الرئيس الصماد ومشروع بناء دولة المؤسّسات.. مشاركة في رسم أسس الدولة القانونية عبر خطوات سريعة
د. إسماعيل محمد المحاقري
إنَّ مَا تضمَّنُه خطابُ رئيس المجلس السياسي في الذكرى الثالثة لصمود الشعب اليمني في مواجهة الحرب الظالمة على بلادنا بالإعلان عن أن العام الجديد سيكون عاماً لبناء الدولة دولة المؤسّسات وحكم القانون، يمثل حدثاً كبيراً وتحدياً جديداً لأعداء الوطن، إذ يعتبر هذا التوجه من أهمّ الخطوات على طريق استكمال أَهْدَاف ثورة 21 سبتمبر، فلقد كان من أهمّ أَهْدَاف الثورة إعَادَةُ بناء الدولة المغيبة منذ خمسين عَاماً والتي لتي غيّبها أعداء الوطن بمشاركة عملائه في الداخل وصادروا وظائفها وسلطاتها لصالح أَهْدَافهم الاستحواذية على مقدرات الوطن.
وبهذه المناسبة رأيت أن أشارك برسم رؤية لطريقة بناء الدولة في أهمّ جوانبها وهي استعادة العدالة.
سُئل أحد الفلاسفة عندما كان مرشحاً للانتخابات الرئاسية ماذا سيفعل فيما لو نجح لمنصب الرئاسة؟
فكان رده “لن أفعل شئياً فسأترك القانون هو الذي يحكم”.
إن مقصودَ هذه العبارة هو بناء دولة النظام والقانون المرادفة لدولة المؤسّسات أَوْ ما يُطلق عليها بدولة حكم القانون والنزاهة، حيث نحكِّمُ القانونَ في تنظيم شئوننا وإدارتها ورسم شروط العدالة، وَكل ذلك يتأتى عبر بناء جسم من القواعد القانونية على الصعيد النظري والعملي، يبدأ بالقاعدة الدستورية وينتهي بالقواعد والمبادئ القضائية الموحدة والمفسرة لأحكام القانون، ومروراً باللوائح والأنظمة المختلفة التي تغطي كُلّ المسائل المتعلقة بإدَارَة شئون الدولة وتحديد الحقوق والواجبات ورسم العلاقة يبن السلطة والأفراد وبين الأفراد مع بعضهم البعض وتحدد أَيْضاً شروطَ وإجراءات الاستفادة من المزايا والخدمات التي تقدمها الدولة لمواطنيها إلى غير ذلك..
ثم وضع الآليات قانونية ورقابية وقضائية لفرض احترام تلك القواعد وتركها هي من ترسم شكل المستقبل وشروط العدالة وفق إجراءات موضعية في التعامل معها بعيداً عن الاجتهادات والتقديرات الخَاصَّة عند تطبيقها، ففي ظل دولة القانون لا يكون للشخصنة والاستنسابية التي ترادِفُ الكيفية والمزاجية في عملية اتخاذ القرارات، بحيث نصلُ إلى مرحلة تصبح حقوقُنا متعلقةً بالأنظمة والقوانين وليس بالأشخاص، وبالتالي يتحول الولاء من الأشخاص إلى المؤسّسات.
وبالطبع إن مقتضيات تحقيق هذا الهدف إرساء عدة مبادئ منها مبدأ الشفافية ومبدأ المساءلة وتفعيل دورة الأجهزة الرقابية وضمان الدعوى العادلة والسريعة وتكريس مبدأ الفصل بين السلطات.
ومن المهم أن نذكرَ إلى جانب تلك الأسس التي بموجبها يتم تكريس دولة المؤسّسات أَوْ حكم القانون والنزاهة عدداً من الخطوات التي علينا اتخاذها وهي:
إصلاح مدخلات القضاء عن طريق إعَادَة النظر في منهج المعهد العالي للقضاء، وتطوير شروط القبول، فالمنهج القائم يمثل منهجاً أكاديمياً يُعنى بتأهيل القاضي تأهيلاً أكاديمياً، وهذه الطريقة في التأهيل غير معدة لتكوين الثقافة والمهارات التي يحتاجها القاضي والمتمثلة في حسن قراءة نصوصِ القانون وحسن تطبيقها على الوقائع المنظورة أمامه؛ باعتبار أن وظيفة القاضي الأساسية هي تطبيق القانون لا صُنعه، بصرف النظر عن حسنه أَوْ قُبحه من وجهة نظره، وهذا ما يستوجب اعتمادَ المنهج المهني، فهذا المنهج هو السائد في جميع المؤسّسات والمعهد ذات العلاقة بالتأهيل القضائي وأية مهنة أُخْـرَى، أما المنهج الأكاديمي فيتعلق بالتكوين القانوني الأَكْثَر عمومية وتتعلق بمهارات صناعة النص ومحله الدراسات العليا في الجامعات.
ويجب عند إعداد المنهج أن يراعى خصوصيةُ قوانيننا مع ما طرأ من تطورات على صعيد المبادئ القانونية، ولهذا يجب أن يشاركَ في وضعه نخبةً من أعلام القضاء وأساتذة الجامعة عبر ورشات علمية تقام لهذا الخصوص ويجب أن نتجنب التقليد الأعمى لغيرنا والركون على الأفكار والرؤى الجامدة التي لم تستطِع أن تغادرَ أفكار ومفاهيم الستينيات.
وبالموازاة لهذه الخطوة يجب وضع مشروع تدريبي للقضاة ممتدّ عبر عام كامل يستهدف تصحيحَ المفاهيم القانونية حسب الملاحظات المعدة سلفاً من قبل الجمعية العامة للمحكمة العليا ويشارك في إعدادها وتنفيذها نخبةٌ من الكوادر القضائية والقانونية الكفؤة ومن أساتذة الجامعات.
وأخيراً يجبُ تطوير نظام التسجيل والقبول، بحيث يراعى عند عملية اختيار الملتحقين بالمعهد التأريخ العالي للطالب المتقدم وطبيعة مهنة الأسرة.
واستباقاً لأقوال المتقوّلين من مرضى النفوس أقول إن هذا الشرط معمولٌ به في جميع دول العالم.
* إيلاء المؤسّسة القضائية اهتماماً خاصاً..
ويجدر أن أذكر أولاً أنه ومنذ شبابي وأنا أسمع بين فينة وأُخْـرَى جهوداً لإصلاح جهاز العدالة؛ بهدف الوصول إلى تكريس العدل الغائب.
ورغم الإصلاحات المتكررة إلّا أن النتائجَ دَائماً ما تكون مخيبةً للآمال، حيث يلمس المواطن تغييراً في أجهزة العدالة دون أن يجدَ العدالة التي يبحث عنها، ومنذ أن قطعت شوطاً في دراستي القانونية ومارست العمل القضائي في مجال التدريس وممارسة المحاماة عرفتُ أن السببَ هو أن جميع الحكومات تنطلق من تصور خاطئ لتحقيق العدالة نجدها دَائماً تبحث عنها في الاتجاه التي يباعد بينها وبين أن تجدها كمن يبحث عن نظارته في كُلّ مكان إلّا عينيه يستبعدُ أن تكون عليها.
إنها تبحث عنها عبر الشخصنة فهي تفترض أن مشكلتها هي في عدم وجود القضاة ورجال القانون نظفاء اليد وأصحاب الضمير، أي أن فكرة الإصلاح لديها تقومُ على الاعتماد على البحث على ضمير الأشخاص في التعامل مع أحكام القانون؛ ولهذا نجد أن كُلّ مشروع إصلاحي يتم عبر إصدار حركة قضائية تلو حركة قضائية وحكومة تلو حكومة وأحياناً يتم التركيز على تشديد نظام الرقابة والتفتيش القضائي بالتجاهل الكامل للمنظومة القانونية وآلية عمل القضاء وموضوع تأهيل القاضي..
لذلك ما نقترحه هو:
– توفير المال اللازم فهو سر أي إصلاح قضائي منشود.
– الاهتمام بجهاز التفتيش القضائي، شريطة الحذر من المبالغة التي توصلنا إلى المساس باستقلالية القضاء والقاضي.
– الاهتمام بإصلاح المحكمة العليا بإعَادَة تشكيلها على أسس موضوعية؛ لتحتوي على أفضل الكوادر القضائية ذات التكوين والخِبْرة القانونية المتراكمة والواعية، فلو أنجزنا هذا الأمر بكل مصداقية وجدية فسنضمن وجود مرجعية تصحيحية وتوجيهية لعمل القضاة تفرض على القضاة احترامهم للقانون خشيةَ أن يتم نقضُه.
– القيام ببناء جسم من القواعد والمبادئ القانونية والقضائية وبلورتها وتعزيز فرص نموها، وتعتبر هذه المهمة من أهمّ الأولويات فمن أهمّ ما يميز دولة حكم القانون ويكرس قيام العدالة هو وجود تلك القواعدِ والمبادئ التي من وظائفها تكملة النقص الذي يرافق كُلَّ عمل تشريعي وللحد من الاستنسابية التي تحصُلُ في عملية تطبيق القانون وتفسيره وتعالج مشكلة تضارب الأحكام وتناقضها في الحالات المتماثلة.
ومع أن بناءَ هذا الجسم من القواعد يندرج في الزمن إلّا أنه وبسبب إهمال المحكمة العليا القيام بهذا الدور خلال الفترة الماضية فنحن مضطرون إلى وضع كثيرٍ من المبادئ عبر الجمعية العامة للمحكمة العليا ومن خلال ورشات عمل داخلية للمحكمة تجرى من خلالها مناقشات واسعة حول كثيرٍ من المسائل مع الاستعانة بكوادر من أساتذة القانون في تجميع وبلورة تلك المبادئ.
* استكمال الاهتمام بالقانون الإجرائي..
فلقد أَصْبَحنا نسمع منطقاً غريباً من بعض من يمارسون العمل القانوني والقضائي يشتغلون هو الشكوى من الإجراءات، إذ يتصورون أن الإجراءات تعيقهم من تحقيق العدالة ويزعمون أنه لو تحللوا منها وتُرك الأمرُ لتقديرهم لتمكّنوا من حل الكثير من القضايا على الوجه الأَكْثَر ملاءمةً لمقصود الشارع ولتجاوزوا مشكلة التطويل “بحسب زعمهم”.
بخصوص هذا نقول إن التجربةَ الممتدةَ عبر التأريخ قد علمتنا أن القضاء العادل يندرج في الزمن، ومن ناحية ثانية إن هذه الشكوى أشبه بشكوى الطير الذي اشتكى أن الرياح تعيقه عن الطيران، ولولاها لَكان أَكْثَر قدرةً على الطيران، والحقيقة أن لولا الرياح لما تمكّن من الطيران أصلاً فهي من تحمله.
وكذلك بالنسبة للإجراءات هي من تمثل الضمانة الأساسية للقاضي والمتقاضي، فاحترامُنا للإجراءات يوفّر الثقة في عدالة الأحكام وفي نزاهة القاضي وحياديته، وهي وسيلته الوحيدة لبلوغ الحقيقة ومع غيابها ستحل بدلاً عنها الأهواء والمزاجية واتّباع الظنون.
تطوير آليات عمل النقابات والجمعيات ذات العلاقة بالدفاع عن حقوق العمال والموظفين وغيرهم من الفئات المهنية الأُخْـرَى، وذلك عبر توسيع سلطاتها في الدفاع عن حقوق الفئات التي تمثلهم كالاعتراف بالدعوى الجماعية وإيجاد آليات فصل قضائية أَوْ ولائية سريعة وعادلة.
إصلاح قانون المحاماة وتطور آلية عمل المهنة وشروط اكتساب العضوية، بحيث تكون قادرةً على أَدَاء رسالتها الكاملة لعمل المؤسّسة القضائية.
إصدار قانون الشفافية، إذ بهذا القانون وتفعيله سيفقد الفساد أهمّ أسباب وظروف وجوده وتكاثره؛ لأنّه لا يعيش إلّا في الظلمة فهي البيئة المناسبة لنموه.
القيام بعملية توعية لنشر الثقافة القانونية بين أفراد المجتمع والأشخاص الاعتبارية العامة والخَاصَّة، على أن يكون موضوع الحملة “أهميّة القانون في حياتنا”.
إعَادَة بناء علاقة متوازنة بين فئة التجار ورجال الأعمال وبين فئات المستهلكين والفئات الضعيفة، فقانون المستهلك الحالي تم إعداده من قبل الفئة الأولى، وقد جاء ملبياً ومكرساً للممارسات الغشية وصور الاستغلال التقليدية، فهو لا يمثل أَكْثَر من إعَادَة تقنين مواد القانون المدني والتجاري ونفس الآليات القضائية التي يحتويها قانونُ المرافعات والمصممة أصلاً لخدمة الطرف القوي مع أن دواعي صدور هذا القانون في دول العالم كان بغيةَ توفير حماية استثنائية للمستهلك من تلك الممارسات الغشية وصور الاحتكار والتفاهمات التي يجريها التجار لتشويه الحركة العفوية لنظام السوق، وأذكر أنه عند إعداد مشروع هذا القانون تمت الاستعانة بي من قبل جمعية حماية المستهلك، وكنا قد ضمناه نصوصاً وآليات قضائية وقانونية مقاربة لما تقدمه قوانينُ المستهلك في الدول الأُخْـرَى، ولكن الحكومة وتحت ضغط التجار وأصحاب المصالح أعادوا صياغته مفرغاً من أي مضمون وتم إصدارُه فجأةً.