الإنفاق في سبيل الله ثقافة تربوية في طريق بناء الأمة
المسيرة| عبدالرحمن محمد حميد الدين
إنَّ الحديثّ عن [الإنفاق في سبيل الله] هو حديثٌ عن الجانب الآخر من الجهاد، فمن خلال سياق الآيات الكريمة التي تحدثت عن الجهاد بالنفس، والجهاد بالمال، نجد أنهما قضيتان مترابطتان، بل يشكّلان [عملية واحدة] في سياق الجهاد في سبيل الله.
وكثيراً ما يرتبط [الإنفاق في سبيل الله] كعبادة عملية [بتقديم النفس] في ميادين الجهاد، ويلتقيان في سبيل الله، وقد قرن الله بينهما في آيات كثيرة، مما يعطي دلالة على أهمية الإنفاق، وبذل المال في سبيل الله؛ باعتباره الجانب الآخر للجهاد، والمكمل لبذل الأنفس في سبيل الله. وهذه بعض الآيات التي وردت في الحث على الإنفاق والتي قرنَها الله سبحانه وتعالى بالقتال والجهاد في سبيل الله:
• يقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}(التوبة:20).
• ويقول تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}(التوبة:41).
• ويقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(الحجرات:15).
• ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(11)}(الصف).
فالإنفاق يعتبر من مقومات القتال في سبيل الله فضلاً عن كونه جهاداً بحد ذاته، كما أنه يعتبر [التمويل] الذي لا بدّ منه في مسيرة بناء الأمة، وخاصة في مجال الصراع مع أعداء الله، وفي ومواجهة المستكبرين في الأرض، لذلك من المهم جداً معرفة أهمية الإنفاق في سبيل الله كتربية قرآنية، ومعرفة أبعادها الاجتماعية، والمعنوية، والاقتصادية، ودورها في بناء الأمة، وتقوية شوكتها في مواجهة دول الاستكبار، بعيداً عن الالتجاء لأحد، أو استجداء مساعدات من هنا أو هناك، وهذا ما جعل القرآن الكريم يعطي موضوع الإنفاق في سبيل الله اهتماماً بالغاً.
الجهاد والإنفاق في سبيل الله قضيتان مرتبطتان:
ويؤكد الشهيد القائد – من خلال القرآن الكريم – على الارتباط القوي بين القتال والإنفاق، واعتبارهما عملية واحدة كما أسلفنا، وبالتالي تصبح مقومات الجهاد هي: بذل الأنفس، وبذل المال. ومما قاله في ذلك (رضوان الله عليه):
((هنا يلاحظ الإنسان أهمية الجهاد في سبيل الله، والإنفاق في سبيله بأنها قضيتان مرتبطتان، بل قدمها في آيات أخرى سماها جهاداً كلها {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}(التوبة: من الآية20). ألم يجعلها عملية واحدة جهاداً بالمال وبالنفس، جعل الإنفاق في سبيله عبارة عن جهاد، وجعل مقومات الجهاد هي هذه. جهاد بالنفس وبالمال)). (دروس رمضان – الدرس العاشر).
الحديث عن الإنفاق والجهاد جاء في إطار الحديث عن بني إسرائيل:
ويشير السيد (رضوان الله عليه) إلى بعض الشواهد على حكمة الله في هذا الجانب، وذلك أنَّ الله سبحانه وتعالى تحدث عن الإنفاق والجهاد في سبيله في سياق حديثه – سبحانه وتعالى – عن بني إسرائيل. وهذا يعطي رؤية واضحة أن مواجهتنا لبني إسرائيل تطلب أن يحمل الناس روحية الجهاد في سبيل الله من خلال بذل أرواحهم، وأموالهم حتى يتمكنوا من التغلب على بني إسرائيل.
وقد قدَّم القرآن الكريم موضوع الإنفاق باعتباره [قضية تربوية] لا يتحقق للأمة أن تكون بمستوى المواجهة ما لم تحمل هذه الروحية: روحية العطاء والبذل. ومما قاله في ذلك (رضوان الله عليه):
((تجد من الأشياء العجيبة في كتاب الله الحكيم يتحدث عن الإنفاق في سبيله، يتحدث عن الجهاد في سبيله في إطار الحديث عن بني إسرائيل، وما يعرضه من أخبار بني إسرائيل؛ ليقول لنا: أنتم بحاجة إلى أن تربوا أنفسكم, وتربوا الأجيال من بعدكم، إلى أن يحملوا روح الجهاد، روح العطاء، روح الإنفاق في سبيل الله، لا بد لكم أيها المسلمون أن تنفقوا في سبيل الله، أن تكونوا مجاهدين في سبيل الله، وإلا فلن تستطيعوا أن تقهروا هذه الطائفة)). (محاضرة يوم القدس العالمي)
استقلالية الأمة والنهوض بدين الله مرهون باعتمادها على ذاتها:
وفي طريق النهوض بدين الله، وتحقق الوعد الإلهي، لا بد أن يكون الإنفاق ثقافة تربوية تعتمد الأمة – من خلاله – على الله وعلى ذاتها، بعيداً عن أي أطرافٍ قد تعرض مساعدتها. [فالاعتماد على الذات] يروّض المجتمع، ويجعله بالشكل الذي يكون في حركة [تطوير مستمرة]، وبذلك يكون مؤهلاً للمواجهة، وعصياً على الانكسار.
كما أن القرآن الكريم لم يوجه المسلمين أو يعرض لهم خيارات لتمويل أنفسهم من خارج مجتمعهم، بل دعا الناس: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ}. وهذه مهمة ولها آثارٌ إيجابية كبيرة من الناحية النفسية، والتربوية. ومما قاله السيد في ذلك (رضوان الله عليه):
((شيء طبيعي بأن القتال يحتاج إلى تمويل، التمويل من أين يأتي؟ هل وجه المسلمين إلى أن يبحثوا عن أطراف أخرى؟ وأن يتجهوا للفرس، أو إلى الروم، أو إلى أي دولة أخرى تساندهم؟ لا. ينطلقون هم، فالمقاتلون أنفسهم، المجتمع المسلم هو يمول نفسه، وهذه القضية هامة جداً، لا يقوم الدين إلا بها، لا يقوم الدين إلا على هذا الأساس: أن يكون هناك إنفاق، وأن يكون إنفاقاً من داخل نفس الذين هم يتحركون في القضية، أي: من داخل المجتمع المسلم نفسه، الموجه إليه هذه المسؤولية، بأن يقاتل في سبيل الله، لأنه يحصل استقلالية للأمة، يمكنها أن تنهض بدين الله، ولا تكون مدينة لأي طرف آخر نهائياً، لأن أي طرف آخر لا يقدم شيئاً إلا بثمنه، ولها أثرها الكبير من الناحية النفسية، بالنسبة للمجتمع المسلم، وللأمة عندما تبني على هذا الأساس، تصبح أمة هي واثقة بنفسها، واثقة بدينها، واثقة بربها، واثقة بالمنهج الذي تسير عليه، فتستطيع هي أن تقوم بدين الله، وتستطيع أن تواجه أعداءها)). (دروس رمضان – الدرس التاسع).
استجداء الآخرين له آثار نفسية ويكون مقابل تنازلات ويُعرّض الأمة للهزيمة:
وفي المقابل إذا اعتمدت الأمة على طرف من الأطراف لمساعدتها – وخاصة في ميادين الصراع – فإنّ ذلك له انعكاسات سلبية، خصوصاً على المستوى النفسي، حيث يشير السيد (رضوان الله عليه) إلى خطورة ذلك الأمر تجاه المجتمع بشكل عام، والمجاهدين بوجه خاص.
حيث عرض (رضوان الله عليه) مجموعة من الآثار السلبية التي تحصل نتيجة استجداء المساعدات من الآخرين، ومن هذه الآثار:
أثر نفسي يتمثل في: تجيير الانتصار، والقوة للجهة الممولة.
أثر معنوي يتمثل في: الانفصال عن الله من خلال الانشداد للآخرين؛ باعتبار أن النصر بسببهم.
تقديم التنازلات، أو أي مقابل للطرف الداعم والممول.
عدم الاعتماد على الذات، وتطوير القدرات. والذي يعني: عدم الانعتاق من حالة التبعية السياسية، والتبعية الاقتصادية.
إحداث حالة من الانهزام، والتضعضع، ومن ثم الاستسلام في حالة انعدام أطراف داعمة.
وجميع هذه الآثار – التي أوجزناها من كلام السيد (رضوان الله عليه) – نجدها ماثلة كـ[حالة ملازمة للعرب] في جميع مراحل صراعهم خصوصاً في العصر الحديث.
وبقراءة سريعة للتأريخ تتجلى هذه المسألة بوضوح في مراحل الاستعمار الغربي للمنطقة العربية، وذلك عندما كان بعض الزعماء العرب، وبعض الأنظمة العربية يستنصرون دولاً أجنبية لمساعدتهم في مواجهة دولة أجنبية أخرى، فتأتي تلك الدولة الداعمة كمنقذ! وتقدم دعمها، وكافة خدماتها من أسلحة، ومقاتلين، وغير ذلك؛ إما لأنّ لها موقفاً من الطرف المحتل أو المعتدي على تلك الدولة، أو أنها تبحث عن مكاسب استراتيجية. وفي كافة الاحتمالات يتحول ذلك البلد – أرضاً وإنساناً وثقافة – إلى [كبش فداء].
ومن الشواهد الحية على هذه المسألة أيضاً ما تقوم به بعض الأنظمة والزعماء العرب من استجداء لروسيا في مواجهة أمريكا؛ باعتبار أنّ روسيا توازي أمريكا في ترسانتها العسكرية، وفي كافة الإمكانيات تقريباً، وهذا الاستجداء يؤدي إلى انفصال الناس عن الله، وتحول الصراع من صراع ديني – مبني على الأخلاق والقيم، والاعتماد على الله، وعلى الذات، وتطوير القدرات – إلى صراع نفوذ ووجود، مبني على الانبطاح، والذل، والبحث عن فتات الآخرين، مما يؤدي إلى الخذلان من قبل الله سبحانه وتعالى.
لذلك نجد أن القرآن الكريم أعطى موضوع الإنفاق في سبيل الله [طابعاً تربوياً] يحقق العديد من المكاسب على كافة المستويات. ومما قاله في ذلك (رضوان الله عليه):
((لكن إذا كانت القضية: أنهم هم يبحثون عن مساعدات أخرى من خارج، لأنه عادة في مراحل الصراع قد يكون طرف من الأطراف في مصلحته أن يساعدك.. في مصلحته أن يساعدك، لأن له موقفاً من الطرف الذي أنت تقاتله، لكن هنا لها أثر سلبي كبير، فيما يتعلق بنفسيات المسلمين المقاتلين، المجتمع بكله، سيعتبرون الانتصارات ومواقفهم القوية كلها بسبب الآخرين، والقضية هنا تقوم على أساس أنك أنت تكون متوجهاً إلى الله دائماً.. دائماً. ولهذا عندما تنفق، أنت تنفق في سبيل الله، من أجل الله، وتقاتل من أجل الله، وتتلمس النصر الذي هو من عند الله، فتكون مرتبطاً بالله، لا تأتي في الأخير تجعل سبب النصر، وفضيلة الانتصارات بسبب الطرف الآخر الذي هو دولة أخرى، أو جهة أخرى.
هنا لو يحصل موقف آخر ربما تتلفت من الذي يمكن أن يساعدك، ولو على حساب أن تقدم تنازلات من دينك، يأتي حالة أنت لا تجد فيها طرف يمكن أن يساعدك، تنهزم من أول يوم، مثلما حصل للعرب الآن، تلفتوا الآن، بحثوا عن روسياً، فرنسا، الصين، لم يعد هناك الاتحاد السوفيتي سابقاً، استسلموا من أول يوم!، ألم يستسلموا من أول يوم؟ هذه عملية تربوية هامة جداً جداً: أن دين الله بنى الأمة بناءً، استقلالية تكون هي معتمدة على الله فهي تنفق في سبيل الله، معتمدة على قدراتها، وتطور هي قدراتها، انتصاراتها تحسب لها، وتراها أنها من الله، وليس من الطرف الآخر الذي يساندها)). (دروس رمضان – الدرس التاسع).