إرهاب فكر أم انقلاب عقيدة؟!
أشواق مهدي دومان
باغتيال أستاذ جامعي في وضح النّهار يعود الإرهاب الفكري، ونتذكر هنا الدكتور أحمد شرف الدين، والدكتور عبدالكريم جدبان، والعلامة المرتضى بن زيد المحطوري وغيرهم كُثْــرٌ ممن جاهدوا بالكلمة فكان الانتقام منهم تكميم أقلامهم، ووأد حروفهم إلى الأبد، وهذا إنْ دلّ على شيء فإنّما يدل على حالة العجز التي وصل إليها أعداء الحق، وقتلة الفكر، وبهذا عادت داعش إرهاباً للعقول، عادت لتفصل روحَ العقيدة عن جسدها، فالله يشدّد، وَيشيد، وَيحرّض، وَيخاطب، وَيُسائِلُ العقل والفكر في أكثر من مائة موضع في القرآن الكريم مستخدماً أساليب متنوعة لخطاب النّفس بما يتناسق وطريقة تفكير المخاطب، حيث يتيح للأرواح حرية اختيار الخطاب والمساءلة فيقول:
أفلا تتفكرون، ويقول: أفلا يتفكرون، ويقول: أفلا تعقلون وكذلك: أفلا يعقلون، مخاطبا الظاهر، ومذكّراً الغائب باستخدامه واو الجماعة كضمير جمعي، يوحي ويشير إلى حقيقة العمل الجمعي، فالمرءُ لا يقدر على تغيير ثقافة ما بمفرده، وقد وجب عليه أن يخاطب الجمع، ومن بعد اعتناق الجمع لفكره تتم الحركة الحلقيّة المتّصلة بشكل جماعي؛ وَلأنّ قضيّة التّداعي فطرة في البشر، فحينَ يوجد الخيّر يستدعي من على شاكلته، فيتم التّداعي للخير والاعتصام به، والالتفاف حوله، وكذلك بالنسبة للشّر فجمع الأشرار يتحالف ويلتف حول حبل الشّيطان (أكان إنسيًّا أم جنّياً)، فتتداعى الأرواح الشّريرة!!
وفي خطابِ الله للفكر والعقل لم يقل: أفلا تعقل؟، أفلا تفكّر، ما يوحي بأنّ الخيرَ له جمهوره، والشّر كذلك له خدّامه؛ ولأنّه (سبحانه) العالم الشّاهد الشّهيد، فقد خاطب العقل الجمعي الممثّل: بواو الجماعة فنجد أنّ من يقوم بفعل اغتيال إنْسَان إنّما هو فرد من مكوّن، فهناك الفاعل الحقيقي للفعل وهو المعتقد بثقافة إعلان الحرب على الله.
اللهُ المانحُ لكلّ إنْسَان عقلاً ليفكّر به لا أن يقتله إنْسَانٌ غيره، وَإلا ما خلقنا الله بعقول، ولا خلقنا بني إنْسَان، فلو شاء لخلقنا وحوشاً في غاب يقتل قويُّنا ضعيفَنا، وَبهذه الفوضى تعُمّم شريعة وقانون الغاب، ونصبح من عداد مَن:
لا يتفكرون، ولا يعقلون، وهنا الهوّة بين القاتل وبين الله، فالله خلقنا لنحيا بالعقل والفكر الذي نختاره نحن، ولا يحقّ لمتطفّل كائناً من كان أن يفرض علينا عقيدته وهواه، فأتيتَ – أيّها القاتل – وبكل سهولة لتقول لله:
يا الله سأخالفك فأنت خلقتَ هذا الشّخص، الذي لا يتناسق فكره مع عقليّتي الوحشّيّة، الحيوانيّة الغرائزية؛ ولأنّه يخالفني في الرأي فإنّي قد وجدتُ اغتياله، وقتل فكره، والتّخلّص منه أفضل.
وَمع تلك العقليّات الممسوخة يستمر الخطاب الإلهي لهم؛ لإقامة الحجّة عليهم قائلا لهم: لعلّكم تفكّرون، ولعلّكم تعقلون، شفقة من الله وتنزيها لذاته وأسمائه وصفاته من أن يكون ظلّاماً لعبيده، ولكنّهم يستمرّون في ضلالتهم وغيّهم، متحدّين جبّار السّماوات والأرض، متخذين البشر أرباباً لهم من دون الله، يأتمرون بأمرهم، وَيصدّقونهم في تغييب العقل، والالتذاذ بمخالفة الله، وحينها يصابون بالفقر في عقيدتهم، وعقولهم، وَيصبحون الجبناء في مواجهة انهيارهم حدّ سقوطهم عن تكريم الله لهم بالعقل.
نعم: يغدون الجبناءَ، فلا نامت أعينهم، وَلو كانوا رجالاً فيهم ذرّة من شجاعة لواجهوا وناظروا الفكرَ بالفكر، وَالحرف بالحرف، وتركوا حريّة تبارز الثقافات، وتكلّم المنطق، ولكنّهم عجزوا عن كلّ ذلك، وَغدوا فقراءَ من الإنْسَانيّة، فقراء من الفضيلة، فقراء من قيم الرّجولة، فقراء أخلاقيّا، ونفسيّا ومعنويّا، فقراء في فهمهم لذواتهم، فقراء في عقيدتهم واعتقادهم بأنّ الله هو وحده مصدر ومركز وكون الأمر والنّهي وحده، لا يشاركه في ذلك مستكبر، أَوْ ظالم، أَوْ مستعمر في الأرض.
وأمّا هم فما هم إلّا أداة المستعمرين، وما هم سوى عبَدة دراهمهم، وَدنانيرهم، ما لهم قضيّة ولا لهم شرف.
ولأنّهم الجبناء والفاشلون فلا فكر لديهم، ولا حق معهم، فلا يستطيعون مواجهة الرّجال؛ ولهذا لجأوا لغدر اليهود، فقد تولّوهم، واتخذوهم أرباباً ينفّذون مخطّطاتهم، ويقتفون آثارَهم؛ ظناً منهم أنهم ينتصرون باغتيال رجال الكلمة، وأحرار الفكر، وما عرفوا أنّ أقوى ما يهزم غطرستهم، وَيشتّت شملهم هو دماء الأنقياء، ورثة الأنبياء، وحمَلة رسالة العلم.
ما عرفوا أنّ اللهَ يقدّس دمَ عبده وهو (الله)، من خلق وإليه الرّجوع، ليأتوا، وَيحاربون الله، وَيعارضون إرادته في أن خلق عبادَه ليحيوا بسلام، وَبفعلهم القتل في عباد الله، فليأذنوا (وهم الإرهابيون) بحرب من الله ورسوله والمؤمنين، “وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ”..
وليضعوا خطّا بالأحمر تحت كلمتي:
منقلب، وَينقلبون، وليتيحوا لأنفسهم فرصة للقاء هذه الآية الكريمة في غير لحية تكفيري وهابي إخوانجي، وفي غير بدلة أكاديمي مرتزق صاحب كرفتة، وفي غير لقب دنيوي، وفي غير مقهى في الرّياض أَوْ تركيا أَوْ دبي أَوْ مصر أَوْ بيروت أَوْ… إلخ وفي غير فكر ظلام ي فتنوي تحريضي ناصبي، وفي غير صفحة مفسبك عدواني مريض نفسّيا،
ليتيح ذلك القاتل لنفسه فرصة لقاء آية من آيات الله، بل لقاء كلمتين فيها تحاكمان ضميره، وَصحّة إسلامه في ركعتين في جوف الليل، بعيداً عن أضواء أبراج وناطحات سحاب أوليائه.
لتلتقِ – أيّها الظّالم – بالله في اتصال مباشر ولتقرأ: “وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ”؟!!!
لتتيقن وتؤمن بأنّ ظلمك هو انقلاب، ولكنّه ليس انقلاباً على زعيم شرعية داعش، ولا انقلاباً على داعي فتنتهم، ولا انقلاباً على ولي نعمتهم وهم السّاكنون في فنادقه، وشققه، وقصوره موالين له وَلربّه أمريكا وإسرائيل، بل إنّه انقلاب على الحي القيّوم الذي لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم.
وكفى..