اغتصاب التأريخ: العدو حين يسرق الذاكرة!!
رفعت سيد أحمد*
ماذا يعني كل هذا؟! إنه يعني أننا أمام كيان عدواني غاصب ليس للأرض (فلسطين والجولان ومزارع شبعا وغيرها) فحسب، بل للتأريخ والمخطوطات والآثار الفلسطينية والعربية، أي لأحد أهم المكوّنات للذاكرة العربية؛ وتلك جريمة تحتاج إلى ردٍ لا يقف فقط عند حدود القانون، ومنظمة اليونسكو، بل يحتاج إلى دورٍ للقوّة بأشكالها المختلفة.
الكيان الصهيوني، لم يسرق الأرض العربية في فلسطين والبلاد المجاورة فحسب، ولم يغتصبها لسنوات طوال أباد فيها البشر والحجر ونشر الخراب والفوضى فقط، لكنّه أيضاً ارتكب منذ العام 1948 وحتى اليوم، سرقات من نوع آخر، نوع مسكوت عنه أو يلفّه الصمت غير النبيل من حكّام هذه الأمّة ونُخبتها المُستغرِقة في توافه الأمور. إنه اغتصاب للذاكرة، تلك التي لا تمثّلها “الآثار”، ولا تقف هنا عند حدود التماثيل والقطع الحجرية، ولكنها بالأساس تتصل بالذاكرة العربية والإسلامية المسروقة، والتي من أبرز نماذجها المخطوطات والكُتب التأريخية، بل ومخطوطات القرآن الكريم ذاته، ومن شدّة بجاحة العدو ووقاحته اعترف أكثر من مرة بهذه الجريمة التي لا تسقط بالتقادم، وقبل عدّة شهور وتحديداً في بدايات العام 2017 اعترفت المكتبة الوطنية الإسرائيلية، بحصولها على مئات المخطوطات العربية والإسلامية النادرة، من دون أن تذكر الطريقة التي حصلت فيها عليها، وهو ما اعتبره الخبراء أنه نوع من القرصنة الفكرية التي تُمارسها دولة الاحتلال.
والمسروقات جزء من مجموعة المخطوطات العربية والفارسية القائمة في تلك المكتبة المتخصّصة في سرقة ذاكرة الأمّة وفي قلبها ذاكرة فلسطين، وبلغ عدد مسروقاتها اليوم (2018) حوالى 2400 مخطوطة ومنها حوالى 100 مخطوطة مختلفة من القرآن الكريم، من بينها مصاحف نادرة للغاية، أقدمها تعود إلى القرن التاسع الميلادى أي الثالث هجرياً.
والمعلوم للكافة أن دولة الاحتلال قد ظهرت للنور رسمياً مع العام 1948.. وتلك النُسَخ النادرة للقرآن الكريم يسبق وجودها، وجود الكيان الصهيوني بأكثر من 1300 عام، وهو ما يؤكّد جريمة الاغتصاب والسرقة.
وعلى مستوى المخطوطات والكتب الفلسطينية التأريخية المسروقة، صدرت قبل فترة عن مركز الدراسات الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية “مدار” ترجمة لكتاب إسرائيلي وثائقي مهم يحمل عنوان “بطاقة ملكيّة” للكاتِب الإسرائيلي لغيش عميت: قراءة في أوراق نهب المكتبات الفلسطينية في القدس بعد النكبة رام الله – وفيه يكشف مؤلّفه ملابسات نهب عشرات آلاف الكتب من المكتبات الفلسطينيّة في القدس بعد احتلالها في العام 1948، مشفوعاً بوثائق وشهادات واعترافات صريحة.
ويُقدّم الكثير من المعلومات والحيثيات التي رافقت “عمليّات” نهب كبيرة أخرى ضلعت فيها المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة، من أجل زيادة مخزونها من الكُتب وترقية مكانتها العلميّة والبحثيّة.
هذا وقد أكّدت مصادر من وزارة الأوقاف الأردنية في 1/8/2017 أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي سرقت مخطوطات ووثائق وقفيّة هامة من المسجد الأقصى خلال إغلاقه في فترة انتفاضة البوابات الخاصة بالأقصى.
وأكّد الدكتور فيصل الحفيان مدير معهد المخطوطات العربية في لقاء معه لموقع “صدى البلد” المصري في 27/12/2017 أن بعض المخطوطات التي صوّرناها مطلع النصف الثاني من القرن الماضي من فلسطين، وهي مخطوطات أصلية، هذه المخطوطات الآن اختفت ومن ثم اكتسبت صوَر المعهد أهمية كبرى لأن المخطوطات لم يعد لها أصول، إما لأنها تُلِفَت بعوامل الزمن أو أن دولة الاحتلال (إسرائيل) قد استولت عليها.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن الوقائع التأريخية تُشير إلى سرقات أخرى قامت بها إسرائيل، ومنها ما يُقارب 1184 مصحفاً وكتاباً ومخطوطة، جمعها باحِث يهودي في تأريخ الإسلام يُدعى أبراهام شالوم يهودا بعد انهيار الامبراطورية العثمانية، وهذه المصاحف والمراجع سُرِقت من المتحف العراقي المركزي في بغداد، بعد سقوطها في أيدي الاحتلال الأميركي عام 2003. وهذا هو الأرجح خاصة عندما نتابع قضية النسخة العراقية للتوراة، أقدم نسخة في العالم، والتي أوصلها الاحتلال الأميركي لإسرائيل قبل عامين مضيا بعد أن سرقها من المتاحف العراقية.
وقد جاء وصول المخطوطة العراقية إلى إسرائيل رغم وعود أميركية سابقة بإعادة الأرشيف اليهودي الذي استولت عليه القوات الأميركية فور دخولها بغداد ربيع عام 2003 إلى العراق، وهو ما لم يحدث حتى يومنا هذا.
وبلا حياء تؤكّد على هذا النهج في سرقة التأريخ واغتصابه، صحيفة هآرتس الإسرائيلية، التي كشفت أن النائب العمّالي اليهودي موردخاي بن بورات وهو أحد المُتّحدرين من يهود العراق وباحث في مركز إرث يهود بابل الواقع قرب تل أبيب، قد كشف في وقت سابق عن أن مسؤولين حكوميين في العراق أهدوا الكيان الصهيوني بعضاً من المخطوطات الأثرية الثمينة، وأنهم تمكّنوا من الحصول على تعليق نادر لسفر أيوب نُشِر سنة 1487 وقسم من كُتب الأنبياء المنشورة في البندقية عام 1617 من مخازن حصينة لأجهزة الأمن العراقية السابقة!
وترابطاً مع سرقة الآثار العراقية، ثمة سرقة للآثار الأردنية لعلّ أبرزها مخطوطات البحر الميت، وهذه المخطوطات كانت معروضة في أحد المتاحف في مدينة القدس المحتلة، حيث سرقتها إسرائيل بعد احتلال الضفة الغربية، وخاطبت الأردن عدّة مرات منظمة اليونسكو بشأنها، لتتولّى بدورها المُحافظة عليها، وفق مُقتضيات الاتفاقيات الدولية، ولكنها لم ترجع!
وهذه المخطوطات يبلغ عددها 900 لفافة واكتُشِفَت في 11 كهفاً، وهي بمثابة ثروة قومية وتراثية مهمة سواء للأردن أو للذاكرة العربية.
وكذلك الحال مع آثار مصر في سيناء والتي نُهِبَت منها مئات القطع الأثرية التي تعود إلى عصور الفراعنة والعصر القُبطي والإسلامي، والتي قيل أن منزل وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشي دايان وقت احتلال سيناء (1967- 1982) يمتلئ عن آخره بآثارٍ مصرية منهوبة، وهو عينه ما قام به المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، حين سرق آثاراً مصرية مهمة منها وثائق الجينزا الخاصة باليهود المصريين، والأمر نفسه يُقال عن الآثار اللبنانية والسورية وغيرها من الآثار والمخطوطات العربية الأخرى!
ماذا يعني كل هذا؟! إنه يعني أننا أمام كيان عدواني غاصب ليس للأرض (فلسطين والجولان ومزارع شبعا وغيرها) فحسب، بل للتأريخ والمخطوطات والآثار الفلسطينية والعربية، أي لأحد أهم المكوّنات للذاكرة العربية؛ وتلك جريمة تحتاج إلى ردٍ لا يقف فقط عند حدود القانون، ومنظمة اليونسكو، بل يحتاج إلى دورٍ للقوّة بأشكالها المختلفة، من القوّة المُسلّحة إلى أعمال المخابرات التي كنا نقرأ عنها زمن رأفت الهجّان (البطل المصري المعروف).. والآن لم نعد نسمع بها.. الأمر إهانة قومية تحتاج إلى رد.. فهل نمتلكه؟! ذلك هو التحدّي حين تُسرَق الذاكرة.. بعد أن سُرِقَت الأرض!.
*كاتب ومفكر مصري