التأريخ يصنع وعينا (7): رسالة حفاش إلى أذيال قرقاش
حمود الأهنومي
في الأسبوع الفائت تصدّر الأخبارَ العالميةَ تقريرُ وكالةِ الأسوشيتد برس عن الانتهاكات الجسيمة، التي تعرّض لها سجناء يمنيون في عدن، وكان أبرزها الانتهاكات الجنسية، والاغتصاب، على أن هذه الحوادث ليست يتيمة دهرها، فمن قبلها حوادث كثيرة، تمثلت باغتصاب رجالٍ ونساءٍ وأطفالٍ، منها ما ظهر إلى العلن، ومنها ما بطن، وواحدة مما ظهر كانت تكفي؛ لأنَّ تجر جبلي حراء وثبير، وتحرِّك “حفائظ أهل النهى”، وتثير غضبَ كُـلّ يمني حُرٍّ، وحمية كُـلّ عربي شهم.
غير أن المصيبة أن حدَثًا مثل هذا مرّ مرور الكرام، وكأن الأمر لا يعدو نزوَ قردٍ على أنثاه في جنحٍ من الليل، والأكثرُ وجعا أنه حين يتحدّث الأحرار عن هذه القضايا، ويذكرون بأن هذا هو الوضع الطبيعي للقبول بالغزاة سادة على بلدهم، يقولون ذلك بهدف استثارة حفائظ الأحرار في اليمن، واختبار كمائن رجولتهم، ومخبَّآت فحولتهم، لكن المفاجأة أنك تجد أولئك المعنيين بهذا الحدث قبل غيرهم، يرفعون عقائرَهم بأنكر الأصوات: أن لا علاقة لكم بهذا، وحين تعرف أن هؤلاء هم مَنْ رحَّبوا بالغزاة لاحتلال أرضهم، ستكتشف أنك تعيش وهما كبيرا وأنت تطالبهم بالدفاع عن أعراضهم، والتحَـرّك نصرة لها.
إن ثقافة منحطة، ووعيا عقيما، وهوية ضائعة، وأزمة أخلاقية ضربت بجذورها في أعماق هؤلاء الأقزام، الذين لم يغاروا على أعراضهم ولا على حرماتهم، ولم يدعوا الآخرين يغارون بالنيابة عنهم، والحقيقة تتجلى بلا امتراء، أنه لو كان لديهم ذرة من حمية على عِرض، أَوْ حفيظة على حرمة، لكنا وجدناهم في صف الأحرار المواجهين للغزاة، ولكنا رأينا لهم شجاعة، وغِيرة، في مواجهة المعتدين؛ إذ قديما قالت العرب في أمثالها: (على قدر الحمية تكون الشجاعة)، وَ(على قدر الحمية تكون الغيرة)؛ غير أننا لم نر لهم شجاعة، ولا عثرنا لهم على حمية.
هكذا بقدر اعتزاز القوم بهويتهم، وحميتهم على أعراضهم، يكون مدى تحَـرّكهم في مواجهة أعداء بلدهم، ووطنهم، ولستَ مخطئا حين تجعل الغيرة على الوطن ترمومترا حساسا لاكتشاف الحمية على العرض.
والسؤال الآن: ماذا دهى هؤلاء القوم الذين وصل بهم الحال إلى هذا النحو البشع، والمهين، والمخزي؟ ما الذي جعلهم أبرد من ليلة شاتية في محيطٍ متجمِّد، لا يحرّكون ساكنا، وقد صار (عارُهم) حديثَ العالم كله؟ وما الذي جعل شخصا يدعو بكل وقاحة إلى أن يغتصبه الغزاة على أن يصمت أحرار هذا البلد؟
هل هي الثقافة الوهابية التي تجعلُ كُـلّ شيء بقضاء الله وقدره؟ وتعِد أهلَ الكبائر بشفاعة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم؟ وتبشِّر من قال: (لا إله إلا الله بالجنة وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر) بحسب عبارة بعض أحاديثهم؟ هل هي آثار العمالة للأعداء، ونتائج الارتزاق الخبيث لدى الأوغاد، ونهايات الانبطاح للأجانب؟ هل هو ضعف الدين؟ وخسارة التقوى؟ هل هي النفس اليهودية تلبَّسَتْهم؟ فاحتذوا خطواتها اللعينة حذو القذة بالقذة؟
دعوني أعود للتأريخ لنكتشف سويا مَنْ هو اليمني في عهده النابض بالحرية؟ لتروا أيَّ رجال كان آباؤنا؟ وأي الرجال اليوم يمضون على إثرهم؟
في سنة 1034هـ أذاعت أنباء التأريخ أن أهل منطقة حفاش (تتبع اليوم محافظة المحويت) قتَلوا متولي منطقتهم التركي، والذي كان يعرف بـ(مقلِّع الأسنان)، فما هو السبب الذي حمل منطقة مسالمة كمنطقة (حفاش) على قلْع رأس (مقلع الأسنان)؟
يجيب تأريخ الشرف والرجولة أن السبب هو أن مشايخ تلك الجهة دخلوا على عاملهم في يوم الجمعة للسلام عليه على العادة، وكان في ذلك الوقت سكران.
-قال لهم: ما موجبُ دخولكم؟
-قالوا: للسلام عليك كالعادة.
-قال: إذن نطيِّبكم، (أي نرشُّكم بالطيب والعطر)
ثم فتح الغازي الخبيث سرواله، وبال عليهم، فخرجوا مغضبين.
فماذا فعل القوم؟ هل سكتوا عن بول السكران، كما سكت هؤلاء عن بول (خرفان الخلفان) في أعراضهم؟
لم يخلد أولئك إلى الراحة، ولا مكثوا يتلذذون وخز الضمير، ولا وخز الغزاة في فاقدي الشرف والرجولة اليوم.
بل جمع (أهل حفاش) رعيَّتهم وثاروا عليه، فقتلوه.
في الوقت الذي جمع كثير من مرتزقة عدن أجسامهم الرخيصة وذهبوا لقتال إخوانهم في الساحل الغربي نيابة عن من أنزل بهم خزي الدهر كله، وعار التأريخ من أوله إلى آخره.
أولئك أهل حفاش هم اليمنيون بالأمس، واليوم لا تجدونهم في (عدن) بل في الساحل الغربي يذيقون الغزاة ومرتزقتهم أليم النكاية، ويطأونهم بشديد البأس.
إنهم هؤلاء الشعث الغبر الذين يتلمَّظون غيظا أن مرتزقا حقيرا يقاتلهم في صفوف الغزاة، وربما عن قريب يلقي به حدَثان الدهر، وغير الزمان ليكون تحت أفخاذهم!!.
يا بئس القوم أنتم.. هل تعرفون أن مَن تقاتلونهم هم من سيخلصون التأريخ من عاركم هذا؟
أليسوا هم القوم الذين يصدق عليهم المثل العربي القائل: “إن الحفائظَ تَنْقُضُ الأحقادَ”، قالوا: إذَا كان بينك وبين ابن عمّك عداوة وعليه في قلبك حقد، ثم رأيتَه يُظْلَم حَمِيتَ له ونسيتَ ما في قلبك ونَصَرْتَه.
لكن مَن رضي بالغزاة لم نعد نعرفه لا عربيا ولا عجميا، فأي جنس هؤلاء الذين لا يثيرهم اغتصاب النساء في الخوخة، ولا يحرك شيئا من نخوتهم اغتصاب الرجال في عدن؟!!
إن الأمل معقودٌ اليومَ على أولئك الأحرارِ المُسْتحْفَظِين لحرمات اليمنيين جميعا من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه، وهم الذين قصدَتْهم العربُ يومَ قالت: “أهل الحَفائظ: المُحامون من وراء إخوانهم، مُتعاهدونَ لأمورهم، مانِعونَ لعَوْراتِهم”، وهم الذين قال قائلهم يوما:
إنّا أُناسٌ نَلْزَمُ الحَفائِظا… إذ كَرِهَتْ ربيعةُ الكَظائِظا
وليس على أولئك الذين انتُهِكَتْ أعراضُهم، إلا أن يستيقظوا، وليردِّدوا ما قاله سلفٌ لهم، كان أقلَّ عارا منه، وأهون استباحة، حيث اغتصب إبلا له فقط، فراح يخلد قضيته بشعره، فقال:
لو كنتُ من (صعدةٍ) لم تستبِحْ (حُرَمي)… بنو اللقيطةِ من (قرقاش خلفانا)
إذن لقامَ بنصري معشرٌ خُشُنٌ… عندَ الحفيظةِ إنْ ذو لُوثةٍ لانا
لكنَّ قومي وإن كانوا ذوي عدد… ليسوا من (العار) في شيءٍ وإن هانا
وعذرا من الشاعر على استبدال بعض مفرداته بما يناسب المقام، ولا إعذار، لمن سبق إليه الإنذار.