أنصارُ الله والالتزامُ بمبدئية القُـرْآن في ميدان المواجهة
عبدالرحمن محمد حميد الدين
على مَــرِّ تأريخ الصراع بين الأمم والشعوب كان هناك نوعان من الحروب: حربٌ ليس لها أيَّةُ ضوابطَ ولا أعراف، وهي خاضعةٌ لـ(عوامل القوة)، ونوعٌ آخرُ من الحروب كانت تخضَعُ لبعض الضوابط التي كانت الأعرافُ العامة والخَاصَّـةُ وبعضُ الأيديولوجيات هي ما يحكُمُها ويضبُطُ إيقاعَها. وبغض النظر عن مدى سلامة تلك الأعراف والضوابط إلا أن الغالب على تلك الحروب -حتى الخاضعة منها لبعض الضوابط- هو الوحشية والبطش والمكر والغدر والفتك دون مراعاة لأيَّة قيم أَوْ أَخْلَاق أَوْ إنْسَانية..
وبإطلالة سريعة على التأريخ القديم والحديث نجد أن ثمة ثقافةً كانت ولا تزال مترسخةً في أذهان الأمم والشعوب والتي تعتبِر أنّ (البقاء) هو للأقوى وللأكثر بطشاً وفتكاً ومكراً؛ ولذا كان الجانب الغالب والمسيطر على حياة هذا الإنْسَان في هذه الأرض هو الظلم والاستضعاف والاستغلال، حتى أَصْبَح القوي يأكل الضعيف على مستوى الأفراد والجماعات والأمم دون اكتراثٍ لأية قيم ولا أعراف، بل أَصْبَح من ينادي بالقيم في إدَارَة دفة النزاعات يُشار إليه بالضعف والسطحية..!!.
كثيرةٌ جدًا هي الشواهد التي سجّلها التأريخ على سطح هذه المعمورة من حروب ونزاعات تجاوزت نواميس السماء ومواثيق البشر.. ولسنا بحاجة لعرضها أَوْ الخوض في تفاصيلها؛ لأنه لا يكاد يمر عامٌ أَوْ عقدٌ من الزمان إلا ونسمع عن حرب بين دول معينة أَوْ بين أمم وعرقيات وطوائف..
وخيرُ شاهدٍ لها في عصرنا الحديث هو الحربان العالميتان الأولى والثانية، والتي اشتعل فتيلَها بين الدول الغربية الكبرى وكانت حروبًا يندى لها جبين الإنْسَانية؛ لشدة ما مورس فيها من قتل بالجُملة وبأفتك وأحدث الأسلحة التي لم تكُ تخضعُ لأيِّ قانون ولا مبادئَ، وكانت الدول الأطراف ترى في (الأَطْفَال والنساء والعُزّل) أهدافًا مباشرةً مثلها مثل بقية الأهداف العسكرية وبصورة وحشية يصعب وصفها أَوْ حتى تخيلها..!!
ولكي لا نذهبَ بعيدًا في وَصْفِ (الوحشية) التي كانت تُدار بها تلك الحروب نجد أن (العدوان الصهيوأمريكي السعودي) على اليمن أرضًا وإنْسَانًا يمثل أبشع وأفظع عدوان على مرّ تأريخ الإنْسَان وعلى مر تأريخ الحروب والنزاعات.. سواء في أسباب ذلك العدوان أَوْ في تكتلاته التي تجمع المتناقضات، أَوْ في أساليبه الوحشية التي لا يتخيلها بشر، أَوْ حتى في مطامعه..
وما يعنينا في هذه السطور هو مدى خضوع دول (العدوان الأمريكي السعودي) للقيم الدينية والأَخْلَاقية، وللمواثيق والأعراف الدولية.. فمدى التزامها بتلك القيم والأعراف في حربها على اليمن أَصْبَح واضحًا للعيان وللعدو قبل الصديق، فقد تجاوزت دول العدوان كُلّ المواثيق وخرقت كُلّ الأعراف، وبوحشية لا نظير لها وبإجرام لا يُقاس عليه إجرامٌ.. حيث اجتمع في هذا العدوان شِرارُ الدول وأقوى الأنظمة وأكثرُها غنىً وتصنيعًا للأسلحة الحديثة والفتاكة، وأوحدُها سيطرةً على قرارات وسياسات الأمم المتحدة.. عدوانٌ اجتمعت فيه الأسلحةُ العسكريةُ والاقتصادية والبيولوجية والثقافية والإعلامية.. ولا تكاد تمُرُّ الدقيقةُ والساعةُ واليومُ إلا وترتكب دولُ العدوان جريمةً أَوْ مذبحة.. فضلاً عن (الحصار المطبق) براً وجواً وبحراً، وهو ما يميِّزُ هذا العدوان عن سائر الحروب في تأريخ الصراعات..
إنَّ وحشيةَ دول العدوان وبشاعة أساليبها وعدم التزامها بأية مبدئية لا يحتاجُ إلى إثبات، فقد أَصْبَحت بعضُ شعوب ووسائل إعلام الدول المعتدية هي من يتحدث عن الجرائم الإنْسَانية لحكوماتها في اليمن وبالشكل الذي يضع تلك الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في موقفٍ محرج تجاه شعبها وتجاه شعوب المنطقة، فقد اتضح أنّ عناوين (حقوق الإنْسَان) و(الديمقراطية) ما هي إلا شعاراتٌ كاذبةٌ وزائفة تم دفنُها مع أشلاء أَطْفَال ونساء اليمن..
وعندما نتوجَّهُ للطرف الآخر والمقابل لدول تحالف العدوان الأمريكي السعودي والمتمثل في (الشعب اليمني) بجيشه ولجانه الشعبية وفي مقدمتهم (أنصار الله) الذين يتصدّرون الدفاعَ عن حياض هذا الوطن، سنجد أن أنصارَ الله لديهم من المبادئ والقيم ما تنوءُ به الكتبُ والمجلداتُ التي يثقلُ عليها استيعابَ المواقف الأَخْلَاقية التي يحملها أنصار الله في مواجهتهم لدول العدوان..
إنها بحقِّ قواميسُ سيخلِّدُها التأريخُ وسيتناقلُها الأجيالُ بمختلف طوائفهم وعِرقياتهم، وستكونُ اليمن أرضًا وإنْسَانًا (مهوى الأفئدة) ومحط الرحال التي ستتلهف لرؤية هذا الشعب عن قُرب..
فعندما تقومُ دولُ العدوان بقصف المنازل والأحياء السكنية يرد اليمنيون بقصف القواعد العسكرية.. وعندما يُغير طيران العدوان على الأَطْفَال والنساء يرد اليمنيون بقصف مرابض الطائرات الحربية.. وعندما تستهدف دول العدوان الصيادين والمزارعين وطلاب المدارس ومجالس العزاء يرد اليمنيون باستهداف جنود ومقاتلي ومرتزقة دول العدوان في جبهات القتال.. وعندما تخرق دول العدوان الهدنة وتستغلها لتفتك باليمنيين وبجيشه ولجانه، يرد اليمنيون بأَخْلَاق المحارب ويلتزمون ببنود الهدنة؛ حتى لا يُحسب في دينهم وأَخْلَاقهم وقيمهم فتكًا وغدرًا..
وليست هذه المبادئ والقيم التي يحملُها أنصارُ الله إلا أحد الشواهد على عظمة الإسْلَام و(عظمة القُـرْآن) الذي يصنع تربية تليق بهذا الإنْسَان وتحفظ له كرامته وتجعل من مبدئيته قوةً، ومن أَخْلَاقه حصانةً، ومن التزامه بأسًا شديدًا..
إنَّ الأدبياتِ التي تتحكَّمُ بتوجُّهات الجيش اليمني ولجانه الشعبية، وفي مقدمتهم أنصار الله، هي (مضامين القُـرْآن الكريم) الذي ملأت صفحاته آلية التعامل مع أَعْدَاء على شاكلة مثلث الشر (أمريكا وإسرائيل والسعودية).. حيث يقول السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه) في الدرس الحادي والعشرين من دروس رمضان: أن القُـرْآن ((يقدم للمسلمين أنه يجب أن يكون عندهم التزامات بمبادئ معينة في صراعهم، تبدأ من داخل أنفسهم، أن لا يكون عندهم تصور بأن هذا قد يتيح للعدو فرصاً، وأنه قد يؤدي إلى ضياع فرص، وأشياء من هذه، أبداً لا تحصل هذه، الله هو رقيب على الجميع، لا تتصور بأنه شيء أمرك الله به يعتبر إضاعة فرصة لك، والأفضل أن تكون هكذا [متلون متقلب] تغدر وتمكر وتخون؛ من أجل تتمكن من عدوك..)).
ويقول أيضاً في نفس الدرس: ((افهم بأن التزامك بمبادئ الدين في ميدان المواجهة لن يضيعك الله أبداً {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ}، {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ} ماذا يعني؟ هو سيكفيك لا تخف، لا تخف إلا من ماذا؟ من أن لا تلتزم بهذه المبادئ في ميدان المواجهة؛ لأنها مبادئ مهمة، مهمة في التأثير في نفسية العدو…)).
إذاً فليس من يلتزم بمبدئية الدين والأَخْلَاق يكون عرضةً للخداع أَوْ الخيانة أَوْ الاستغلال، فمن سنن الله سبحانه وتعالى أنّ هذه المبادئ والقيم هي من يهيئ العدو لأنْ يكون (الحلقة الأضعف) في ميادين الصراع ويجعله تحت رحمة المؤمنين والمستضعفين.. مهما بدت تلك القيم كعوائق في القضاء على العدو، إلا أنها في الحقيقة ووفق سنن الله التي لا تتبدل، ستكون هي القاصمة والمؤثرة على المدى القريب والبعيد.. ومما قاله السيد حسين بدر الدين الحوثي في الدرس الحادي والعشرين من دروس رمضان: أن القُـرْآن الكريم ((جاء بمثال واضح: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ}(المائدة من الآية:11) فلا تقول: نحن عندما نلتزم قد نعطي فرصة للعدو، وقد.. وقد يتمكن ثم.. إلى آخره، الله يقول هنا: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} من حيث لا تشعرون، وفي وقت ما قد دخلتم في التزامات قائمة على أساس توجيهه مع آخرين، فإذا هو كف أيديهم عنكم من حيث لا تشعرون ألن يكف أيديهم عنكم؟ ألن يكونوا هم الخاسرين، ألن يحبط كيدهم عندما يفكرون أن يستغلوا فرصة معينة؟)).
وحتى في إطار المواثيق والهُدَنِ التي قد تحصلُ بين المؤمنين وبين أعدائهم، لا بد من الالتزام بتلك المواثيق، حتى وإنْ كان من المتوقع هو النكثُ والخيانةُ من ذلك العدو.. ومما قاله الشهيد القائد في الدرس الرابع من دروس رمضان: ((ألم يقل هناك: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(المائدة: من الآية8)؟ في نفس الوقت في حالة القتال مثلاً، في حالة المواجهة يمكن للمؤمنين أن يكونوا ملتزمين بمبادئ القتال وفيِّين في مواثيقهم إذا دخلوا في مواثيق في هدنة وفيِّين لا يحصل منهم نكث، في نفس الوقت يلتزمون بالآداب، مثلا لا يقتلون شيبة لا يقتلون طفلاً، أليس هكذا كان يحصل في توجيهات رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) للمسلمين؟)).
وقد يتساءل أحدُنا بأنه إذا كان من الأَخْلَاق هو الالتزامُ بالهدن والمواثيق فما الذي جعل إسرائيل تستغلُّ تلك الهدن وتنتصر على العرب في حرب النكسة وغيرها من الحروب..؟!! يجيب الشهيد القائد على هذا التساؤل في الدرس الحادي والعشرين من دروس رمضان.. ومما قاله (رضوان الله عليه): ((قد تكون أخطاء مثلاً عندما يكون الطرف الذي يمثل المؤمنين ليس طرفاً بمستوى أن يكون جديراً بأن يمثلهم فعلاً في موضوع مثلاً إما دخول في هدنة، أَوْ ميثاق، أَوْ أي شيء معين، أما هذا فيجلب فعلاً شراً، مثلما كان تعمل إسرائيل مع العرب، أليسوا يتقاتلون فترة ثم يدخلون في هدنة؛ لأن مسألة الهدنة، مسألة ميثاق، هذه الأشياء تقيَّم، وتقيم على اعتبارات متعددة، ومن جهة خَاصَّـة جديرة بأن تمثل المسلمين فعلاً، عندما لم يكونوا جديرين بتمثيل الأمة هذه، أَصْبَحت تلك الهدن كلها لصالح العدو..)).
وَيؤكد السيدُ حسين بدر الدين الحوثي على أن عدمَ وجود (قيادة جديرة) بتمثيل العرب والمسلمين في الدخول في هدنة أَوْ ميثاق مع إسرائيل هو ما جعل كُلّ تلك الهدن والمواثيق تصبُّ لصالح إسرائيل.. ويشير الشهيد القائد إلى أن تراخي العرب وقت الهدنة وعدم اهتمامهم واستغلالهم لفترة الهدنة في البناء والإعداد هو مما جعل العدو يستفيد من الهدنة.. ومما قاله (رضوان الله عليه) في الدرس الحادي والعشرين من دروس رمضان: ((لكن العرب عندما كانوا يدخلون في هدن، كانوا يدخلون في هدنة لم تقم على أساس تقييم صحيح، ثم في نفس الوقت لا يهتمون ببناء أنفسهم كما يهتم العدو ببناء نفسه، ينخدعون به وهو شغال يبني نفسه وبدا عليهم من جديد وضربهم، ولا قيادات جديرة فعلاً بكثير من الأشياء هذه التي وعد الله بها المؤمنين، لأنه قد يكون بعضهم لا يختلفون فعلاً عن قيادات العدو)).
ومن الإيجابياتِ العظيمةِ التي يصنعُها الالتزامُ بمبدئية القُـرْآن في ميادين الصراع هو (الجاذبية) التي تشدّ الآخرين نحو الفئة المبدئية، وتجعل الطرف المعادي في حيرةٍ من أمره..!! بل إنّ هذه المبدئية تصنع (فجوة) عميقة بين قادة الأَعْدَاء وبين شعوبهم، وهو ما حدث بالفعل بين قيادة النظام السعودي وبين شعبه الذي يستغرب كيف أن اليمنيين رغم المجازر والمذابح اليومية إلا أنهم لا يردون بالمثل أَوْ يستغلون تغلغلهم إلى عمق نجران وعسير وجيزان ليستهدفوا أهلها وقاطنيها..!!
ومما قاله الشهيد القائد في ذلك في الدرس الرابع من دروس رمضان: ((من الأشياء التي تشد الناس إلى المؤمنين عندما يكونون أولي بأس شديد وعندما يكونون في نفس الوقت أوفياء مبدئيين، الطرف الآخر يرى ضربات شديدة يراجع حساباته فيجد أمامه أمة ذات قيم ومبادئ وملتزمة تمثل نموذجاً عالياً عنده، يقول: إذاً لماذا أتحمل ضربات من هذا النوع على لا شيء وهي أمة عظيمة على هذا النحو فيكون هو قريب أن يدخل معهم، لاحظ كيف تربية القُـرْآن تأتي بالشكل الذي تكونُ لها إيجابية)).
ومن الغريبِ أن تلك المبدئيةَ تصنعُ قوةً ورعبًا في نفوس الأَعْدَاء، وتصنعُ في نفس الوقت جاذبيةً نحو ذلك الدين ونحو تلك القيم التي يحملُها أصحابُها؛ لتعطيَ في نهاية المطاف (بأسًا شديدًا) يصاحبه (تحولات نوعية) تتجاوز الكثير من المحطات وبأقل كلفة.. ومما قاله الشهيد القائد (رضوان الله عليه) في الدرس الرابع من دروس رمضان: ((في الأخير يقيِّم مجتمعه، ويقيِّم هذا المجتمع يقيِّم ما لديه من مبادئ وقيم يتلقى من أجلها ضربات شديدة وما الآخرون عليه، وفي الأخير يصبح موضوع القوة والشدة شيء يجذب الآخر فعلاً، في الأخير قد عنده رغبة أن يكون مع أمة على هذا النحو: قوية في مواقفها ثابتة في مواقفها مبدئية وفية، قيم، صدق، أمانة… إلى آخره)).