النيابة العامة والدور المفقود!!
صارم الدين مفضل
صحيحٌ أن عملَها شابَهَ الكثيرُ من الأخطاء، لكن تظلُّ النيابةُ العامةُ هي المسؤولَ الأول عن الحقوق والحريات العامة والخَاصَّـة داخل الجمهورية اليمنية وفقاً للدستور والقانون، غير أنه من بعد ٢٠١١م وحتى اليوم تصاعد التجاهُلُ والتهميش لدورها بشكل خطير وكبير؛ بسبب ضيق أُفق وقلة عقل بعض المتحزبين والمتمصلحين ممن لا يعرفُ من القضاء الجنائي شيئاً، ويرى من تجربة ما تسمى بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مملكة قرن الشيطان نموذجاً يستحقُّ الاقتداءَ به بديلاً عن ما يعتقد أنه تجربةٌ غربية من دول “الكفر والإلحاد” بمسمى لم يعرفه التأريخ الإسْلَامي من قبل وهو “نيابة عامة”!!
مراحلُ ومنعطفاتٌ كثيرةٌ مرت بها الجمهورية اليمنية منذ ما بعد ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢م وحتى اليوم، وكان قرارُ إنشاء النيابة العامة من أفضل المحطات التي شهدت على قدرة اليمنيين العملية والفكرية وتزامنت مع إبداعات هيئة تقنين إحكام الشريعة الإسْلَامية فترة السبعينيات والثمانينيات..
وما نشهده اليوم من تجاهل لدور هذا الجهاز الهام لم يكن وليدَ اللحظة، بل رصدناه منذ اللحظة الأولى لتنفيذِ المبادرة الخليجية وما تلاها من تحرّكات وإرهاصات استمرت طيلة ثلاثة أعوام عجافٍ، وسجلت كبنود متفَّق عليها في ما سمي بمؤتمر الحوار الوطني الذي كان للإخوان المسلمين وبعض أفراد باقي الأطراف الأُخْرَى دورٌ كبيرٌ فيه؛ لتمرير عدد من البنود الخطيرة التي تمهّد للقضاء على كُلّ التجارب الرائدة في تأريخ اليمن الحديث.
وإلجاماً لبعض الأفواه الكائدة وقطعاً لكل لسان حاقد لا ينبغي تسليطُ الضوء على أخطاء أي جهاز من أجهزة القضاء والدولة عموماً، بعيداً عن الظروف العامة التي تعيشُها مؤسساتُ البلد عموماً، ومن هنا يستطيعُ أي باحثٍ متجرد أن يخرُجَ برؤية واضحة في حال أجرى دراسة استقصائية ميدانية تبين أن جهازَ النيابة العامة كان يقوم بدوره ووظيفته بشكل أفضل وعلى أعلى مستوى مقارنة بغيره من الأجهزة القضائية وغير القضائية.
وعطفاً على ذلك نؤكد بأن نظام النيابة العامة مأخوذ من الفقه الإسْلَامي الذي درسه المستشرقون الغربيون وشربوه سطراً سطراً، ومَن يطلع على ما ورد في كتب العلماء المسلمين حول الحسبة والمحتسب والاحتساب، يدرك هذه الحقيقة، ويعرف كيف استطاع الغربيون تطويعَ تلك الأفكار والتجارب والتدوينات الإسْلَامية إلى قواعدَ وإجراءاتٍ وأدخلوا عليها بعضَ التعديلات والزيادات بما يتناسَبُ مع المتغيرات والحاجيات في المجتمع الغربي ليحصلَ من خلاله التكامُلُ اللازمُ؛ لصون وحماية حقوق المواطنين والمجتمع ككل وبشكل مجرد عن أي تمييز أَوْ مفاضَلة أَوْ اقصاء.. وهذه هي الغايةُ والمقصدُ الشرعي لنظام الحِسبة في الإسْلَام.
وإذَا كان آلُ سعود قد شوّهوا القيم الإسْلَامية السامية من خلال التطبيق السيء لها على أرض الواقع، إمَّا بالتشدد المفرط تجاه بعض الأمور البسيطة والتافهة كتقبيل الحجر الأسود أَوْ زيارة روضة الرسول وقبور المسلمين.. أَوْ بالتساهل والتجاهل لعظائم الأمور التي لا يجوز السكوتُ عليها كاستباحة الدماء والأموال والأعراض بالباطل وبدون وجه حق وتحت ذرائعَ ما أنزل الله بها من سلطان!
وما تجربةُ هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية “قرن الشيطان” إلّا واحدة من تلك الشواهد التي تؤكد على مستوى تعمد الإساءَة لقيم الإسْلَام الحنيف، لدرجة أنها تحوّلت لهيئة الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، حَدّ وصف المواطنين السعوديين أنفسهم، وهذا هو الواقع للأسف الشديد، حيث يتم التشديدُ تجاه أمور تافهة كقيادة المرأة للسيارة مثلاً، بينما يتم تجاهل الملاهي الليلية التي يديرُها أمراء من الأسرة الحاكمة، كما هو معروفٌ ومشهورٌ لدى الجميع!
لكنَّ ذلك لا يعني أن نحكُمَ على مبدأ مهم من مبادئ الإسْلَام كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من منظور التجربة الوهابية التي تعمدت إساءة هذه التسمية على هيئة كهذه لمجرد الإساءة والتشويه لهذا المبدأ الإسْلَامي العظيم، وخلق بيئة غير متقبلة ليس لهذا العمل بل وحتى لسماع اسمه.
ليس هذا المبدأ فقط من تم التلاعب والتآمر عليه، بل لقيت العديد من القيم والمبادئ والقواعد والاحكام وحتى نصوص وآيات من القرآن الكريم نفس المصير، وتم افراغها من مضمونها، حتى صار من الصعب اليوم تقبلها في الذهنية الجمعية والفردية للمواطنين، ولذا لا بُدَّ من إيجاد خطط استراتيجية تتكفل بإحداث النقلة أَوْ النقلات اللازمة لإعَادَة الأُمّة الإسْلَامية لجادة الصواب بذات المصطلحات الإسْلَامية، القرآنية والمحمدية، وبالتزامن مع معالجة الانحرافات الذهنية والتطبيقية أَوْ المسلكية في واقع وحياة الناس.
من هنا اعود للتذكير بأهميّة التفهم والوعي بأهميّة الاحتفاظ بتجربة النيابة العامة وتصحيح بعض المفاهيم العامة فيها لربطها بالمبادئ الإسْلَامية السامية، وكذا دعم الصلاحيات والمهام والاختصاصات المخولة لها، وإعَادَة تقييم الأمور وفْقاً للتجارب الإنْسَانية الناجحة بما لا يتعارض مع ثقافتنا القرآنية ومبادئنا وثوابتنا الإسْلَامية المستمدة من القرآن ومن رسول الله صلى الله عليه واله وأئمة وأعلام أهل البيت عليهم السلام.