الدُّعـاءُ من وجهةِ نظر القُـرْآن
هنادي محمد
يُعتبَرُ الدُّعاء بالنسبةِ لجميع البشر على وجه الأرض، مؤمنون كانوا أم لا، حالة فطرية فطُر الإنْسَان عليها ومدرك حقيقة أنَّهُ مخلوقٌ ضعيف كما قال الله تعالى:{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}[سورة النساء 28].
لكن بالنسبةِ للمؤمن فهو يعيش واقعاً آخر، يرى في الدُّعاء صلة وثيقة بينه وبين الله لا تنقطع ولا يغفل عنها، ويعتبر مناجاته لله وقوداً يشعل في نفسه مشاعر الحب لله والتقديس والتعظيم والتنزيه له، وقوداً يمدّه بالطاقةِ الإيْمَانية ويقربه من ربّه أَكْثَـر، ودعاؤه لله حالة مستمرة ينهجها في حياته ولا ينفكُّ عنها..
موقعهُ من العبادة:
يغفلُ المسلمون عن الالتفات لهذهِ الفريضة المهمة التي من خلالها تُجسّد العبودية الحقيقة لله؛ حينما يقف الإنْسَان بين يدي الله، يدعوه، يلجئ إليه، يستعين به، يتوجهُ إليه خاشعاً متذللاً..
فالدُّعاء جزء أساسي لا يمكن تجزئته وفصله عن بقية العبادات الأُخْـرَى واعتباره نافلة ثانوية، بل كما ورد يعتبر ” مخ العبادة “؛ لكن الدُّعاء في مقام العمل والذي لا يترافق معهُ تقصير وتهاون.
ومن عظمة الله أن جعل من الدعاء مظهر من مظهر رحمته بعباده عندما جعله سهلاً ميسرّاً، في كُـلّ حالات الإنْسَان، وأينما كان، يستطيع أن يدعو الله، يقول الشَّهيد القائد – رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ -:-
[{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(البقرة:115)ليفهم الإنْسَان المؤمن بأنه ليس هناك فقط وجهة معينة فإذا توجه بالدعاء إليها يمكن أن الباري يسمعه ويستجيب لـه لكن إذا توجه كذا أَوْ كذا يمكن أنه لا يسمعه! أينما تولوا فثم وجه الله {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}] ”الدرس السابع – مديح القُـرْآن“.
الإيْمَان والاستجابة لله أساسين لقبول الدعاء:
يقول عزَّ مِن قائل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[سورة البقرة 186]
ليستجيب الله ما تدعوه به هناك شروط، الأوَّل:
” فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي “، ولشرح هذه النقطة سأطرح سؤال واحد فقط على كلٍ منا تقديم إجابة له مع نفسه وهو: كيف نريد من الله أن يستجيب لنا ونحن لا نستجيب له فيما أمرنا ولسنا ممتثلين لما وجَّهنا به؟ قضية مفروغ منها في سنة الله وفي كتابه.
الشَّرط الثَّاني: ” وَلْيُؤْمِنُوا بِي “، يقول الشَّهيد القائد – رضوان الله عليه:-
[مسألة الإيْمَان بالله كما نقول أَكْثَـر من مرة: الناس جميعاً مؤمنون بالله، مؤمنون بأن الذي خلق السموات والأرض هو الله، وأن الذي خلقنا هو الله، وأن الذي يدبر شئوننا هو الله، لكن يوجد هنا مطلب في الآية هذه، وآيات أُخْـرَى، تذكير بأن المطلوب إيْمَان حقيقي، وإيْمَان واعٍ. أنت عندما يقول الله سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى لك: أن تؤمن به، أن تؤمن ماذا؟ يعني أنه إلهنا. وما يترتب على هذه القضية من أشياء كبيرة في علاقتك به، وفي علاقتك بالحياة هذه كلها، أنه الإله، أنه الملك، أنه رحيم، أنه عزيز، أنه قوي، كلما تعني أسماؤه الحسنى، إيْمَان عملي، إيْمَان واعي]. ”الدَّرس التَّاسع من دروسِ رمضان“.
المؤمن لا يبحث له عن بدائلَ بعيداً عن الله:
بطبيعة الحياة أنَّ الإنْسَان يمر فيها بضيق وعسر وشدّة وكرب وصعوبات، نجد أغلب النَّاس – نظراً لقلة المعرفة بالله – يتوجهن لطرق أبواب الآخرين ويستنجدون بهم ويسألونهم حاجتهم ويجدون فيهم سبيل يسرهم وتفريج همِّهم، لكن المؤمنين الواعين يعيشون حالةً أُخْـرَى، حالة سليمة تدلل على أنَّ إيْمَانهم إيْمَاناً صادقاً، يدركون أن الله هو من بيده الخير كلّه، وهو من يدبر شؤونهم، وهو الرَّازق، المنعم، الرحيم، الرَّحمن، يتوجهون إلى قبلته ويلجؤون إليه ويطرقون أبواب سماواته ويسألونه حاجتهم ويطلبونه العون، لا يتخبطون بالبحث عمّن ينقذهم فيصطدمون بجدار الباطل وأهله فيكسبون الذِّلة بديلاً عن العزَّةِ التي نشدوها..
يقول الشهيد القائد – رضوان الله عليه -: [الدعاء يعبر عن أن نفسيتك في حالة مستمرة في الالتجاء إلى الله، والتوكل على الله، والاستعانة بالله. الإنْسَان الذي يذهل عن موضوع الدعاء معنى هذه بأنه ماذا؟ مسيطر على مشاعره نسيان الله، عندما تكون ذاهلاً عن الدعاء لله ألست بطبيعة الحال في كثير مما يمر بك ستتلفت يمين وشمال وإلى الناس، وإلى الناس كيفما كانوا، وتكون حريصاً على أن تقضي حاجتك ولو على يد إنْسَان لا يقضي حاجتك إلا بما يقابلها من دينك؟. فعندما يكون الإنْسَان منقطعاً إلى الله، ويدعو الله باستمرار، وكلما مر به من ظروف، كلما مر به من مهام، في كُـلّ أمر من أموره، في كُـلّ قضية من قضاياه دائم الالتجاء إلى الله، هذه نفسها تمثل حالة من الاستغناء عن أطراف ربما قد يكون رجوعك إليهم فيه إذلال لك، وفيه بيع لدينك، وفيه دخول في باطل]. ”الدَّرس التَّاسع من دروسِ رمضان“.
علاقتهُ باستقامة الإنْسَان في الحياة:
الإنْسَان في مجال هدايته وصلاح أعماله وارتقاءه في الإيْمَان وزكاء نفسه، لا يتصوّر أن قضية التَّوفيق بيده بقدر ما التزم وعمل، لا، فجميعنا معرضون للزلل والسُّقوط والخذلان والانحراف مالم نحظى برعاية الله، بمعيته؛ فلذلك كان العلاقة الكبيرة بين الدعاء وبين استقامة الإنْسَان، يقول الشَّهيد القائد – رضوان الله عليه -:
[والإنْسَان بحاجة إلى أن يكون دائم الدعاء لله في هذا المجال خاصة تدعو الله بالتوفيق، تدعو الله أن يرزقك الاستقامة، تدعو الله أن يرزقك الصبر؛ لأن كُـلّ أمورنا، وكل شؤوننا في هذه الدنيا كثير منها يعرضنا للانحراف عن خط الاستقامة، كم يمر الإنْسَان في حياته بمواقف، وكم نرى من أناس كثيرين ينحرفون عن خط الاستقامة في كثير من مواقفهم]
”من درس إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا “.
الدعاء والمسؤولية الجهادية:
في ميادين الجهاد المقدّس في سبيل الله لإزاحة الظالمين ونصرة المستضعفين ودفع شرور الكفر وقمع الطغيان؛ يحتاجُ المجاهد وهو في ميدانهِ العَمليّ الذي يتحَـرّك فيه فتواجهه صعوبات وشدائد ومواقف يحتاج حاجة مُلحة أن يطلب من الله التثبيت والصَّبر والنَّصر، أن يسأل الله وهو مصوِّباً بندقيتهُ وسلاحه نحو العدوّ أن يسدد رميتهُ؛ فالمؤمن وإن كان مجاهداً لا يعني أنه هو من يحصد النَّصر باعتماده واتكالهِ على قدراته فينكل هو بالأعداء أيّما تنكيل، لا؛ الله – جلَّ شأنه – يربينا في كتابهِ الكريم كمجاهدين على طريقة الربِّيون:
{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}
[سورة آل عمران 147]
ولأنَّ النصر من عند الله وبيده وبإذنه، يحتاج المجاهدون أن يطلبوه منه وأن يتسببوا له بالعمل الصالح والجهاد الصادق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[سورة محمد 7]
إذن الدُّعاء، مهم في كُـلّ المقامات والمجالات ولا غنى للإنْسَان عنه.
الدُّعاء وشهر رمضان المبارك:
رمضان أيُّها المؤمنون والمؤمنات فرصة من فرص الله التي يمنحها للإنْسَان، وللدعاء خصوصيته المميزة والقيِّمة فيه، وليس حديثي ذو أهمية أَكْبَـر مما قدَّمهُ الشَّهيد القائد – رضوان الله عليه – من هدى ونور، لذلك نستعرض ما قالهُ فيما يتعلّق بهذه النقطة:-
[أليس الصيام يبدو وكأنه يريد أن نجوع ونظمأ طول النهار؟ فتنظر إليه بأنه يعني: قضية مصيبة علينا؟ لا. يجب أن تكبر الله على ما هداك إليه، أن شرع لك هذه الفريضة؛ لأنَّه عندما يشرع شيئاً لك، ويشرع لعباده، فكل ما يشرعه لهم، كلما يهديهم إليه، كلما هو نعمة كبيرة جداً عليهم، نعمة عظيمة جداً عليهم. الصيام له أثر فيما يتعلق بصفاء وجدان الإنْسَان، وذهنيته، ويحس الإنْسَان في شهر رمضان، أليس الناس يحسون وكأنهم أقرب إلى الله من أي وقت آخر؟ هذه فرصةً للدعاء، تلاحظ كيف أن الصيام مهم فيما يتعلق بالقُـرْآن الكريم، القُـرْآن الكريم مهم فيما يتعلق بمعرفة الله حتى يجعلك تشعر بالقرب من الله سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى. إذاً فمن الإيجابيات الكبيرة له: أن تلمس في نفسيتك صفاء لذهنك، مشاعرك مشاعر دين، مشاعر قرب من الله، أن تدعو الله سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}(البقرة: من الآية186). هذه من النعم العظيمة لا يحتاج الإنْسَان أولاً يبحث عن جهاز اتصال، يبحث كم الرقم التابع للسماء الفلانية، أَوْ تحتاج إلى أن تصعد إلى أعلى قمة من الجبال تدعوه. أينما كنت، وفي أي وضعية كنت، فهو قريب منك. هذه من الأشياء التي ينفرد بها المؤمنون، ينفرد بها المؤمنون عندما يكونون بالشكل الذي ينقطعون عن تولي أي طرف آخر إلا تولي الله سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى، ومن أمر بتوليهم في سبيل توليه]. ”الدَّرس التَّاسع من دروسِ رمضان“.
أسألُ من الله الهداية والتَّوفيق والثَّبات، والعون والسَّداد والرَّشاد، وحُسن الخاتمة بالاستشهاد..
والعاقبـةُ للمتَّقيـن.