الفــرق كــبيرٌ جِـدًّا بــين أن يمـُنَّ عليك الخــالق، أَوْ أن يمُـنَّ عليك المخلوق
لم يتناول أحدٌ قط مسألة (الفرق بين أن يمُنَّ عليك الخالق، أَوْ أن يمُنَّ عليك المخلوق) كما تناولها الشهيد القائد -رِضْـوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- في محاضرة [ملزمة معرفة الله ــ نعم الله ــ الدرس الثالث]، حيث طرح طرحاً يستحيل على أي عالم أَوْ دكتور جامعة أَوْ غيرهم أن يطرحه بتلك الجزالة في الألفاظ، بذلك الإقناع، بالاستشهاد بآيات القُـرْآن الكريم، وإسقاطها على الواقع الذي نعيشه، ذلك الطرح بكل تأكيد لا يمكن أن يصدر إلا من أولياء الله فقط..
فابتدأ -رِضْـوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- وهو يوضّح الفارقَ بين الأمرين، وهو يشرح قوله تعالى [أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى] بتعداد فوائد التذكير بنعم الله على الإنسان، ليربط بعدها في الأخير بين الأمرين، ليتضح جلياً الفرق بينهما، وتتمثل فوائد التذكير بنِعَمِ الله بالآتي:ــ
الفائدة الأولى:
أن يدركَ الإنسانُ بأن نِعَمَ الله هي الآليات التي بها يطيع الإنسان ربه وبها يعصيه، فقال -رِضْـوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- في ذلك: [فهي ذات علاقة كبيرة جداً بدور الإنسان في هذه الدنيا كخليفة لله في أرضه؛ باعتبارها مفردات هذا العالم. فهنا تبدو قضية مهمة جداً بالغة الأهمية, بالغة الأهمية: أن يتذكر الإنسان أن ما هو فيه هو نعمة من ربه عليه، أن يتذكر بأنها من نعمة الله عليه، أن يتذكر الناس بأن ما هم يتقلبون فيه هو نعمة من الله عليهم، هذه لها أثرها المهم، ومتى ما غاب هذا الشعور: تذكر أنها نعم إلهية من الله إليهم تظهر سلبيات خطيرة جداً].
ضارباً أمثلةً على ذلك، بنعمة البصر، عندما يتذكر الإنسان أن هذه نعمة من الله عليه، سيستحي من الله أن يقلبَها فيما هو محرّم عليه النظر إليه.. وكذلك نعمة المال، عندما يتذكر الإنسان أنه نعمة من الله عليه سيستحِي أن يصرفه في الباطل، ويستحِ من الله ألا ينفق في سبيله.. وكذلك تحدث عن نعمة النطق قائلاً: [لسانك الذي وهبك الله وأنت تستطيع أن تعبر عن ما في نفسك, تتكلم وتنطق، انظر إلى الآخرين الذين لا يستطيعون أن يتحدثوا كيف تلمس بأنك في نعمة عظيمة، أنك تتمكن من أن تنطق، هذه النعمة العظيمة استحِ من الله سبحانه وتعالى أن تستخدمها في القول بالباطل].
الفائدة الثانية:ــ
أَنْ تَذَكُّرَ نِعَمِ الله يؤدي بالمؤمنين ــ وهم يتقلبون في نعمه، ويتفكرون، ويخترعون، وينتجون ــ إلى عدم اختراع أَوْ صنع أي شيء في إفساد لعباد الله، فقال: [إذا ما كان الناس متذكرين بأن هذه الأشياء هي من نعمة الله عليهم فإنهم سيخشون من الله وسيستحيون من الله أن تستخدم في معاصيه، أَوْ أن تستخدم في الإضرار بالآخرين من عباده]، واستدل على ذلك بما يصنعه اليوم اليهود والنصارى لإفساد خلق الله بكثير من صناعاتهم؛ لأنهم لا يعرفون الله ولا يتذكرون نعمه.
الفائدة الثالثة:ــ
أَنْ تَذَكُّرَ نِعَمِ الله يؤدي إلى الثقة بالله بشكل كبير جِـدًّا، فقال الشهيدُ القائدُ حول هذا: [فيساعدك تذكر أن ما بين يديك من نعمة الله يساعدك على تكرير التأمل فيها لكونها ذات قيمة لديك، قيمة في واقع الحياة باعتبارها مما تمس الحاجة إليه في مختلف شؤون الحياة بالنسبة للناس جميعاً، مما لا تستقيم الحياة إلا بها فتزداد ثقتك بالله سبحانه تعالى وتعظم ثقتك به، ومتى ما عظمت ثقتك بالله انطلقت في كل ما وجهك إليه؛ لأنك واثق بأنه رحيم، أنه يرعى، أنه حكيم، أنه قدير، فكيف لا أثق به, فكيف لا أثق به؟].
الفائدة الرابعة:ـ
أن تذكيرَ الإنسان بنعم الله، يجعله يحُسُّ بأن ما بين يديه له قيمةٌ كبيرة، ويجعله يتفكر، وهذا بدوره يؤدي بالإنسان كما قال الشهيد القائد إلى : [أن يغوص في أعماق مفردات هذا العالم فيبدع، وينتج، ويصنِّع، ويكتشف الأسرار التي أودعها الله في هذا العالم].
من هنا يدرك القارئ الكريم بأن هناك فوائدَ كبيرةً وعظيمةً لتذكير الله لنا بنعمه علينا، وأن المِنَّة لله وحدَه، وبأن هذا التذكيرَ يربطنا به سبحانه، وفي هذا تكريمٌ لنا أيما تكريم..
بينما على العكس من ذلك، تذكير الإنسان بنعمه ــ المنَّ ــ على أخيه الإنسان فيه سلبيات كثيرة وخطيرة جِـدًّا على المستوى الشخصي، وعلى مستوى المجتمع ككل:ــ
على المستوى الشخصي، أذى ومهانة:ــ
عندما يمُنّ عليك شخصٌ بما أسدى إليك من معروف في يوم من الأيام يؤدي هذا إلى الشعور بالذل والهوان، و الحط من كرامة الإنسان، وأشار -رِضْـوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- إلى ذلك بقوله: [أن يشدني الله سبحانه إليه من خلال تذكيري بما أنعم علي من النعم العظيمة هو شدي إلى الكامل المطلق إلى الكمال، إلى من يعتبر ارتباطي به وقربي منه تكريماً لي. لكن لاحظ كيف يكون بالعكس فيما يتعلق بالناس فيما بينهم، كيف يشعر الإنسان بالضعة، يشعر بثقل، بوطأة معروف معين أسدي إليه على نفسه، وصاحبه يكرر [أنا عملت لك كذا، أنا سويت لك كذا…] إلى آخره].
على مستوى المجتمع، تصبح مقاييسه مادية:ــ
من التأثيرات السلبية الخطيرة جِـدًّا لانتشار مسألة ـ المنَّ ـ بين المجتمع، أننا نرسخ في المجتمع إخضاعَ العواطف للتأثيرات المادية، أن المجتمع يصبح مجتمعاً مروّضاً على أن يسيرَ خلفَ مَن أسدى إليه معروفاً، يصبح مجتمعاً مادياً، مقاييسُه ماديةً، يسير خلف من دفع له أكثر، من أعطاه أكثر، وهذا شيء خطير جِـدًّا، قال -رِضْـوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- حول هذا: [لكن المنّ الذي يعني التذكير واستغلال العواطف وإشعار الآخر بأن عليه أن يسير كما أريد، ترسيخه يصبح مما يعرِّض المجتمع لخطورة بالغة بالنسبة لأهل الباطل، فيأتوا ليدفعوا أموالاً أكثر منك، ويستخدموا نفس الأسلوب في التذكير بما أعطوا، ويعرضوا للآخرين منجزاتهم فيما أنجزوه في مجال كذا وكذا وكذا، فتصبح ذهنيتنا ـ وبحكم أننا قد روَّضْناها على أن تسير خلف من يسدي إليها معروفاً ـ فتصبح معرضة لأن تدفع بالإنسان إلى أن يقف المواقف الباطلة، ويؤيد الباطل، ويدخل في الباطل].
وضرب -رِضْـوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- لنا مثالاً لتوضيح الأمر أكثر فقال: [أن أراك ممن يجوزُ لي أن أقفَ معك في موقفك، فأؤيدك باعتبار موقفك, باعتبار موقفك حق أُؤيدك، لكن أن آخُذَ منك مبلغ من المال فأؤيدك، أَوْ تسدي إليّ معروفاً معيناً فأؤيدك وأنت على باطل، هذا مما يعني أنني جعلت المقياس في تعاملي مع الآخرين, في أن أقف معهم, أن أؤيدهم, أن أشاركهم في أعمالهم، هو ما يكون هناك من عائدات مادية، وهذه خطورة بالغة]..
لذا جاء القُـرْآن الكريم ليمنعَ مسألة ــ المَنّ ــ من أساسها، ويجعلها محبطة للأعمال، قال تعالى: :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً}(البقرة: من الآية264) أملس, كصخرة كان عليها قليل تراب جاء وابل المطر فتركها ملساءَ.
فرعون أول من استعمل هذا الأسلوب:ــ
مجتمعُ فرعون كان مجتمعاً مادياًّ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ــ إلا من رحم ربك ــ قال -رِضْـوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- شارحاً: [فرعون الذي ذكر الله سبحانه وتعالى قصته في القُـرْآن من أول من استخدم هذا الأسلوب:{أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ}المقاييس لديهم مادية، أساور من ذهب رأوها في يد فرعون، وموسى رجل لا يملك هذه، وهكذا أنهار هنا ولا يعرفون أنهار الحق هناك، وأنهار العزة والشرف، أنهار القيم المثلى. استخف فرعون قومه في مقابلة موسى, نبي من أنبياء الله يملك عشر آيات بينات رأوها هم وعايشوها هم، لتعرف كم هي الخطورة شديدة جداً إذا ما انطلق الناس لينظروا نحو الأشياء وفق مقاييس مادية].
القاسم المشترك بين الأمرين:ــ
وفي ذات السياق، ذكر الشهيدُ القائدُ أن القاسمَ المشتركَ بين أن يمنّ الله عليك، وبين أن يمنّ الإنسانُ عليك بأنه (الجانب العاطفي)، بمعنى أن تذكير الله لك بنعمه يؤدي إلى أن تتأثر عاطفياً فتحبه، وتعظمه، وتستح من أن تعصيه، وإذا أسدى إليك إنسان نعمة أَوْ معروفا فإن هذا يؤدي إلى أن تتأثر عاطفيا بتلك النعمة، بذلك الإحسان، فإن أحسن إليك إنسان شرير، قد يؤدي بك هذا إلى الدخول في الباطل؛ لذلك روي عن الإمام زين العابدين عليه السلام قوله في دعائه، وكما قال الشهيد القائد: [((ولا تجعلْ لفاسق ولا لكافر عليّ نعمة ترزقه من قلبي بها مودة)) لماذا؟؛ لأن الإحسانَ يعمَلُ عملَه.
الحاكم أَوْ الذي يلي أمراً من أمور الناس نُهي أيضاً عن أن يجيبَ حتى دعوة ضيافة؛ لأن الإحسانَ يؤثِّـرُ فيؤدي إلى تسخير عواطفه مع من أسدى إليه إحسانا، نهي الناس عن هذا، وأذكر فيما روي أن الإمام علياً (عليه السلام) دعا وهو عند رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) أن الله لا يحوجه إلى أحد من خلقه، فقال ـ في معنى الحديث ـ لا تقل هكذا فليس أحد من الناس إلا وهو محتاج إلى غيره أَوْ إلى خلقه ولكن قل: ((اللهم لا تحوجني إلى شرار خلقك)) أن أحتاج إلى شرار خلق الله فيعطيني هو أَوْ أقبل عطيته فيؤثر على عواطفي فيشكل ضغطاً عليَّ في مواقفي الدينية. فحاول أن تبتعدَ عن أن يكونَ لفاجر تأثير على عواطفك].