وقفة مع برنامج رجال الله.. معرفة الله – وعده ووعيده – الدرس التاسع
الوعد والوعيد في القُــرْآن الكريم
الحلقة الأولى
المسيرة| عبدُالرحمن محمد حميد الدين
إنَّ معرفةَ الله كما يقول الإمامُ عليٌّ عليه السلام: هي أول الدين، ولذلك نجد أن القُــرْآنَ الكريمَ ركّز بشكل كبير على تعزيز معرفة الله في مضامين آياته الكريمة، فقدم معرفة الله من خلال نعم الله، ومن خلال عظمة الله وامتداح الذات الإلهية والتأكيد على كمال الله، وقدم معرفة الله أيضًا من خلال وعده ووعيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو موضوع هذا الدرس الذي نحن بصدده.
ولكن الطامّة الكبرى أنّ معرفة الله أساسًا لم تُقدم في أوساط المسلمين من خلال القُــرْآن الكريم، وأَصْبَـح [العقل والاستدلال] هو المصدر الوحيد لمعرفة الله، بل وصل الحال بمعظم فقهاء الأُمَّـة أنهم قرروا أنّه لا يصح الاستدلال على معرفة الله بالقُــرْآن الكريم، متحججين بأنه كيف يُستدل على الكافر بالقُــرْآن الكريم وهو بعدُ لم يؤمن بمَن أنزل القُــرْآن!! وهي حُجّة واهية تدل على سطحية من يؤمن بها، فالقُــرْآن الكريم أساسًا نزل على قلب سيدنا محمد (صلى الله عليه وعلى آله) ليبلغه للناس الذين كانوا في معظمهم كافرين ومشركين، كما أنّ الذي أنزل القُــرْآن هو الذي يعلم ما في النفوس، ويعلم ما يجول في خاطرها، وما ينسجم مع تفكيرها واستدلالاتها، وما يدور في خلجاتها من شبهات.
وللسيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه) خمسةَ عشَرَ درسًا في معرفة الله، وجميعها من خلال القُــرْآن الكريم، وتعتبر هذه المجموعة [موسوعة معرفية] تشكل منطلقاتٍ تفتح الآفاق لكل معارف الدين والحياة.. وهي مهمة جدًا في تعزيز معرفة الله والثقة به تعالى.. وستكون لنا وقفة تأمل مع الدرس التاسع من هذه الموسوعة القُــرْآنية والمعرفية، والتي تُصنف ضمن معرفة الله من خلال وعد الله ووعيده.
الفهم المغلوط للوعد والوعيد:
إن المتعارَفَ عليه في الأوساط العلمية والعامة عندما يأتي الحديث عن [الوعد والوعيد] يصبح المقصود بذلك هو الجنة والنار..!! وهذه إحدى النتائج الخطيرة المترتبة على استقاء معرفة الله من خارج القُــرْآن الكريم. وبالرغم من أنّ الوعد والوعيد: هو مما ملئت به صفحات القُــرْآن الكريم وتكرر كثيراً في القُــرْآن – كما يقول الشهيدُ القائد – إلا أنّ فقهاء الأُمَّـة مصرّين على حصر قضية الوعد والوعيد في الجنة والنار فقط!! وهو ما انعكس على واقع الأُمَّـة وعلى نظرتها للدين، وعلى نظرتها لهذه الحياة، بل وانعكس بشكلٍ كبير وسلبي على حالة الالتزام والخوف من الله، على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع..
حتى أَصْبَـح الإنْسَانُ لا يعتبر ما يعانيه أَوْ يتكبده، أنه قد يكون في سياق عُقوبة الله ووعيده هنا في الدنيا؛ نتيجة لتقصيره أَوْ تفريطه أَوْ ارتكابه للموبقات.. وكذلك الحال ما يحصل عليه الإنْسَان من راحة بال وتمكين وسعةٍ في الرزق هو بالتأكيد يكون في سياق ثواب ووعد الله هنا في الدنيا لعباده المؤمنين الذين استجابوا لله تعالى.. وتنطبق هذه المعادلة القُــرْآنية على مستوى المجتمع وعلى مستوى الأُمَـم أيضًا.. ومما قاله الشهيدُ القائد في ذلك:
((المؤسف هو أن هذا العنوان – الوعد والوعيد – هو من المباحث التي نقرأها في كتب [علم الكلام]، والتي تقدم إلينا باعتبارها الكتب التي من خلالها نعرف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكن بعد هذا العنوان الكبير، تقدم المسألة في أضيق نطاق، فتجد ما يبحث عنه في تلك الفصول تحت هذا العنوان، هو ما يتعلق بموضوع: [الشفاعة]، [الخلود من عدمه] أَوْ [الشفاعة للمجرمين من عدمها].
يتناول هذا الموضوع تناولاً موجزاً جداً، ثم نقفل صفحات أَوْ دفة ذلك الكتاب ونرى أنفسنا وكأننا قد عرفنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعرفنا الوعد والوعيد!، هذا شيء.
الشيء الثاني أيضاً: أنه يقدم لنا [الوعد والوعيد] سواءً من خلال كتب [علم الكلام] أَوْ من خلال ما يقدم لنا على منابرنا موضوع: [الجنة والنار] فقط, موضوع الجنة والنار، وعد ووعيد، وتقدم لنا الجنة وكأنها هي الغاية من خلقنا في هذه الدنيا، تقدم النار وكأنها تكاد أن تكون هي الغاية من وراء خلق المجرمين والكافرين في هذه الدنيا، فيصبح المفهوم لدينا والمترسخ في ذهنيتنا هو: كأن الناس إنما خلقوا هنا ليعيشوا فترة معينة في هذه الدنيا، فهي فقط مجرد مرور، هذا الوجود ليس له هناك غاية أكثر من أن يتميز هنا من الذي سيمشي إلى الجنة ومن الذي سيمشي إلى النار فقط.!
هذا المفهوم ناقص جداً، ومؤثر، وله سلبيات كثيرة فيما يتعلق بفهمنا للدين، وفيما يتعلق حتى باعتزازنا بالدين واستشعارنا لعظمة هذا الدين، مفهوم أدى إلى جهلنا بالغاية كلها من هذا الوجود)).
الحياة الدنيا هي الغاية من الخلق والوجود:
قد يكون هذا العنوان المتمثل في اعتبار الدنيا هي الغاية من الخلق والوجود شيئًا غريبًا وملفتًا.! إلا أننا لو تأملنا في طيات ومضامين الآيات القُــرْآنية الكريمة؛ من قضايا تعبدية، ومعرفية، وجهادية، ومن طاعات ونواهي، ومن قصص الأولين والأُمَـم السابقين.. وغير ذلك؛ سنجد أن الحياة الدنيا والاستخلاف في الأرض، وتقديم الشهادة على عظمة الله في الدنيا هي الغاية من الوجود.
ولذلك وللأسف أنّ أصحاب النظرية المادية الذين ينكرون البعث واليوم الآخر كانت رؤيتهم للحياة رؤية عمل وبناء وإثبات وجود، وبالرغم من انسلاخ أولئك عن ناموس الله، إلا أنهم استطاعوا أن ينقلوا شعوبهم هذه النقلة النوعية في كافة مجالات الحياة، ويتفوقوا على المسلمين في المجالات العلمية والصناعية، أما [أمة القُــرْآن] فقد اعتبرت أنّ القُــرْآن لا شأنَ له بالحياة، وأن الحياة الدنيا ما هي إلا دار ابتلاء وليست دار بناء واستخلاف..! ولذلك سقطت في هاوية [الوعيد] التي حذَّر منها القُــرْآن عندما قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}..
ومما يؤكّـد هذه القضية المهمة أنّ القُــرْآن الكريم قدّم [الجنة والنار] باعتبارهما آلة [ترغيب وترهيب] بل اعتبرهما [المأوى] وليسا الغاية الحقيقية من الخلق. حيث يقول الله تعالى في سورة النازعات: { فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)}. وغيرها من الآيات الكثيرة التي أكدت على أنّ الجنة والنار هما المأوى وليسا الغاية من الخلق. ومما قاله الشهيدُ القائد في ذلك:
((نجد القُــرْآنَ الكريمَ قدّم قضيةَ: الجنة والنار بكلها، باعتبارها آلة ترغيب وترهيب للبشر هنا في الدنيا ليستقيموا، لتستقيم الحياة، ليؤدي الإنْسَان المهمة التي استخلفه الله لأدائها، فجاء التحذير من نار جهنم، جاء الحديث الكثير عن جهنم، من أجل ماذا؟ أليس من أجل أن نلتزم هنا في الدنيا، من أجل أن نستقيم هنا في الدنيا؟ ثم نأتي إلى تشريعات هذا الدين، وإذا هي مرتبطة بالدنيا: نوع من التعامل فيما بيننا، لأداء مهام هي مرتبطة بحياتنا، مرتبطة بكرامتنا، بعزتنا، بقوَّتنا، برفعتنا، بسعادتنا، فيأتي الحديث عن جهنم ويتكرر في القُــرْآن الكريم ليرسخ في ذهنيتنا: أن جهنم هي للتخويف لنا هنا في الدنيا وليس فقط لمجرد الإيْمَـان، ثم متى ما حصل منك إيْمَـان سينفعك، ولهذا تلاحظ متى ما أقفل ملفك في الدنيا، ملف الحياة، هل سينفع الإيْمَـان بجهنم؟. لا.
في الحشر، في اليوم الذي طوله كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنه: {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}(المعارج: من الآية4) سواء كان بمعنى خمسين يوما أَوْ أن يكون بمعنى يوم واحد ينجز فيه ما ينجز في نحو خمسين ألف سنة – المهم أنه يوم طويل – أليس الناس سيكونون هناك كلهم مؤمنين، مؤمنين كلهم، مؤمنين بالجنة، ومؤمنين بالنار، هو يرى النار أمامه، أليس هذا اليقين والإيْمَـان الواضح؟ لكن هل سينفعهم إيْمَـانهم هناك؟ لا. لماذا؟
إذا كانت قضية الجنة والنار هي لمجرد الإيْمَـان بهما والإيْمَـان بك يا الله، لماذا لا ينفعنا الإيْمَـان بك ونحن الآن في المحشر؟ – حسناً، آمنا -؟ هل سينفع؟ لأن ساحة العمل هي الدنيا التي كان المطلوب أن تؤمن هناك لتستقيم تلك الحياة، لتقوم بمهمتك في الحياة على نحو صحيح.
نفسُ الشيء بالنسبة للجنة، قدمت الجنة وجاء الحديث عن الجنة ترغيباً للناس ليستقيموا هنا في الدنيا، لتستقيم الحياة في الدنيا، ليعملوا بالدين هنا، هنا في الدنيا فما الذي حصل؟ حصل تنصل عن هذه الحياة وفهم بأن الآخرة هي الغاية، هي الغاية من الوجود.. هي مأوى، هي مأوى، هي مرجع أما الغاية من الوجود، من وجود الناس فهي هنا في الدنيا)).
الخلافة في الأرض هي الغاية الوجود:
وبحسب الآية الكريمة التي تحدث اللهُ فيها عن بدء خلق آدم، واستخلافه في الأرض، فإنّ هذه الخلافة تشمل العديد من العناوين الكبرى، وليس الاستخلاف في الأرض لمجرد الحياة أَوْ لمجرد التقلب في نعيمها وخيراتها، بل إنّ هذه الخلافة تنطوي على مهام عظيمة، ومسؤولية كبيرة، وعلى رأس هذه المسؤولية [تقديم الشهادة على عظمة الله] وعلى عظمة الحق، ما لم فإنّ البعد عن ذلك الحق أَوْ العيش بمعزل عن ذكر الله ستكون عواقبه وخيمة على الإنْسَان وعلى العالم، وستتحول حياة الناس إلى جحيم؛ حتى يشكل ذلك رادعًا لهم؛ لعلهم يعودوا إلى الله وإلى الحق.. ومما قاله الشهيد القائد في ذلك:
(({وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}(البقرة: من الآية30) خليفة ماذا يعمل؟ خليفة تسخر له السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، له دور كبير، له دور مهم؛ فتأتي الجنة للترغيب للمؤمنين، للترغيب للبشر جميعا أن يستقيموا، أن يلتزموا بهدي الله، وأن يستقيموا عليه، وأن يقوموا بأعمالهم في هذه الحياة وفق هداية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم؛ وهو الذي قال لبني آدم من أول ما أهبط آدم من الجنة: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً}(طـه: من الآية123- 124) ألم يتحدث عن هذه الحياة؟.
ثم يقول: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}(طـه: من الآية124) عندما يأوي، عندما يرجع. فالآخرة هي مرجع، هي مأوى، وليست هي الغاية من الوجود، ليست هي الغاية من وجود البشر هنا؛ لأنه كان بالإمْـكَان أن يقال – سؤال أَوْ تساؤل – لماذا لم تخلقنا في الجنة من أول يوم؟ ونسلم الضجة هذه، ونسلم الفساد هذا، ونسلم كُـلّ شيء، إذا كان المقصود هو: أن البشر الغاية التي وجدوا من أجلها هو أن يصيروا إلى الجنة، كان تخلقهم في الجنة من أول يوم.. كيف تجعل الآخرة هي غاية الوجود بكله وإذا بنا نرى نحو 90% من البشر على أقل تقدير هم متجهون إلى جهنم!)).