إنّه كان أمة..
يحيى المحطوري
عبثًا يحاوِلُ علي الصمّـاد المزارِعُ الريفي البسيط إقناع ولده بالتراجع.. وهو يجادِلُ صالح الشاب العشريني العمر عن جدوى حماسه المتوقد مع شعار الصرخة في وجه المستكبرين.. الذي رفعه السيد حسين الحوثي..
لم يخطرْ بباله يومًا أن يُصبِحَ خبرُ استشهاد ولده خبرًا عالميًّا تتناقلُه كُلُّ وسائل الإعلام العالمية وينتظر العالم بأسره تبعات مقتله وآثاره على أحداث الساحة الإقليمية والدولية..
ومنذ العام 2002م.. كان يقول له: ما الذي ستفعله بأمريكا يا ولدي.. النظام يقتل كُلّ مَن يقفُ في مواجهتها.. يا صالح “لا تكلف علينا”.. سيقتلونك ويدمرون منازلنا ويحرقون مزارعنا.. وَ… وَ… وَ…
ظل ذلك الوالدُ المؤمنُ يراقِبُ حياةَ ولده الثائر.. منتظرًا استشهادَه في كُلِّ مرحلة أَوْ منعطفٍ للأحداث.. ولما يزيد على ستة عشر عَاماً من الجهاد والتضحية والفداء..
ولم يخيل إليه أبداً أن نهايةً عظيمةً ستكون لولده بعد أن يتصاعدَ في مراتبِ الرفعة الدنيوية.. ويرتقيَ في معارج الكمال الإيْمَـاني.. إلى أن يصلَ إلى نيلِ الوِسام الإلهي بالشهادة في سبيل الله..
أمّا صالح الصمّـاد.. الشابُّ المجاهد المتوقد حماسًا.. فقد كانت عينُه على آيات الله.. والأُخْرَى على أحداث الحياة..
لم يقبل بتلك الهزيمة النفسية المخيمة على الشعوب.. فقرر أن يكونَ من حملة الراية القُـرْآنية مهما كان الثمن..
“لا يجوز أن نسكُتَ”.. سمع قائدَه يهتفُ بها عاليًا.. فلبّى نداءَه وسار في ركبه.. تنير طريقَه آياتُ الكتاب المبين.. ونورُ الحق الساطع.. لا يخافُ في الله لومة لائم..
كأحد المكبرين في ذلك الحين.. لم يثنِ الصمّـادَ تثبيطُ الأقربين.. ولا وعيدُ الطغاة الظالمين.. ولا تضليلُ المرجفين..
بقلب مؤمن بالغيب وفؤاد راسخ اليقين، كان يقرأ كلام قائده المجاهد السيد حسين.. فقرر أن يكون له موقفُه الصادق.. وعلى الله النتائج.. وإليه تُرجَعُ الأمور..
رغم كُلِّ ذلك التشويه والظروف القاهرة.. كان الصمّـادُ على يقينٍ بأن المشروعَ الذي سار فيه وغامَرَ بحياته من أجله.. هو طريقُ الأنبياء الذي يصنعُ العظماءَ ويرفعُ شأنَ السائرين فيه في الدنيا والآخرة..
فمضى في ركابه ولم يزده الإتباعُ لهداه إلا عظمةً وعلوًّا.. والالتزام بمنهجه إلا رفعةً وسمواً.. والتسليم لقادته إلا دوراً عظيماً في أمة يفخر المرؤ بانتمائه إلى قيمها ومبادئها وأَخْـلَاقها..
كان الإيْمَـان وقوده المتجدد في رحلته الخالدة.. والأَخْـلَاق والتواضع جواده الذي حمله إلى كُلّ القلوب.. فاستقر فيها طيفا خالدا لا تمحوه السنين.. وقدوة شاهدا لا يغيب عنها أبد الآبدين..
لقد سطع نورُ الله في قلبه.. فأشرق وأضاء على شفته ولسانه.. وانعكس في واقع الحياة مواقف بطولية إيْمَـانية خالدة تحتاج إلى بحر من المداد ليكتب تفاصيل سطورها… ولا طاقة لقلمي على مثل ذلك..
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ..
واليوم ها هو يودعه قائلاً:
هنيئاً لك يا صالح.. لقد بعت روحك منذ اليوم الأول.. ونلت ما كنت تتمناه.. واشترى الله منك وربحت الرهان..
نعم يا صالح.. لقد جاهدت وصدقت وحقّـق الله على يديك وعوده.. وتجلت في بطولاتك آياته التي طالما أنكرنا عليك تلاوتها..
نم قرير العين ومثلك لا ينام.. فها هو الشعب اليمني بأسره يحمل رايتك التي حملت.. ويرفع لواءك الذي رفعت.. ويمضي قدما نحو الوعد الإلهي الأكيد بنصر المستضعفين وإعلاء كلمة الله ورفع راية الدين..
السلامُ عليك يوم وُلدت ويوم جاهدت ويوم استشهدت ويوم تُبعث حيًّا..
ولا حول ولا قُـوَّة إلّا بالله العلي العظيم..
والعاقبة للمتقين..