بلاغة الأقدام!
د. أحمد الصعدي
لو لم تسجِّلْ كاميرا الإعلام الحربي المشهدَ الخارِقَ لكل تصوّراتنا عن البطولة والإيثار كما تجلتا لدى المجاهد الذي حمل رفيقَ السلاح ومر به اختبارَ النار والموت في الجوف، وحاول أي مراسل أَوْ مجاهد أن يرويَ ما حدث لعجز عن الوصف، وإذا نجح إلى حد ما فلن يصدقَه الناسُ، وسيعتبرون روايتَه من بنات خياله، وهذا هو معنى قولنا إنَّ ما شاهدناه يفوق الخيال.
كل ما بَثَّ الإعلامُ الحربي مشهداً من جبهات العز والشرف، وظننا أن ما شاهدناه من مآثر مقاتلي الجيش واللجان الشعبية هو أقصى ما يمكننا تصوُّرُه، جاءنا بما هو أَكْثَر إبهاراً وإدهاشاً، فيعمق إحساسنا بعجز ذِخيرتنا اللغوية وملكاتنا التعبيرية في الاقتراب من بهاء وبلاغة وشاعرية الأفعال ذاتها.
وَأية صورة أبلغ يمكن أن يأتيَ بها شاعرٌ أَوْ فنان لقدم المجاهد المسعف وهي تدوس على رصاصة ما تزال حارة مخترقة غبارها الذي أثارته.
إنه إعجازٌ نعجز عن فهمه، نحن الذين سنحت لنا الظروف بالحصول على تعليم يمكننا من أن ندليَ بآرائنا في ما أسماه الشهيد مهدي عامل ((1936-1987)) بالمشكلات ((الصالونية)) وفي الوقت نفسه نشكو باستمرار من رداءة العلاقات الإنْسَانية بين زملاء العمل وبين الأصدقاء، ومن طغيان السلوكيات النفعية وعبادة المصالح الشخصية على حساب الإخلاص والصدق والوفاء بين الأصدقاء.
تتخذ الأممُ والشعوبُ من التأريخ مادةً للتربية على القيم الأخلاقية والوطنية؛ لهذا تمجِّدُ أبطالَها وكل من تفانى لأجل المصلحة العامة وتخلّدهم في الأدب والفن وفي الذاكرة والوجدان، وفي عقول الأجيال وقلوبهم، فهل نستفيد من هذا الدرس الأخلاقي فنقيم احتفالاً سنوياً يعاد فيه تمثيلُ المشهد الأسطوري في نفس الوقت من كُلّ عام وفي ذات المكان على شكل مسابقات تمنح فيها الجوائز؛ بهدف تربية الشُّبان على قيم حماية الوطن والإيثار والتضحية في سبيل الغايات النبيلة وإظهار المواطن في أسمى صورة ممكنة ضداً على نزعات الأنانية المفرطة والفردية المتوحشة.
إن فعلنا ذلك فمن أجلنا نحن، أما المجاهد البطل فلا أظنه يحتاجُ شيئاً من زخرف الدنيا وبهارجها، ولا أظنُّه يستطيعُ السيرَ بثبات وشموخ بين الرصاص المنهمر من كُلّ الجهات؛ إلا لأن اللهَ قد ملأ قلبَه وعقلَه وكُلَّ تفكيره وعواطفه ولم يعد فيها متسعٌ لأي شيء آخر، وهذا هو شأنُ المجاهدين من أبطالنا في الجيش واللجان في كُلّ الجبهات، وهذا هو سِرُّ أسرار صمودهم وبطولاتهم التي تبهرُنا وتشعرُنا بنشوة الكرامة كُلّ يوم.