اليمن والوطنية الجامعة
محمد ناجي أحمد
تجذَّرت الوطنيَّةُ اليمنيةُ بجغرافيتها الطبيعية الممتدة من المحيط الهندي إلى مرابع نجد عبر التأريخ، وكان للغزو الخارجي دورُه في استنهاض الانتماء اليمني ضد الغزاة..
في القرن السادس الميلادي كان الرومان يزحَفون إلى اليمن، فكانت مقبرتهم في الجوف شاهداً على عمق الرفض الشعبي لكل دخيل يريد أن يقضم الأرض والثروة والكينونة اليمنية.
صحيحٌ أن كُلَّ “الهُويات متخيلة” بمعنى أن كُلّ الهُويات هي نتاج التأريخ، لكن البعض يخلط عمداً بين مصطلح الهويات المتخيلة التي تحيل إلى النشوء التأريخي للانتماءات وبين “الهويات الوهمية” والقاتلة، التي يتم تخليقها بغرض ضرب الانتماء الوطني وتفتيته.
يتحدث (مكيافلي) في كتابه “الأمير” عن الضعف وعدم الثبات للسلطة التي لا تستند إلى قوى المرء الذاتية (في السعي وراء السلطة).
فكيف إذا كانت السلطة معتمدةً على عدوان خارجي، يعمل على استثمار العصبيات والهُويات المذهبية والجغرافية.
الوطنيةُ الجامعة تبنى على القوى الذاتية للوطن والوطنيين، وليس على سلطة خارجية دولية أو إقليمية، فطالما ظلت الحركة الوطنية قديماً تردد بأن “ما تجمعه الأوطان لا تفرقه المذاهب ونزعات السلطان” كشعار تنطلق منه وتؤمن به.
لقد كانت رسالة الإمام محمد بن يحيى حميد الدين إلى السلطان العثماني في الاستانة واضحةً وعميقةً في إدراكها للجوهر الوطني، حين أَكَّـدَ على أن اليمنيين لا يقبلون بظلم اليمني، فعزته وكرامته تعافُ ذلك، فكيفَ بظلم الغازي الأجنبي؟. وكفى بالغزو والاستعمار ظلماً لا يوازيه ظلم أو استبداد.
ولا زالت الذاكرةُ الوطنيةُ لليمنيين تتذكر الجزاء الذي ناله الإمام محمد بن يحيى المنصور في منتصف القرن التاسع عشر حين ذهب إلى الحديدة لاستقبال الأتراك، وقبل أن تكونَ اليمنُ تابعةً للأستانة، وهو والٍ لهم فيها، وحين عاد بألف وخمسمائة من الجنود الأتراك، تحركت الهممُ الوطنية، محاصَرةً له في قصره ببُستان السلطان، وأعلنت استباحة دم الأتراك أنِّى وُجدوهم، فكان الخروجُ الذليلُ لمن تبقى منهم سالماً، وانسحابهم إلى الحديدة، ولم تهدأ جموع اليمنيين حتى أقام الإمام علي بن المهدي حُكمَ الإعدام بالإمام المخلوع محمد بن يحيى المنصور.
هي الوطنية اليمنية التي لا تقبل الضيم ولا الخيانة والتواطؤ مع المحتل لأي شبر من أرض اليمن، فكيف بصنعاء محور الوطن ووحدته واستعادة كرامته!
لا يحقق العدوان مبتغاه في احتلال اليمن إلاَّ إذا وجّهوا سهامَهم نحو الوطنية الجامعة لليمنيين، بإضعاف صنعاء، وتأجيج “الهُويات الوهمية ”
استخدم الأتراك الورقةَ المذهبيّة، والجهوية، فكان لهم الاستيلاءُ على معظم الجغرافية اليمنية، ولقد أدرك أحدُ الرحّالة الفرنسيين ذلك حين زار اليمن في القرن التاسع عشر، متوقعاً عودتهم لاحتلال اليمن، وذلك من خلال توظيفهم لورقة التعدّد المذهبي والجهوي، وتحويل ذلك التعدد إلى آلية لإنهاك اليمنيين، بدلا من أن يكون كُلّ تعدد إثراء للمركز الوحدوي، وقوة اليمن المستقل.
وعلى هذا المنوال تسلّل الاستعمارُ البريطاني مستخدماً ومؤججاً للصراعات القبلية، والثأرات، في جعل كُلّ القبائل والمشيخات في جنوب اليمن عدوة لبعضها، ليكون الإجماع على طاعة المستعمر باتفاقيات الحماية والاستشارة، وتكون الفرقة والاقتتال فيما بين اليمنيين.
عملت بريطانيا على إنشاء سلطنات ومشيخات، وطمس أخرى من المشهد السياسي والجغرافي وفقا للولاء لها أو البراء منها ورفض الانطواء في مشروعها.
ولأن بعضَ الأئمة في اليمن كانوا يعون أن اكتمالَ الكينونة اليمنية لا تكون إلاّ باستعادة كامل الجغرافية الطبيعية لليمن –كان رفضُهم الدائم لسلطات الاستعمار في الجنوب، ومطالبتهم المستمرة بواحدية اليمن واستقلال إقليم اليمن، الذي يشمل اليابس منه والبحر والغطاء الجوي الذي يعلو أرضها وماءها.
استقلالية المركز -أي صنعاء- يجسّدُ دوماً السعي نحو تحقيق الوحدة اليمنية واستعادتها، فالمركز كقاعدة متمسكة بواحدية اليمن بموازاة الفكر الثوري كفيلان دوما باستعادة الوجود اليمني لجغرافيته ودوره الحضاري في المنطقة.
سقط رهان بريطانيا على الورقة الطائفية والمذهبية حين كانت تزرع الفرقة بين ما أسماه الغزاة بـ(اليمن الأسفل) و(اليمن الأعلى) وبين الشوافع والزيود.
كانوا يخوفون مشيخات الجنوب من الزيود، وما سمّوه بإمام الزيود. وحين قاموا في عشرينيات وبداية ثلاثينيات القرن العشرين بضرب المناطق اليمنية بتعز وبيت الفقيه ويريم والحديدة… إلخ، كانوا إلى جوار قنابلهم التي تلقيها طائراتهم لتقتل آلاف اليمنيين يلقون بقنابلهم المذهبية والجهوية التي تحملها منشوراتهم زاعمين أنهم يدافعون عن الشوافع ضد الزيود، وهي قنابل أشد فتكاً وإجراماً، ومع ذلك سقط الرهان، وظل اليمنيون ينتظرون تحقيق أملهم باستعادة الوحدة اليمنية كإطار جامع للحمتهم الوطنية.
بعد أن تحقق الأمل الوحدوي في 22مايو 1990م لم يسعَ نظام الحكم في اليمن لتنمية المضمون الوحدوي بثقافة وحدوية، بل عمل على النقيض من ذلك.
لقد جعل من اليمن الواحد فيداً وغنيمة يقتسمون ثرواتهم فيما بينهم كحكام، وينجزون أجنداتٍ أمريكيةً في تصفية ممكنات اليسار اليمني، فكانت حرب 1994م تتويجاً لسنوات من تجريف الوطن أرضاً وإنساناً.
وحين لم يبق في المشهد السياسي سوى تحالف قوى الحكم بعد إقصاء المختلف عنهم ممثلاً بالحزب الاشتراكي انتقلت تناقضاتهم إلى داخل بنيتهم، ممثلة بسلطة الرئيس علي عبدالله صالح من جهة، وفى التجمع اليمني للإصلاح من جهة أخرى، واستمرت الحوارات السياسية بينهم تنطلق على أرضية المحاصصات فيما بينهم، وحدود سلطة وثروة كُلّ طرف.
في هذا المسار من التنازع على السلطة والثروة، وإصرار علي عبدالله صالح على الاستفراد بالحكم، وإزاحة شركائه في انتخابات 1997م، وَ1999م، و2006م – نفد صبرُ قوى تجمع الإصلاح، وعبّر عنه ناطقُهم الرسمي الأستاذ محمد قحطان حين قال بأنهم سوف يلجؤون إلى ثورة تشبه ما سماه بـ “ثورة الفقيه سعيد “، ومن المعلوم أن حركة “الفقيه سعيد بن صالح بن يس العنسي، الهتاري، المذحجي” كانت تمرداً ضد سلطة الإمام الهادي محمد بن المتوكل أحمد، مستغلةً آلام ومعاناة الفلاحين في مناطق العدين وشرعب وإب، التي تسبّب بها مشايخُ ووجهاءُ ذي محمد وذي حسين، وغيرهم من مشايخ المنطقة؛ ليدعو لنفسه عام 1840م بعد انسحاب المصريين من تعز، متخذاً لنفسه لقباً سياسياً ودينياً، إماماً مهدياً. ص291-293-مائة عام من تأريخ اليمن الحديث –الدكتور حسين عبدالله العمري -1984م.
كانت انطلاقة الفقيه سعيد من “الدَّنْوة “قرية من عزلة بني محرّم في العدين، مكنياً نفسه “إمام الشرع المطهر المهدي”، ومضيفاً إلى ذلك كنية “المهدي المنتظر “. ص293-المرجع السابق.
لم تكن حركة الفقيه سعيد مستقلة عن أطماع الأتراك، فلقد كان له رحلة إلى عدة بلدان منها تركيا قبل عودتها إلى “الدَّنْوة” في العدين، وقيامه بحركته مستغلا حالة الفراغ السياسي التي تسبب بها انسحاب المصريين من تعز، وحالة التذمر الشعبي من ظلم مشايخ (برط) المالكين للأراضي الخصبة في إب، وظلمهم للفلاحين.
فاستدعاءُ حركة الفقيه سعيد من التأريخ الحديث لليمن، ورقة مذهبية وجهوية يلوح بها تجمع الإصلاح في وجه علي عبدالله صالح. وهو تلويح كشفت الأحداث بعد ذلك بأنه كان من مقدمات عدوان قفازات الغرب في المنطقة العربية.
ويُعَضِّدُ ذلك العمل طيلة عقود في تعز على تنشئة جيلٍ من الأطفال داخل مدارس سلفية، وتوفير السكن والمعيشة لهم، والعمل على ترويج الكتاب السلفي بأسعار رمزية، بل وإقامة معارض الكتاب السلفي، الذي كان يتخذ من مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة غطاء له، في الجانب المذهبي، والعمل على طباعة الكتب عن “المعافر” كهوية تأريخية مستقلة عن تأريخ اليمن، بتكامل بين مؤسسة السعيد والمكتب التنفيذي لتعز عاصمة للثقافة، كمؤسسات لتخليق “الهويات الوهمية”.
لم يكن “الإخوان المسلمون” معنيين بالقضية الوطنية، بل هم نشأوا على نقضها بإحلال مصطلحات فقهية عن “دار الإسْلَام” و”دار الكفر” بديلاً عن مصطلح “الوطن”.
في حركة 17 فبراير 1948م كان لهم اليد الطولى في تقويض اليمن المتوكلي، باغتيال الإمام يحيى، ومنذ ثلاثينيات القرن العشرين ومرشدهم “حسن البنا” يسعى لجعل اليمن احتياطي جماعة الإخوان المسلمين في العالم.
وحين قامت ثورة 26سبتمبر 1962م كان رموز الإخوان المسلمين في اليمن يتحركون كطابور خامس في نشر الأراجيف، وضرب الثورة، وخَاصَّةً في توزيعهم للمناشير بقرب سقوط صنعاء في حصار السبعين يوماً.
وكان دورُهم في صياغة مقررات مؤتمر خمر 1965م، وفي العمل على ضرب التوجه القومي لليمن طيلة ستينيات القرن العشرين.
وحين اتضح لهم أن حركة 13 يونيو 1974م مغايرة لمشروعهم عملوا أدَوَات مع السعودية على طمس معالم هذه الحركة، عسكرياً وتعاونياً وتعليمياً، ونهجاً سيادياً.
كانوا في كُلِّ توجه سلمي باتجاه الوحدة يقفون على النقيض، رافضين ومسعِّري حرب بين شطرَي اليمن آنذاك، سواء في مواجهات قعطبة عام 1972م، أو عام 1979م، أو في كُلّ مفاوضات الوحدة في طرابلس والكويت وعدن وتعز وصنعاء. موقفهم دوماً هو السعي لضم الجنوب بالقوة، ودحر ما سموه بـ “خطر الشيوعية” كهدف تموله وتدعمه الولايات المتحدة الأمريكية في زمن “الحرب الباردة”.
يكتب “جان فرانسوا بايار في مقدمة كتابه “أوهام الهوية” ترجمة حليم طوسون –دار العالم الثالث -1998م –عن (الهويات الثقافية) التي تقابلها بالضرورة (هوية سياسية) لا تخلو هي أَيْضاً بالواقع من طابعها الوهمي. فليس هناك سوى “استراتيجيات للهوية” يتبعها بشكل غير رشيد محركون يمكن التعرف عليهم، ومنهم محترفو السياسة، الذين يصنعون مذابح عرقية ودينية.
إنَّ الهويةَ التي تصنع في سياق الخوف من الآخر والهرب منه، والقلق تجاهه لا يمكن أن تكون سوى هروب من عبء الهوية، بحسب تعبير أحمد حيدر في كتابه (إعادَة إنتاج الهوية) دار الحصاد -1997م.
ما تحتاجُه اليمن هو بناء مركز قوي ممثلاً بعاصمته الوحدوية صنعاء، والعمل على تعزيز الهوية الجامعة على أسس الشراكة، كمواطنين لا كـ “أطراف معنية” ووجاهات وجهات. وتعزيز الإبداع والابتكار لدى اليمنيين بنظام تعليمي أساسه العقل وحرية التفكير، والفكر، والتعليم الاستكشافي، وتوظيف التعدد بما يخدم الوحدة لا بما ينفيها، ويصورها مشكلة، بل هي الحل، والعمل على الاهتمام بالمسألة الاقتصادية في اليمن؛ كونها جوهرَ الصراع وأحد متكآت الاستعمار.
في 22 مايو 1990م تم التوافق “هوية سياسية” مغايرة لزمن التشطير دون أن يصحب ذلك الانتقال إلى “هوية ثقافية” جديدة، مما جعل الهُويات السياسية والثقافية السابقة تعبر عن نفسها لدى “المنتصر” و”المنكفئ” في حرب 1994م، مما جعل الهوية الجامعة لليمنيين تتعرض لاهتزازات بفعل غياب وعدم إنتاج هوية ثقافية للوحدة اليمنية، تختلف عن هشاشة الهوية الأيديولوجية المعبر عنها إعْلَامياً؛ كون تلك “الهوية الإعْلَامية” لم تكن سوى شعارات ذات صلة بأنظمتها التسلطية والشمولية لأنظمة التشطير.
لا أريد لفكرة “الآخر” كهوية عنصرية أن تتجذر، ما أريد هو أن يتلاشى هذا التباين الوهمي بين الأنا والآخر، وأن يتم دمج الأفراد في إطار ثقافي يتيح لكُلِّ فرد الابداع والابتكار وتحقيق الذات، دون أن يوجد “أنا “”أصلية” و”فطرية” وَ”آخر” هامشي ينبغي اجتثاثه، فحين يفكر اليمنيون بمشروع جامع مبني على المواطنة والوطن والمواطن تسقط الأقنعة الهوياتية، ويتعايش المواطنون وفق منافع متبادلة ومنتجة، وليس عصبوياتٍ تعيشُ على العطالة والأساطير.
إن جوهرَ الانقسام إلى هُويات مذهبية وطائفية وجهوية والتشبث بها هو السياسة، وما يرتبط بها من منافع، وبالتالي فهي مسألة قابلة للزوال إذا توقف العدوان الخارجي، فالمنافع العامة والسياسة الجامعة للمواطنين بتساوي الفرص وتميز الكفاءات هي أساس اللحمة الوطنية.
أما في ظلِّ الاستعمار فإن جميعَ الهُويات القاتلة قابلةٌ للانتعاش، كجماعات تبحث عن حصتها واستحقاقاتها في زمن الحرب!
ما يحتاجه اليمنيون هو دولةٌ مركَزيّةٌ قوية، ونظامٌ سياسي وحدوي يطلقُ الطاقات، ويؤمِّنُ الحياةَ ورغيفَ الخبز، وحرية الرأي، وتعليم يبني الوعي النقدي، ولا يجعلهم مشاريع توحش وقتل، يحتاجون إلى تأمين صحي، ونهوض تنموي، وحريات شخصية، ونمو متكامل للشخصية بأبعادها الجمالية والفكرية، في المسرح والسينما والموسيقا وسائر مشارب الثقافة.
يحتاجون إلى شراكة سياسية تستنهض قواهم ولا تستهلكها، وإلى ثقافة مغايرة ومختلفة عن ثقافة تنتج الكراهية وتجعلهم في حالة تمترس وعدوان مبين.