لماذا لم يتوحد العرب؟!
رسلان حلبي
ما الذي حَدَثَ لنا حتى وصلنا إلى هذه الدرجة من الانقسام والصراعات فيما بيننا؟.
في الخمسينيات كانت الحناجر تصدَحُ بالوحدة العربية، كرد على جرح فلسطين وفاتحة لاستعادتها، إلى درجة أن لهفتنا إليها جعلتنا نعيشُ الحلم وكأنه تحقق، فأنشدنا “منَ المحيط إلى الخليج.. من المحيطِ الهادرِ.. إلى الخليجِ الثائرِ.. لبيك.. عبدالناصر.. تفَجّري يا أرضُ باللّهَبْ.. وأشرقي يا دولة العرب!.. مواكباً مواكباً نسير كالرعود.. للشعب، للقوافل السمر، لنا الخلودُ.. إلى الجحيم هذه الأسوار والحدود ”. وانتهينا إلى ما نحن عليه الآن، فالأسوار ارتفعت والحدود تكاثرت، وعدنا شعوباً وقبائل وعشائر وبطوناً وأفخاذاً وحمائل وحارات بل وطوائف ومذاهب لا لنتعارف ونتوحّد بل لنتصارع.
خلال سبعين عاماً جَرَتْ مياهٌ كثيرةٌ تحت جسورنا، كنّا نريدُها وحدةً عربيةً اندماجية، وفعلناها، فكانت الوحدةُ المصرية السورية، التي لم تستمر لثلاث سنوات ونصف إلا بفضل اندفاع السوريين الوحدوي وكاريزما عبدالناصر.
وبعد الانفصال تواضَعَ حلمنا شيئاً فشيئاً، فكانت مسيرتنا التنازلية من الوحدة إلى الاتحاد ثم إلى التضامن ثم إلى التنسيق. ووفق هذه المسيرة لم يكن مفاجئاً أن ننتهي إلى ما نحن عليه؛ لِأَنّ عوامل الفرقة، وعلى رأسها تبعية أنظمة عربية للغرب، كانت أقوى من عوامل التوحّد، وهذا من قبيل سخريات الأقدار، فعوامل توحّدنا لا تقارن بعوامل توحّد أية أمة، من لغة وتأريخ وجغرافيا ومصير واحد وآمال مشتركة.
ورغم ذلك كنّا نسير في الواقع إلى مزيد من الانقسام والفرقة بل والتناحر. وكان ما يصدمنا أكثر أنه وعلى مقربة منا كان الأوروبيون، رغم ما بينهم من حروب ودماء ودمار وقتلى بمئات الملايين واختلاف في اللغات، يؤسسون لوحدتهم وينتقلون بها من درجة إلى درجة وفق خط تصاعدي حتى إلغاء الحدود بينهم.
هنا علينا أن نتذكر أن من بادر للوحدة الأوروبية هما ألمانيا وفرنسا، الدولتين الأقوى اقتصادياً في أوروبا، فالوحدة بين دول متفاوتة النمو مكلفة ويتحمّل أعباءها الأغنى، ويكفي أن نذكر أن الوحدة بين شطري ألمانيا كلّفت ألمانيا الغربية أكثر من ألفي مليار يورو، والأغنى إن لم يتمتع بالشعور القومي، كما في حالة ألمانيا، وبسعة الأفق والاستقلالية والتضحية والقوة والإرَادَة والتطلع للمستقبل فلن يجد دافعاً أو مصلحة له كي يتحمّل عبء الأفقر.
وهذا هو الفارق بيننا وبين الأوروبيين، فما كان يعوزنا ليس الإرَادَة وسعة الأفق والتضحية واستقلال القرار فقط، بل والمال أيضاً، وهذا للأسف كان متركزاً بدول النفط الخليجية، التي فوق أن حكامها لم يكن لديهم الشعور القومي والرغبة والإرَادَة وسعة الأفق والتضحية لتوحيد العرب، كانوا أيضاً عامل تخريب لأي جهد وحدوي تحرري. فمقابل الوحدة العربية كانوا يطرحون، على سبيل التعجيز، الوحدة الإسْلَامية، لنكتشف بمرور الزمن أن هذه الدول نفسها لم يكن لديها إرَادَة التوحّد مع بعضها رغم ثراءها والتشابه بين أنظمتها.
فخلال أكثر من ثلاثة عقود ونصف من تأسيسه لم يحقق مجلس التعاون الخليجي أية خطوة وحدوية بين دوله رغم تشابه أنظمتها وثراءها، بل كثيراً ما كانت خلافات أنظمته ومشاحناتها تخرج إلى العلن، وفي كُلّ مرة كانت تنتهي على الطريقة البدوية بـ “تبويس اللحى” فيما تبقى القلوب محتقنة، ومع دخول حاميها الأمريكي مؤخراً على خط العلاقات المتأزّمة بينها بهدف ابتزازها جميعاً تفجرت خلافاتها وبدأ نشر الغسيل الوسخ بينها، كما هو جارٍ حالياً.
والمفارقة أنها تتبادل الاتهامات بدعم الإرهاب، رغم أنه نشأ وترعرع في أحضانها وتحت أنظارها ورعايتها ودعمها المالي.
وقد كشف عادل الجبير وزير خارجية آل سعود الدور التخريبي الذي قام به نظامه في المنطقة، فرداً على تحميلهم مسؤولية التطرّف في المنطقة والعالم أعاد التذكير في كلمة له في بروكسل قبل أكثر من عام بالخدمات التي قدّمها آل سعود للغرب فقال: “لقد نجحنا بالتحالف مع الولايات المتحدة في التصدي للراديكالية العربية في الخمسينيات والستينيات، ونجحنا أيضاً في وقف التقدّم السوفييتي في المنطقة في فترة السبعينيات والثمانينيات وإخراجه من أفغانستان”.
ومؤخراً كشف علي عبدالله صالح قبل أن يُقْتَلَ وينقلَ بندقيته من كتف إلى كتف أن الملك فيصل حرض الرئيس الأمريكي جونسون في ذلك الوقت لدفع إسرائيل للتحرش بمصر عبدالناصر في سيناء؛ لإشغالها عن دعم الجمهوريين في اليمن وإضعاف نفوذها وتأثيرها على الشعوب العربية الموجه ضد أنظمتها الرجعية والمتخلفة والمتحالفة مع الغرب.
كلامُ الوزير السعودي يمثِّلُ اعترافاً واضحاً وصريحاً بالدور التخريبي الذي لعبه نظامه لتحقيق الانفصال بين مصر وسورية، واستنزاف مصر عبدالناصر لا سيما في اليمن. والراديكالية التي يقصدها هي كُلّ حزب أو دولة عربية تسعى للتحرر والتقدم ومعادية لـ “إسرائيل” والأحلاف الغربية وللسياسة الأمريكية المعادية لتطلعات الشعوب العربية، وبالتالي يعني كلام الجبير أن آل سعود كانوا في الصف المعادي لتطلعات ومصالح الشعوب العربية، على مذبح بقائهم متحكمين برقاب أبناء شعبهم، وواضعين ثروة بلادهم النفطية في خدمة مُخَطّطات حُماتهم الأمريكيين أعداء المنطقة ومصالح شعوبها.
لقد رفض آلُ سعود وحكامُ المشيخات في الخليج قبولَ عُضوية اليمن في مجلس التعاون الخليجي؛ لأنه فقير وتهرُّباً من أعبائه، لكنهم لم يبخلوا في شراء ذمم شيوخ القبائل ومسؤوليه لإبقائه تابعاً لهم وفقيراً، ولم يبخلوا في حربهم عليه التي تكلّف السعودية وحدها مبلغ ستة مليارات دولار شهرياً، فدمّروه وهجّروا شعبه وقتلوا الآلاف من أبنائه ونشروا الأوبئة والأمراض بينهم، وهم الآن في طور إعادة تقسيمه، هذا غير تدخلهم في سورية بدعم الجماعات الإجرامية المسلحة، “داعش” و”النصرة” وغيرهما، برعاية أمريكا ولصالح ” إسرائيل ” بهدف ضرب وحدة سورية وإضعافها، إضافة إلى رشوتهم لساركوزي والصهيوني برنار هنري ليفي، الذي أطلقوا عليه فيلسوف الربيع العربي، لصنع ثورة في ليبيا لتنتهي إلى الحال التي هي عليها الآن والتي لا تسر إلا الأعداء.
وبهذا تحوّل آل سعود ومشيخات الخليج المتناحرة من التخريب على أي توجّه وحدوي في المنطقة إلى التآمر لتقسيم الدول العربية الأخرى نفسها؛ ليستتب الوضع لأمريكا و”إسرائيل”، وتطمئن الأخيرة إلى مستقبل وجودها في المنطقة.
وحتى القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم تسلم من تآمرهم فيروجون حالياً للتنازل عنها تساوقاً مع قرار ترامب؛ باعتبارها عاصمة للكيان الصهيوني كمقدمة لتصفية القضية الفلسطينية بدعوى أن هناك ما هو أهم منها وهو مواجهة إيران بالتحالف مع أمريكا والكيان الصهيوني.
أخيراً وكما نلاحظ مما تقدم أنه عندما توفرت القيادة الكاريزمية والرغبة والإرَادَة لتحقيق الوحدة العربية كان ينقصها المال، فيما كان المال بحوزة أنظمة عشائرية متخلفة وتابعة للغرب وظفته ضد الوحدة والتقدم والتحرر فازدادت انقساماتنا وتناحراتنا وصراعاتنا وهذا ما نحن عليه الآن، وهذا ما سنستمر عليه حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.