حرض.. المدينة التي ذبحها العدوان!
المسيرة| يحيى قاسم المدار
“المدينةُ التي لا تنام” هكذا عُرفت بين الجميع.. حركة دؤوبة ومتواصلة لا تكادُ تنقطعٌ، عاشت لأعوام وعاش فيها الفقيرُ والغنيُّ، الكبيرُ والصغيرُ، وأَصْبَــحت مرتعاً خصباً للتجارة بين الدولتين.. إنها مدينة حرض الواقعة في أقصى شمال محافظة حجّة واليمن..
منذُ سنوات ازدهرت الحركةُ التجاريةُ في مدينة حَرَض؛ كونها المنفذَ الأَكْثَـرَ حركةً بين ما يسمى السعودية واليمن، في تبادل الصادرات والواردات بين الدولتين، يؤكد مسئولون أن ما نسبته ثلاثون في المائة من متحصّلات الدولة يأتي من هذا المنفذ الحيوي..
“حرض” تتبعُ إدارياً محافظة حجة شمال اليمن، تبعُدُ عن صنعاء 422 كيلومتراً إلى الشمال منها، لكنها لا تبعد سوى 6 كيلومترات فقط عن منفذ “الطوال” الخط الحدودي السعودي..
خلال العقدين الأخيرين تسارعت الحركة العُمرانية في مدينة حرض؛ جرّاء تنامي الحركة الاقتصادية والسياحية بين اليمن والسعودية، إضافةً إلى كون المدينة أقربَ المنافذ للمعتمرين والحجيج والمغتربين اليمنيين الذين تقدر أعدادُهم بمليونَي معتمر ومغترب في العام الواحد الذين يمرُّون عبر هذا المنفذ ذهاباً وإياباً.
حملت المدينةُ بين طياتها كُلَّ شيء، وأخفت في ثناياها شوائبَ كانت شواهدَ على ضعف الدولة التي حرمت المنطقةَ من الكثير من المشاريع والخدمات الضرورية الكفيلة بالعَيش العزيز لأبنائها..
في حرض كان يعيشُ قُرابةُ المائة والخمسين ألفَ إنْسَان، يعمَلُ غالبيتهم في الزراعة لخصوبة الأرض ومساحتها الكبيرة، كما تشكل الحركةُ التجاريةُ أهمَّ موارد المواطنين..
منذ بدء العدوان السعودي الأمريكي في السادس والعشرين من مارس 2015م كانت مديرية حرض أحدَ أهداف الصواريخ والقنابل الفتاكة، صبَّت بكل حقد على تلك المديرية وأبنائها الذين لم يفكروا يوماً بالاعتداء على قريب أَوْ بعيد نظراً لسِلميتهم وما يحملون من طيبة وأخلاق عالية يعرفُها كُلُّ مَن وصل إليهم.
إلا أن ما يسمى “عاصفة الحزم” التي شنتها دولُ تحالف العدوان بقيادة السعودية، غيّرت مشهدَ مدينة حرض وعددٍ من المدن اليمنية، وحوّلته رأساً على عقب، حيثُ أضحت المدينةُ التي كانت تعُجُّ بالحركة على مدار الساعة مدينةً خاويةً على عروشها، لا يعيشُ فيها أحدٌ، باستثناء الجنود اليمنيين واللجان الشعبية الذين لا يظهرون إلا لمواجَهة القوات السعودية، عندما تحاول الاقترابَ من الحدود.
زُرنا مدينةَ حرض الحدودية اليمنية لمشاهَدة صور الدمار الهائل الذي لحق بالمدينة وبعض منشآتها الخدمية والسياحية، يحدِّثُك المجاهدون أن الطيرانَ بأنواعه الأباتشي والحربي والتجسسي، التابع للعدوان يستهدفُ كُلَّ جسم حي داخل المدينة والمواقع الحدودية، وتبيِّنُ هذه الصور مدى الخراب الكبير الذي لحق بالمدينة ومنشآتها وشوارعها.
مصدرٌ في السلطة المحلية لمديرية حرض، أفاد بأنه نزَحَ مع أفراد أسرته إلى محافظة أخرى بعد العدوان، حيث أَكَّـدَ أن سكانَ مديرية حرض بالكامل نزحوا إلى عددٍ من المخيمات والمديريات المجاورة في محافظة حجة التي تتبعُها حرض، والمحافظات الأخرى.
كما أَكَّـدَ لنا أن 70 منشأةً تم تدميرُها بالكامل، معظمُها فنادقُ واستراحاتٌ، كما تم تدميرُ 50 مدرسةً بالكامل من إجمالي 63 مدرسةً، والأُخريات تم تدميرُها جزئياً، وتم حرمانُ آلاف الطلاب من التعليم.
وأضاف أن مدينةَ حرض القديمة دُمِّرت بشكل كامل من قبَل طائرات العدوان ومدافعه، في حين تم تدميرُ ما نسبته 85 بالمائة من منازل المدينة بشكل عام، كما توضّح الصور أنه تم استهدافُ المنازل والمحالِّ التجارية بالكامل والمستشفيات الخَاصَّـة والطرقات.
تم تدميرُ مديرية حرض بالكامل وأحرقت فيها المزارع وقُصف فيها كُلّ شيء، إذ صَبَّ عليها العدوانُ عشراتِ الآلاف من القنابل التدميرية والعنقودية التي تملؤ كُلَّ بقعة فيها ولم تعد تصلحُ الحياةُ فيها إلا بعدَ عشرات السنين.
- مُخَطّطٌ قديم
تفيدُ تقاريرُ ومصادرُ أن النظامَ السعوديَّ عمل على تهجير وإخلاء المناطق المأهولة في المناطق اليمنية الحدودية، وجرَّبَ عدةَ وسائلَ عبر النظام السابق بشقَّيه ما قبل المبادرة الخليجية وما بعدها، ونجح في ذلك إلى حد ما، من خلال إخلاء عدة كيلو مترات حدودية من سكانها؛ بهدف دفع ما يرى النظام السعودي أنه خطرٌ عليه وأن ذلك الخطرَ لا يزولُ إلا بمناطقَ عازلة.
ووفقاً لتلك المصادر، فإن النظام السعودي كان وما يزال على مر التأريخ الحديث يرى في اليمن خطراً وجودياً عليه، وهذا الخطر يتصاعد كلما كان هناك وجودٌ بشريٌّ يمنيٌّ قُرب الحدود السعودي، وبالتالي واعتماداً على هيمنته على النظام اليمني خلال العقود الماضية واستخدام سلاح المال تمكن من تهجير سكان عدة قرىً حدوديةٍ في طريقه نحو خلق مناطقَ عازلةٍ، لكن ومع بدء العدوان وجد النظامُ السعودي نفسَه أمام فُرصة لطمس الحضرية والريفية في المناطق اليمنية الحدودية.
هذه الغاية فسّرت بشكل واضح سببَ القصف الوحشي الذي نفذته طائراتُ العدوان منذ اليوم الأول على القرى والمدن اليمنية الحدودية والذي تبدو أَكْبَـرَ وأَكْثَـرَ شواهده الوحشية بالقصف العشوائي غير المبرَّر على مدينتي حرض وميدي الحدوديتين، وبالتزامن مع ذلك القصف كانت تقاريرُ تتحدث عن سعي سعودي لخلق منطقة عازلة بعمق 20 إلى 30 كيلو متراً في العمق اليمني.
ووفقاً لمهندسين معماريين شاهدوا صور الدمار الوحشي الذي لحق بمدينتي حرض وميدي، فإن طيران العدوان تعمد قصفَ المنازل والعمارات والمنشآت بصورة تجعل تلك المباني تسقط وتتحول إلى عمارات متداعية ومدمَّرة بشكل نصف كلي، بحيث يصبح معها من الصعب جداً إعادة إعمارها؛ كونها تحتاج إلى إزالة كمرحلة أولى وبعد ذلك تحتاجُ للإعمار، وهي استراتيجيةٌ يتضح من خلالها أن العدوانَ بمُخَطّطه القديم عمل على جعل القرى الحدودية ومدينتي حرض وميدي غير صالحتين للعيش مجدداً.
- طي النسيان
وإذا كان الإعلامُ الغربي يصِفُ الحربَ على اليمن بـ “الحرب المنسية”، فإن الحربَ التي شنَّت على حرض يمكن وصفُها بالحرب الأَكْثَـر نسياناً، فما حدث لهذه المدينة غاب بشكل كامل عن التقارير الصادرة عن منظمات الأمم المتحدة التي رغم تواطؤها مع العدوان، إلا أنها تتحدثُ بين الحين الآخر عن بعض الجرائم التي يرتكبُها العدوانُ في اليمن، لكن مدينة حرض لم يرد اسمُها في أي تقرير دولي، مع أن ما وقع بها يعد من أَكْثَـر جرائم العصر والتأريخ بشاعة، ولم تتحدث المنظمات المعنية بحقوق الإنْسَان واللاجئين عن مصير سكان المدينة والمجتمع الذي انتهى تماماً وتفكّك وتفرق في تجمعات جغرافية داخل خيام صغيرة يقطنها عشرات الآلاف من الناس الذين لم يعد يربطهم بموطنهم الذي تم تدميره سوى الذكريات.
وما يجعَلُ الأمرَ أَكْثَـرَ بشاعة ممَّا يمكن تصوره، أن التدميرَ الكلي الذي تعرضت له مدينةُ حرض وقعَ دون أن تكونَ هناك أيةُ معارك على الأرض، فمنذُ اليوم الأول للعدوان صَبَّتْ الطائراتُ كُلَّ أنواع القنابل والصواريخ على المنازل والعمارات والمنشآت بشكل ممنهج، فالعدوُّ المفترَضُ بالنسبة للعدوان في حرض لم يكن الجنود ولا أياً من المقاتلين، لقد كان العدوُّ هو المدينة ذاتها والجنود الذين كان يستهدفُهم العدوانُ هي المباني والمنازل والطرقات والفنادق والمستوصفات، فالنظامُ السعوديُّ وضَعَ في اعتباره التخلُّصَ من مخاوفه التأريخية من اليمنيين؛ ولذلك قام بجريمته الوحشية مقرِّراً أنه لا يجبُ أن تكونَ هناك مدينةٌ اسمُها “حرض” أَوْ مدينةٌ تسمى “ميدي” في ظل صمتٍ دولي فاضح.