النظام السعودي في الليلة الظلماء
المسيرة: إبراهيم السراجي
يمُــــرُّ النظامُ السعوديّ اليومَ بأضعف مراحله، وبعضِّ النظر عن مآل قضية اختفاء أَوْ إعدام الصحافي السعوديّ جمال خاشقجي وتقطيع جثته بمنشار كهربائي، وما إذا نجح في التوصل إلى تسوية بشأنها، إلا أن السعوديّةَ بعد هذه القضية لن تكونَ كما كانت قبلها، غير أن حجمَ الضرر الكبير الذي أحدثته هذه القضية في بُنية النظام السعوديّ لم يكن ليصل إلى ما وصل إليه لولا أن الحادثةَ وقعت بعد قرابة أعوام من الغرق في اليمن عسكرياً وسياسيّاً واقتصادياً وأَخْــلَاقياً، فالعدوان نال كثيراً من مناعة النظام السعوديّ وحَدَّ من قدرته على تجاوز مثل هكذا أزمة كانت لتكونَ صغيرة لولا توقيتها.
النظامُ السعوديّ الذي اعتدى على اليمن وحاصره وقاطع قطر وأراد عزلَها وموّل توجهاتِ الإدَارَة الأمريكية لمعاقبة إيران اقتصادياً، بات اليوم يعيشُ عُزلةً غير مسبوقة وحملة مقاطعة عالمية (انظر ص11)، في ظلِّ فشل لحق بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب في حِماية الملك السعوديّ وولي عهد رغم محاولاته تبرئتهما بقوله إنه يعتقدُ أن قضية خاشقجي يقف وراءها “قتَلة مارقون”، في مسعىً لإيجاد أكباش فداء لتسوية هذه القضية. رواية ترامب لم تقنع العالم الذي وجد في هذه القضية فرصةً للنيل من نظام اعتقد أن انبطاحَه للبيت الأبيض وإسرائيل سيمكّنه من استعراض عضلاته على الدول كما حدث مع كندا وألمانيا، وهو ما يفسّر الضغوط الغربية غير المسبوقة التي تدفع باتجاه عزل ابن سلمان.
فشلُ ترامب في جعل روايته مقبولةً لم ينحصر على الخارج بل على الداخل الأمريكي، فالسيناتور الجمهوري ليندسي غراهام الذي كان يوصف بأنه زعيم اللوبي السعوديّ في الولايات المتحدة قال إن مَن يقف وراء مقتل خاشقجي ليسوا “قتلة مارقين” بل “ولي عهد مارق”، مؤكّـداً أن على محمد بن سلمان أن يرحل.
فكرةُ عزل ابن سلمان إلى هذه اللحظة تبدو مفروضةً على البيت الأبيض الذي حاول حمايته، وتزايد الضغوط أجبر الإدَارَة الأمريكية على التعامل مع هذا الحَـلّ، حَيْــثُ كشفت قناة “سي إن إن” الأمريكية أن وزيرَ الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أبلغ ابنَ سلمان خلال زيارة الأول للرياض قبل أيام أن “مستقبلَه كملك للسعوديّة بات في خطر”.
لا تنطلقُ الإدَارَة الأمريكية في هذه القضية من منطلقات إنْسَانية، فتصريحات ترامب في الأيّام الماضية تؤكّـد ذلك عندما قال إنه لا يؤيد وقف تسليح السعوديّة؛ لأنَّ هذا سيحرم الولايات المتحدة من 110 مليارات دولار بالإضَافَة إلى محاولته تبرئة ابن سلمان، غير أنه وكما انطلق ترامب من مصالح بلاده في محاولة حماية ابن سلمان فقد أجبرته الضغوط على التراجع بتصريحات قال فيها إنه إذا ثبت ضلوع ولي العهد بقضية قتل خاشقجي فإن ذلك سيكون سيئاً للغاية.
ويرى مراقبون أن السعوديّة تواجه موقفاً لا تُحسد عليه، فبقاء محمد بن سلمان في المرحلة المقبلة لن يكونَ في صالحه وعزله سيؤكّـد هشاشةَ النظام السعوديّ وانهياره في مواجهة قضية يُفترَضُ ألا تُحدِثَ هذا الزلزال في بنية النظام. وانطلاقاً من هذا الوضع كشفت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية نقلاً عن دبلوماسي فرنسي أن هيئةَ البيعة في السعوديّة تعقد اجتماعاتٍ سرّية لبحث خيار عزل ابن سلمان.
وبحسب الصحيفة ذاتها تنظر هيئة البيعة منذ أيام وبأعلى درجات الاهتمام والسرية في تعيين ولي لولي العهد كخطوة أولية تمهيداً لعزل ابن سلمان، مرجّحةً أن يكون خالد بن سلمان شقيقُ ولي العهد الحالي هو المرشح للمنصب الجديد استجابةً لرغبة الملك في حصر العرش على أبنائه.
وتضيفُ الصحيفة أن ولي العهد السعوديّ سبّب مشاكل داخلية وخارجية لبلاده وأن قضية خاشقجي مثّلت فرصةً لهيئة البيعة لعزله خصوصاً أنه خلق لنفسه الكثيرَ من العداوات داخل عائلة آل سعود وفي صفوف الحرس الوطني، بالإضَافَة إلى تورطه في الحرب على اليمن والأزمة مع قطر.
أما ابن سلمان الذي سبق وأن قال إنه سيحكم لنصف قرن ولن يوقفه سوى الموت، فيعيشُ حالة اكتئاب حادّة وفقاً لتقاريرَ صحفية، باغتياله خاشقجي في هذا التوقيت، قتل مستقبله السياسيّ، وبات بقاؤه عبئاً على المملكة وحلفائها الأمريكيين.
ومن المفارقة أن النظام السعوديّ الذي قاد العدوان على اليمن بذريعة “إعادة الشرعية” بات اليوم يحاول جاهداً الدفاع عن شرعية ابن سلمان، وهو ما ظهر في الحملات المنظّـمة في مواقع التواصل الاجتماعي من قبل ما يسمى “الجيش الإلكتروني” التابع لابن سلمان ذاته، وهي الحملاتُ التي تحملُ شعاراتٍ تتمسّك بولي العهد، وما كان لها أن تحدث لولا شعور ابن سلمان نفسه بتعرُّضِ شرعيته لضربة قاتلة.