ والتأييدَ المتأخر للعدوان ليس سوى “علةِ خرقاء” التي لن تعدمَها في لحظة من اللحظات؛ اللهم إلا إذا كنتَ في موقفك السابق مرائيا مخادِعا، فهذا موضوعٌ آخر، يشير إلى أنك أداة نفاقية رخيصة، سكتَّ دهرا، ونطقت أخيراً خيانة وكفراً.
هل هناك أوضح من هذه الحقيقة إلا وضوح خسران الماشين في وحل المشاريع الأمريكية والصهيونية وعملائهم؟ وهل هناك أحقر من خدام أمريكا إلا خدام خدام أمريكا؟ وهل هناك خونة ألأم من خونةِ أولِ يومٍ سوى الخونة بأثر رجعي؟!.