في ميزان الربح والخسارة.. يحق للشهادة أن تُستوعَبَ كثقافة وعطاء مقدّس وسامٍ له آثاره العظيمة في الحياة
– ما الذي أوصل الإمام علياً (صلوات الله عليه) إلى أن نراه يخرُّ صريعاً في وسط أمة مسلمة؟
من أهم المفاهيم الغائبة في واقع الأمة الإسلامية هو مفهوم [الشهادة] الذي تحول إلى مصطلح نظري في مرحلة من أخطر المراحل في تاريخ الإسلام وفي منعطف أصبح فيه المسلمون أحوجَ ما يكونون لثقافة [الشهادة].. فاليوم أمريكا والصهيونية العالمية ترى في الإسلام والمسلمين الخطرَ الوجودي على مخططاتها الشيطانية في المنطقة والعالم..
ولذلك فقد سعت العديد من المنظمات والبرامج الدعائية التي تدعمها الصهيونية العالمية إلى محاربة المفاهيم القرآنية المؤثرة في واقع المسلمين بأساليب متعددة ومتنوعة لا يسعنا استعراضها.. وكانت [داعش والقاعدة] من أبرز الوسائل التي استخدمتها المنظومة الصهيونية لغرض تشويه مفهوم الشهادة في سبيل الله، وذلك ضمن مهمتها كمنظمات تكفيرية تستهدف تشويه الإسلام بكل قيمه ومبادئه العليا..
بعض المكاسب التي تصنعها الشهادة في واقع الأمة:
هناك الكثير من المكاسب على المستوى العام التي تصنعها ثقافة الشهادة والتي يصعب حصرها أو استحضارها، وبالتفاتة بسيطة في عصرنا الحديث إلى بعض الدول التي عاشت ثقافة الشهادة في واقعها وكانت جزءً لا يتجزأ من تاريخها وذلك كجمهورية إيران الإسلامية، نجد كيف صنعت تلك الثقافة مجدًا وسؤددًا ورفعة ومكانة راقية بين دول العالم، حيث تحولت هذه الدولة الإسلامية إلى دولة إقليمية تناطح دول الاستكبار العالمي ثقافيًا وعسكريًا وصناعيًا.. وكل ذلك بفضل الله وبفضل الدماء الطاهرة التي تدفقت لتصنع هذا المجد وهذه المكانة العظيمة بين الأمم..
وفي اليمن كذلك كان لثقافة الشهادة الدور المحوري في الانتقال باليمن من خانة الأصفار إلى خانة الملايين ولا يزال الرقم في تصاعد مستمر..
فمنذ الحرب الأولى في صعدة وما تلاها من حروب ظالمة وصولاً إلى العدوان الأمريكي السعودي كانت ثقافة الشهادة هي الحاضرة دومًا في الميدان.. وهو ما جعل المشروع الأمريكي في اليمن يتفتت ويصبح في خبر كان.
لذلك يقول السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي في خطابه بمناسبة الذكرى السنوية للشهيد لعام 1439هـ: ((الشهداء بصمودهم وتضحياتهم يقدمون لمن خلفهم من أممهم من أقوامهم من شعوبهم ما يساعدون على تعزيز الأمن والاستقرار والحماية والدفاع، ويدفعون عنهم الكثير من الشر، الكثير من الظلم، الكثير من الاضطهاد من الاستعباد.. إلى آخره، فيحق للشهادة أن تُستوعب كثقافة عظيمة، وكعطاء مقدس وعظيم وسامي له آثاره العظيمة في الحياة ونتائجه المباركة، ويدفع عن الناس الكثير من التضحيات والخسائر العبثية الغير محسوبة، غير المثمرة؛ لأن الناس لو لم يتحركوا لدفع الظلم عن أنفسهم في مواجهة الشر والاستكبار يمكن أن يُداسوا وأن يُستباحوا وأن يُقتلوا بدمٍ بارد، وتكون تضحياتهم غير مثمرة لا تدفع عنهم شيئا، لا تسهم في تحقيق نصر، ولا في دفع خطر، ولا في الوقاية من شر..)).
هذا الواقعُ العظيمُ الذي أوجزناه هو ما تصنعه الشهادة على المستوى العام.. أما على المستوى الشخصي فهناك الكثير من الكلام الذي يجب قوله؛ فالحديث عن الشهادة هو حديث عن التضحية والإباء والكرامة وعن المبادئ العليا..؛ لذلك فالقرآن الكريم أعطى الشهادةَ مساحةً واسعةً في مضامينه الكريمة؛ لما لها من مكاسبَ استراتيجيةٍ على مستوى الأمم والمجتمعات وعلى المستوى الشخصي المرتبط بالشهيد نفسه..
الشهادة هي أرقى وأفضل عملية استثمار لفناء محتوم:
من الحقائق الثابتة والسنن الإلهية عند كافة البشر أن الموت هو النهاية الحتمية لكل إنسان في هذه الأرض، وأنه مهما امتلك الإنسان من إمكانات هائلة إلا أنه لا يمكن أن يعيشَ حياةً أبدية أو يحدد السقف الزمني لعمره ووجوده..
لذلك نجد أن الأمم ذات الديانات المنحرفة عن الإسلام، أو حتى المفصولة في واقعها عن الدين، لا تجد في ثقافتها ولا في أدبياتها، ما يعزز روح العطاء والتضحية حتى وإن تم تغليفها بعناوين الوطنية والحرية؛ إلا أنها تظل خاوية من أية دوافع روحية ومعنوية تؤدي إلى هبة مجتمعية واعية في طريق التضحية من أجل الهدف المطلق المتمثل في سبيل الله بمفهومه الواسع المعروف في الأدبيات القرآنية الكريمة..
فلا يوجد مثلاً لدى تلك الأمم عنوان اسمه [الاستشهاد في سبيل الله].. ولو جاء أحدنا ليتكلم أو ليكتب عن [استثمار الموت] باعتباره [نعمة عظيمة] لكان هذا العنوان محطّ استغراب واستنكار الكثير من الناس الذين يرون في الحياة الدنيا بحلوها ومرّها المكان الجدير بالعيش والموت لأجله..!!
ويقول السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه) إشارة لهذا الموضوع في الدرس السادس عشر من دروس رمضان: ((نعمة عظيمة كبيرة عليك أن يفتح لك باب جهاد في سبيل الله فتستغل موتك، تستثمر موتك فتحظى بالشهادة، وإلا كل واحد سيموت وإذا أنت ستموت لا شك، فأين أفضل لك تموت هكذا، أو يكون موتك له فائدة بالنسبة لك، أليس أفضل للإنسان أن يكون موته يكون فيه فضل عظيم ودرجة رفيعة له؟ بل يقهر الموت نفسه؛ لأن الشهيد عندما يقول الله: {وَلاَ تَقُولُوا لِمْن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ}(البقرة: من الآية 154) لا تسموهم أمواتاً، وليسوا بأموات إنما هي نقله بسرعة أليس هؤلاء استطاعوا أن يقهروا الموت وأن لا يكونوا أمواتاً؟)).
فلو لم يكن من [مكاسب الشهادة] على المستوى الشخصي إلا أحد أمرين: الأمن من فزع يوم القيامة أو الحياة الأبدية التي يحظى بها منذ اللحظة التي تفارق فيها روحُه الحياةَ.. ولذا يقول الشهيد القائد في الدرس السادس عشر من دروس رمضان ضمن حديثه عن الشهيد والشهادة: ((ويكفي أن فيها الأمن يكفي الإنسان الأمن أن يعرف بأن مصيره أصبح مصيراً مضموناً، أنه من أهل الجنة ولا خوف عليه ولا حزن هذه في حد ذاتها تعتبر نعمة كبيرة جداً؛ لأن الإنسان في الأرض هنا يكون قلقاً يعني ما يعرف كيف قد تكون نهايته، ما عنده ضمانة مؤكدة تماماً، بأنه إلى الجنة وإن كان في طريقها، لا يعرف كيف تكون النهاية بالنسبة له، أما الشهيد فهو حيّ وقد عرف أنه من أهل الجنة وفي نفس الوقت هو في جنة، الجنة الحقيقية، أو جنة أخرى، لم يعد هناك موت بالنسبة له، ولم يعد هناك قلق بالنسبة له على الإطلاق هذه الحالة لوحدها تعتبر نعمة كبيرة جداً أنه قد أمن عذاب الله قد أمن جهنم، قد أمن من سوء الحساب قد أصبح يقطع بأنه من أهل الجنة)).
الإمام علي (ع) كان يرى في الشهادة مقامًا عظيمًا وأمنية يطلبها:
وعندما نتأمل في بعض مواقف الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام نرى فيه ذلك الرجل الذي كان ينتظر اليوم الذي تتحقق له الشهادة في رضى الله ورضوانه، فكان يمتلك قضية ومشروعًا يتمنى أن يكون شهيدًا في محراب ذلك المشروع.. فكانت قولته الشهيرة “فزتُ وربِّ الكعبة” في أصعب لحظة وفي أشدِّ المواقف التي من غير السهل قولها أو حتى استشعار معناها تحت ضغط ذلك الموقف الذي تعرض له الإمام علي عليه السلام في محراب مسجده.. ومن منّا يمتلك تلك الروح الإيمانية العلوية التي تجعله يصل إلى درجة اليقين بالنتيجة الحتمية التي ستتحقق لها من خلال الشهادة في سبيل الله..؟!!
ويشير الشهيد القائد إلى اللحظات الأخيرة من حياة الإمام علي والتي شخَّصَ فيها موقفه عليه السلام واستقباله للشهادة؛ ومما قاله (رضوان الله عليه) في محاضرة ذكرى استشهاد الإمام علي (ع): ((تحدثنا عن ما الذي أوصل الإمام علياً (صلوات الله عليه) إلى أن نراه يخرُّ صريعاً في وسط أمة مسلمة، وداخل بيت من بيوت الله، كيف كان استقباله للشهادة هو؟. لنعرف أن الإمام علياً (صلوات الله عليه) كان يرى أن مقام الشهادة مقام عظيم، وأنها أمْنِيَة كان يطلبها، أنها أمنية كان يسأل رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) عنها هل سيحصل عليها؟، ومتى سيحصل عليها؟.
استقبلها الإمام علي (عليه السلام) استقبال من يعرف كرامة الشهيد, عظمة الشهيد. فعندما خرَّ صريعاً بعد تلك الضربة قال (صلوات الله عليه): ((فُزْتُ ورب الكعبة)))).
ويستدرك الشهيد القائد معلقًا على موقف الإمام علي عليه السلام وعلى قولته المشهورة (فزتُ وربِّ الكعبة) قائلاً: ((لماذا سماه فوزاً؟. وهل يمكن للكثير منا.. الذي يرى نفسه فائزاً أنه لم يُقْحِم نفسه – كما يقول الكثير – في مشكلة، أنه لم يدخل في عمل ربما يؤدي إلى مشكلة، أنه يبتعد مسافات عن أن يحصل عليه أبسط ما يحتمل من ضر في ماله أو في نفسه، هل يمكن لأحد ممن يفكر هذا التفكير أن يقول عندما يحتضر, عندما تأتيه ملائكة الموت: ((فُزتُ ورب الكعبة))؟؟. لا والله، بل ربما يصرخ مُتَأَوِّهاً..)).
حياة اللا موقف والانتظار العبثي:
وهناك حالة خطيرة جدًا وشائعة في أوساط الناس وبالأخص في مراحل الصراع بين الحق والباطل؛ ويُطلق على هذه الفئة (المحايدين) أو (الفئة الصامتة) وهم من لا يمتلكون موقفًا، فلا هم نصروا الحق ولا خذلوا الباطل..!! والكثير منهم قد يحسب نفسه ذكيًا وحكيمًا في حياده..!! لكن الأحداث لا تعفيهم من تبعاتها وتداعياتها؛ حيث يقول السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي (يحفظه الله): ((وإما أن تكون ضحية بدون موقف يعني: لا أنت وقفت بشكل رسمي وواضح بجانب الطغيان في جبهة الشر والطغيان، ولا أنت وقفت بشكل واضح ومبدئي في جبهة الحق والخير في هذا الوجود في هذه الحياة، وأردت لنفسك أن تكون بلا موقف؛ هكذا منتظرًا على حسب اتجاه البعض لمن سيحسم المعركة؛ ليكون في صفه في ظل هذه الحالة من الانتظار العبثي، تأتي الأحداث وتدوسك الأحداث وتكون ضحية لها..)).