تحكيم صِفين
محمد الشميري
ما طالعنا به قرشاش من تصريح إيقافِ العمليات العسكرية الإماراتية في الساحل الغربي بشكل مؤقت، يأتي حسب تصريح الناطق الرسمي لأنصار الله محمد عبدالسلام حفظه الله في سياق التغطية على فشلهم العسكري في الساحل الغربي، وفي سياق استهداف جماهير الشعب اليمني والتضليل على المجتمع الدولي ومحاولة للضغط على الأمم المتحدة أن تذهب إلى الحل الجزئي بدلاً عن الحل الشامل، كما يروّجون له.
وموقفٌ كهذا شبيهٌ بموقف التحكيم في معركة صفين أو يكاد، ففي معركة صفين عندما كادَ مالك الأشتر يصلُ إلى قرب خيمة معاوية بن أبي سفيان، ابتكر عمرو بن العاص خدعةً لمعسكر معاوية بأن يرفعوا المصاحف على أسنَّة الرماح ويدعوا الإمام علياً عليه السلام إلى الاحتكام إلى القرآن، ورفعوا شعار: “لا حُكمَ إلا لله”، فانطلت الخديعةُ على الكثير من المقاتلين في جيش الإمام علي ممن أسموا فيما بعدُ بالخوارج، وشهروا سيوفَهم في وجهِ الإمام علي ليقبَـلَ بالتحكيم، حتى قال الإمام علي عليه السلام حينها: “إنّها كلمةُ حقٍّ يُرادُ بها باطل، إنّهم والله ما رفعوها، وهم يعرفونها ولا يعملون بها، ولكنّها الخديعة والوهن والمكيدة”، ولما اختار معاوية عمرو بن العاص ليكون حَكَمَاً من طرفه اختار الإمام علي، عبدَ الله بن عباس؛ لأنه كان ذكياً عارفاً بحيل ابن العاص، فقال الأشعث: لا واللهِ لا يحكُمُ فيها مضريان حتى تقومَ الساعة، ولكن اجعله رجلاً من أهل اليمن، فأتوا بأبي موسى الأشعري فاتفقا على خلع الرجلين، ولما قام أبو موسى ليتكلمَ دَعاه ابن عباس فقال له ويحك وإني لأظنه خدعك، إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه قبلك ليتكلم به ثم تكلم أنت بعده فإنه رجل غدَّار، فتقدم أبو موسى، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس اجتمع رأيي ورأي صاحبي على خلع علي ومعاوية وأن يوليَ المسلمون أمورَهم مَن أحبوه وإني قد خلعت علياً ومعاوية فولّوا مَن رأيتموه لهذا الأمر أهلاً ثم تنحّى، فقام عمرو بن العاص فقال إنَّ هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فقال له أبو موسى: مالك لا وفقك الله، قد غدرت وفجرت، إنما مثلُك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، فقال له عمرو: إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارًا.
إلا أن هذه الحادثة خلّدت درساً وعبرةً على مدى التأريخ.. ونحن ندركُ جيداً أن الأمريكيين وعملاءَهم من السعوديين والإماراتيين خُلُقُهم الغدرُ ونقضُ العهود والمواثيق كما وصفهم اللهُ سُبحانَه في كتابه العزيز: “َكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ” لأنهم “لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ”، ولنا تجربةٌ كبيرةٌ في التعامُلِ معهم تمكّـننا من إدراك مكرهم وخبث حيلهم ومراوغتهم، إضافةً إلى فهم عميق جداً للتوجيهات القرآنية التي توضح كيفية التعامل مع هكذا حالات، ففي سياقٍ كهذا يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال: “إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُون” فيبقون على كفرهم ولا تنفعهم الآيات والعبر، َ ويوضح الله جانباً من سلوكياتهم “الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُون”َ الله بالوفاء بالعهود، ثم يرشدنا الله لكيفية التعامل مع هؤلاء بقوله: “فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ”، فإذا تمكّـنت وظفرت بهم في الحرب، فاقتلهم وشرد بهم، “وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِم عَلَى سَوَاءٍ”، أبلغهم إلغاء عهدهم وأنه لم يبقَ بينك وبينهم عهد، “إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ * وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ۚ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ”، ثم يؤكّـد الله على التنبه لمكرهم وعدم الاغترار بخداعهم، ويطالبنا بالمزيد من الحشد والتعبئة والإعداد الكبير لهم سواءً على مستوى العدة والعتاد أو الإعداد النفسي والمعنوي، وحشد كُـلّ ما يمكن أن يكون فيه إرهاباً لهم، ولأعوانهم ومرتزقتهم، سواءً الناشطين منهم أو الخلايا النائمة فيقول سبحانه: “وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ”، ويؤكّـد أيضاً على أهميّة الإنفاق إلى جانب التضحية والاستبسال، فيقول: “وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ”، ثم إذا ما طلبوا الصلح والسلم بجدية مع التوقف الفعلي لكل العمليات العسكرية وليس مجرد مراوغة، بعد أن يحصل كُـلّ ما سبق حينها: “وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ۚ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ”، فمثل ما أيدك الله ونصرك عليهم فإنه حسبك عليهم وهو الناصر لك عند خيانتهم، وسنة الله هي التمكين من الخائنين “وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ”، هذا خلاصة ما يحدث، وهذه المنهجية التي نتعامل بها تجاه ما يحدث، فلا يمكن أن تنطلي علينا التصريحات المضللة، ولا المساعي الملتوية، ولا الخدع والمراوغة، وقضية التحكيم في صفين لا يمكن أن تتكرر، وأنصار الله والأبطال المجاهدون المنقادون للقيادة الحكيمة هم بروحية وإيمان كميل بن زياد ومالك الأشتر، والأشعث بن قيس الكندي، وسعيد بن قيس الهمداني، وحجر بن عدي الكندي، ولا وجود بينهم لأبي موسى الأشعري، وتوجيهات القرآن الواضحة التي نتمثلها في مثل هكذا موقف هي: “فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ”.