نعيم المعرفة
صلاح الدكاك
(ثم لتُسألُن يومئذ عن النعيم) نعيم المعرفة التي تتيحُ لصاحبها تمييزَ الحق من الباطل والاهتداء بالحق والانحياز إليه في مواجهة الباطل؛ ولذا كان قوله (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فالمغضوب عليهم عرفوا الحقَّ وانحازوا للباطل، أما الضآلون فضلّوا عن الحق وَوقعوا في الباطل..
النعيم هو المعرفة المهتدية؛ ولذا قال (وأما بنعمة ربك فحدث…) أي لا تحبِسِ المعرفة التي أنعم بها ربك عليك فتقعُ في الكهنوت ومن ثم في ادّعاء التفرّد وتعبيد الآخرين باحتكار العلم كالقائل: (إنما أوتيته عن علم..) وكما يفعلُ الغربُ الرأسمالي اليوم بحرمان الشعوب من وسائط المعرفة والقوة المعرفية.. وإنما اجعل المعرفةَ والعلم مشاعاً لكل سائل.. يتجلى ذلك من الآية السابقة لها في السياق (وأما السائل فلا تنهر…).
(واعلم أنه لا إله إلا الله..) فالذي عرف إلهَه كان في عِصمةٍ من أن يؤلِّهَ ما عداه من قوى تسعى لتعبيده لها، وتوافرت له إرادة أن يكونَ ذاتاً وازنةً دون خنوع لواقع بائس أَوْ يأس بفعل يقين باطل بالعجز عن أن يكون أكثر مما هو كائنٌ عليه في اللحظة من وهن وفقدان وزن..
إنَّ معرفةَ الإله الحق بحق تفسح للعارف معرفةَ القوانين المكنونة في الكون وتطويع الظواهر الطبيعية والمجال المادي لجهة تحقيقِ الكفاية الكفيلة بتحصينه من أن يخرَّ راكعاً تحت أقدام المستكبرين بدافع العوز والفاقة أَوْ أن يمسح أجواخ الميسورين نظيرَ فضالة مكرمة ثمنها الذاتُ الإنْسَانية المكرّمة.
(إنا خلقنا الإنْسَان في أحسن تقويم) ليس هناك شعوبٌ بائسة ومتخلفة إلى الأبد وأُخْـرَى ميسورة متقدمة إلى الأبد، وإنما هناك راضون بالهوان يتعبدون المستكبرين بالفُتات وآخرون متألهون بالمعرفة غير المهتدية يتخمون من جوع وكدح المستضعفين الراضين بحضيض الكينونة طلباً للسلامة أَوْ تيهاً عن موجبات الكرامة أَوْ قعوداً عن النهوض بكلفتها وهذا هو حالُ الفرز الراهن في العالم.. (ثم رددناه أسفلَ سافلين) بخنوع نفسه وانحطاطِ مراميها ورضاه بلا غضب بموقعه تحت أقدام الطغاة والمتألهين انطلاقاً من سوء ظنه بعدالة القوانين الإلهية.
(كونوا قردةً خاسئين) أي عودوا إلى الطور السابق للأنسنة المستبصرة الواعية الفاعلة التي أمكن معها لآدم تمحيص وجوده وتسمية محيطه بموجوداته.. أي عودوا منزوعي المعرفة بعد أن ادّعيتموها لكم حصراً واستكبرتم بها في الأرض فقلتم (نحن أبناءُ الله وأحباؤه) بينما لستم إلا (بعض من خلق).