اليمن الموحَّد الموحِّد
عبدالناصر سلامة
في ستينياتِ القرنِ الماضي دارت مواجهاتٌ مصرية- سعوديّة، مباشرة وغير مباشرة على أراضي اليمن الشقيق استمرت لعدة سنوات (١٩٦٢-١٩٦٧)، بعدها ظل اليمن ينقسم إلى دولة شمال ودولة جنوب، لمدة ٢٣ عاماً، إلى أن أَصْبَحتا دولة واحدة تحت اسم «الجمهورية اليمنية» عام ١٩٩٠، كانت هذه الوحدةُ بمثابة انتصار للعقل اليمنى فِي ذلك الوقت، نالت تقديراً عالمياً، حتى من بريطانيا، التي كان الجنوب (عَدَن) يمثل لها أولوية قصوى طوال فترة الاستعمار التي بلغت ٩٨ عاماً (١٨٣٩- ١٩٣٧)، إلا أنه بدا واضحاً أن ذلك لم يكن يروق لبعض عواصم المنطقة، التي تخشى أن ترى اليمن قوياً لأسباب نفسية، لا أكثر من ذلك ولا أقل.
لم تستطع الجمهورية اليمنية أن تكونَ ضمن منظومة مجلس التعاون الخليجي، التي تم إنشاؤها عام ١٩٨١، ذلك أن بعض دول الخليج، التي تخشى وحدة اليمن، تنزعجُ فِي الوقت نفسه من تعبير (الجمهورية)، وسط أنظمة ملكية أَوْ عائلية، مما جعل المملكتين الأردنية والمغربية أقرب إلى منظومة المجلس بصفة مراقب، عن اليمن الحارس الأمين لجنوب غرب شبه الجزيرة العربية، إلا أن ذلك لم يشكل أي أزمات نفسية بالنسبة لليمنيين، الذين كانوا يرون طوال الوقت أنهم أصحاب حضارة تؤهلهم للتفرد والاستقلال، بل كانوا طوال الوقت يسعون إلى علاقات سلام مع الدول المجاورة، حتى إنهم لم يحملوا السلاح يوماً ما، لاسترداد جزء كبير وعزيز من أرضهم فِي جيزان ونجران وعسير.
ما يُثيرُ الدهشةَ هو أن اليمن لم يعد مسموحاً له، عربياً، أن يقرر مصيره، أَوْ أن يقرر ديانته، أَوْ حتى مذهبه، لمجرد أنه ينتمى للعرب والإسلام، ولو كان غير ذلك لما استطاع أحد أن يتجرأ عليه، كان الاستعمار الغربي فِي سالف الزمان يتواجد عسكرياً فِي هذا البلد أَوْ ذاك، إلا أنه لم يسْعَ ذات يوم إلى فرض هذا الدين أَوْ ذاك المذهب، الأزمات العربية الحالية فِي معظمها أَصْبَحت كذلك، تدخل سافر فِي الشأن الديني والمذهبي لم يكن مسبوقاً فِي العالم فِي أي من العصور، وهو الأمر الذى ينذر بمزيد من النكبات والانكسارات المتعلقة بمزيد من تقسيم المقسم وتفتيت المفتّت، الذى فشل الاستعمار فِي القيام به ذات يوم.
مُخَطّط تقسيم اليمن إلى شمال وجنوب لم يعد سراً، يسير الآن على أرض الواقع بخطى ثابتة، بذرائع لم تضع الشعب اليمنى نفسه فِي الاعتبار، لم تضع إرادته فِي الحسبان، وهو ما سيجعل الفشل أمراً لا مفر منه فِي المستقبل، حتى وإن كان الاهتمام يدور حول الجنوب تحديداً، أي تنميته واستقراره على حساب الشمال، واعتماده فِي المستقبل ضمن المنظومة الخليجية دون الشمال، المُخَطّط أَصْبَح معلناً أيضاً بإقامة أربع قواعد عسكرية هناك، وهو الأمر الذى يجعلنا أمام دولتين عدائيتين (شمال وجنوب)، سوف تدور المواجهات بينهما طوال الوقت من جهة، ومن جهة أخرى فإن شعب الجنوب على المدى البعيد لن يمكنه القبول بمثل ذلك الاستعمار الجديد، ليظل هاجس الوحدة ماثلاً، على اعتبار أن الشمال رغم فقره، إلا أنه الكيان المستقل.
أعتقد أن أيَّ عاقل أَوْ منصف، كما أي ضمير عربي، لا يجب أن يقبل ذلك الذى يجرى فِي اليمن الآن، أكثر من عشرة آلاف قتيل من المدنيين هناك منذ بدء القصف- عربياً للأسف – فِي مارس ٢٠١٥، أكثر من مليون أصيبوا بالكوليرا، نتيجة تلوث مياه الشرب، أكثر من ثلاثة ملايين نازح، البنية التحتية فِي اليمن تم تدمير معظمها، المدارس والمستشفيات والأبنية الحكومية والمناطق الأثرية والأسواق وحتى المساجد لم تسلم من القصف، آلاف الألغام الأرضيّة سوف تحارب اليمنيين لسنوات وعقود مقبلة، تحذيرات الأمم المتحدة بشأن تردى الأحوال المعيشية، وتحذيرات منظمة الأغذية والزراعة بشأن نقص الغذاء، وتحذيرات منظمة الصحة العالمية بشأن نقص الدواء، كما تحذيرات اليونيسيف بشأن الأطفال، كلها لم تجد آذاناً عربية صاغية، فِي النهاية نسمع بين العرب من يتحدثون عن مصلحة الشعب اليمني، على اعتبار أنهم أدرى بشعابها!!.
آملُ من دبلوماسية القاهرة أن تضع المصلحة العربية العليا فوق أي اعتبار، مصلحة اليمنيين كذلك، الأمن القومي للمنطقة ككل، كما آمل أن تتجه الصياغة السعوديّة نحو مزيد من الاندماج مع الشعوب لما فيه استقرار المنطقة مستقبلاً، ذلك أن الأطماع الخارجية تتعاظم، لا تستثنى أحداً، وهو ما يوجب نشر عقيدة التسامح وليس العكس، التكتلات وليس العكس، الوحدة وليس العكس، ليقرر اليمنيون مصيرهم بأنفسهم كما يشاءون، السوريون أيضاً، العراقيون كذلك، زمن الوصاية أَصْبَح من الماضي، لم يعد يقبلها أفراد الأسرة الواحدة، ما بالنا بالأمم الحرة المستقلة، التي كان الشعب اليمنى فِي طليعتها، منذ أن كان موحَّداً فيما قبل الرسالات السماوية، وموحِّداً فيما بعدها، بخصوصية فريدة، بفعل الحضارة الفريدة أيضاً.
*نقلاً عن المصري اليوم.