“الأساليب العسكريّة الجهادية عند الإمَـام الهادي” في ورقة مقدمة بندوة نظّمها المجلس الزيدي: لا بد من الإقدام والنية والاعتزام والرؤية الثاقبة للجهاد في سبيل الله والنيل من أعدائه
طه أحمد صلاح العجري
تمهيد:-
بسم الله الرحمن الرحيمِ
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرف خلق الله محمد بن عبدالله وعلى آله الأطهار، وبعد..
إنَّ شخصيةً كشخصية الإمَـام الهادي بما لها من تأثيرٍ كبيرٍ على مستوى العالم الإسْلَامي قد يجد الإنْسَـان صعوبةً في الحديث عنها واستقراء وتتبُّع ما تحلت به من مؤهُّلات قيادية وسمات خالدة تركت بصماتها المضيئة عبر التأريخ.
فالإمَـامُ الهادي -عَلَيْـهِ السَّـلَام- يُعَدُّ مدرسةً متكاملة زاخرة بعطائه الفكري ومنهجه العملي يستضئ بنوره الدعاة وناشدي الحَـقّ والعدالة، فببركته شهد المجتمع اليمني نقلة كبيرة وتطوراً في حياته السياسية والاجتماعية والفكرية والعسكريّة وقدم النموذج الصحيح والتجسيد الأمثل للحكومة الإسْلَامية.
وكما عُرف الإمَـام بمقامه العلمي وبلوغه مرتبة عالية في فهمه للإسْلَام وأحكامه وَبدوره التربوي العظيم الذي أسهم في بناء مجتمع مثالي يحملُ الوعي والبصيرة وتسوده مكارم الأَخْلَاق والقيم النبيلة عرف أيضاً واشتهر بجهاده العظيم وقيادته العسكريّة البارعة وشجاعته المنقطعة النظير، فالإمَـام عاش جُلَّ حياته مجاهداً يقود ويخوض غمار المعارك ويقضي على المفسدين وله ملاحمُ خالدة سطّرها التأريخ بأحرفٍ من ذهب، فهو الذي وقف في وجه التوسُّع الخطير للقرامطة التكفيرين ومنع من انهيار المجتمع اليمني وسقوطه في وحل الهزيمة وحرّر كثيراً من المناطق التي كانوا قد سيطروا عليها.
وسنحاول في هذه الورقة البحثية أن نقدم صوراً من بعض جوانب حياته الجهادية واساليبه العسكريّة.
الثلاثُ الفئاتُ التي واجهها الإمَـام الهادي:
الأولى: المنافقون ممن أزعجتهم المبادئ والقيم التي جاء بها الإمَـام؛ باعتبارِها أضرّت بمصالحهم القائمة على البغي والظلم وسلب حقوق الناس والهيمنة على المجتمع وتزعم ذلك بعض كبار القبائل
الثانية: أنصار الدولة العباسية والدافع لهم لمحاربة الإمَـام ما عُرف عنه من إقامته ومحاربته للفساد والفجور ومنعه للظلم ورده للحقوق إلى أهلها ومناصَرته للمظلوم، وهم كما الفئة السابقة يعتبرون الإمَـام ومشروعَه الإسْلَامي قد حَرَمَهم من الامتيازات التي كانوا يحظون بها من نهب الأموال وارتكاب أنواع المظالم والمنكرات دون رقيب أَوْ حسيب، هذا ويغذي عداءَهم وانتماءهم الإسمي والشكلي للدولة العباسية التي تعادي أهل البيت -عَلَيْـهِم السَّـلَام- في المقام الأول.
الفئة الثالثة: القرامطة وهم فئةٌ تكفيريةٌ تستبيح دماء وأموال وأعراض مخالفيهم وعُرفت بمجازرها الوحشية ضد حجاج بيت الله الحرام وأعمالها الهمجية في شتى مناطق العالم الإسْلَامي في العراق والشام والحجاز واليمن، يقومون بإحراق المدن وهدم مساكنها وكل مقومات الحياة فيها بعد إبادة سكانها ولم يسلم منهم حتى بيتُ الله الحرام الذي قاموا بهدمه وسرقة الحجر الأسود ردحاً من الزمن، وهي فئةٌ توسعية عدوانية متوحشة مجردة من الإنْسَـانية تهدفُ إلى إقامة حكم خاص على بحرٍ من الدماء لا تحمل أي مشروع حضاري، ذات طابع عدواني، وكان للإمَـام الفضلُ الأول لإنقاذ اليمن من شرهم وبلائهم.
والمتأملُ لسيرة الإمَـام الهادي وتعامله الحكيم مع كُــلّ فئة بأسلوب يتوافق مع مقتضيات وحيثيات الصراع.
فانتصارات الإمَـام التي خلّدها التأريخ يقفُ خلفها مسارٌ وثقافةٌ جهادية حملها الإمَـام وحوّلها إلى برنامج عملي أثمر أُمَّـة شديدة البأس.
نشأةُ الإمَـام الهادي الجهادية:-
الإمَـامُ الهادي نشأ في أُسرة إيْمَانية عُرفت بالجهاد والتضحية، فجدُّه هو الإمَـامُ الكبيرُ القاسم بن إبراهيم الرسِّي ومواقفُه في الجهاد ومنابذة الظالمين مشهورة يعد أحد رجال الثورة الجهادية ضد المأمون بقيادة أخيه الإمَـام محمد بن إبراهيم المشهور بصاحب أبي السرايا، كادت تلك الثورة تقضي على الحكم العباسي وبعد استشهاد الإمَـام محمد حمل لواءَ الجهاد بعده ونشر دعوتَه في مختلف مناطق العالم الإسْلَامي استمر لأَكْثَــر من خمس وأربعين سنة على دعوته حتى توفي سنه 247هـ، وعندما نتتبع بقية آبائه نجدهم قد قضوا جميعاً شهداءَ في سبيل الله فإبراهيم أحد أبرز المناصرين للإمَـام الحسين بن علي الفخي -عَلَيْـهِ السَّـلَام- سقط جريحاً في المعركة لا حراك به وفي الليل خرجت مجموعة من القبائل القريبة من مكة لدفن الشهداء فوجدوه جريحاً وبه رمقٌ من الحياة فداووه حتى شُفِيَ وبقي مطلوباً للسلطات حتى وقع في أيديهم وسُجِنَ سنوات عديدة ثم استطاع الإفلات من السجن ومكث سنةً في بغداد عند بعض أصحابه حتى تمكّن من الخروج منها إلى أرض الحجاز، ولما بلغ العباسيين وجودُه في الحجاز بعثوا مَن دَسَّ له السمَّ فاستشهد [-عَلَيْـهِ السَّـلَام-] مظلوماً محتسباً عند الله الأجر والثواب.
وَإسماعيل بن إبراهيم مع والده إبراهيم بن الحسن استشهدا في سجن المطبق في الهاشمية في سنة 145هـ لمناصرتهما للإمَـام محمد بن عبدالله النفس الزكية.
والإمَـام الحسن بن الحسن الرضى وهو القائمُ ضد الحجاج بن يوسف الثقفي استشهد مسموماً بعد خذلان أهل الكوفة له هكذا نجد آباءه جميعهم شهداء قضوا في سبيل إعلاء كلمة الله ونُصرة المستضعفين، فلا غرو أن يكمل مشوار الرسالة التي حملها آباؤه الطاهرون.
العقيدة القتالية للإمَـام الهادي:ـ
ولفهم الروحية الجهادية للإمَـام -عَلَيْـهِ السَّـلَام- نجده ينظر إلى الجهاد في سبيل الله ومقاتلة الظالمين من أوجب الواجبات، فيقول -عَلَيْـهِ السَّـلَام- (فكان أفضل ما افترض الله عليهم وجعله حجةً مؤكدة فيهم الجهاد في سبيله والأمر بالمعروف الأَكْبَــر والنهي عن التظالم والمنكر ولذلك مدح الله به الأنبياء والمرسلين).
ويقول -عَلَيْـهِ السَّـلَام- (بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ألّف الله بين المؤمنين وجعلهم إخوةً عليه متوالين).
ثم يوضح -عَلَيْـهِ السَّـلَام- أن الجهادَ في سبيل الله يحتاجُ إلى نية راسخة وعزم ثاقب وتغلب على أهواء النفس وتوطينها على المواجهة العسكريّة فيقول -عَلَيْـهِ السَّـلَام- (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا ينال إلا بالإقدام والتصميم والنية والاعتزام الكريم على الجهاد في سبيل الله وتوطين النفس على ملاقاة أهل الظلم والطغيان فحينئذ ينال ذلك ويؤدي فرض الله من كان كذلك وهو الجهاد في سبيل الله).
الترغيبُ في الجهاد والترهيبُ من تركه:-
ثم إن الإمَـامَ يوضح الغايةَ الهامة التي بسببها فُضِّل الجهاد على بقية الأعمال وهي غايات تصب جميعها في مصلحة الإنْسَـان، فالجهاد مرتبط بهدف مقدس وبالتالي فساحة الجهاد مقدسة بقدسية أهدافها التي سردها الإمَـام على النحو التالي:
(وما ذكر الله من تفضيل الجهاد، فأَكْثَــرُ من أن يُحيط به كتاب، وهو معروفٌ عند من رزق فهمَه من ذوي الألباب، وكيف لا يكونُ للجهاد في سبيل الله فضلٌ على جميع أعمال المؤمنين وبه يُحيى الكتابُ المنير؟ ويُطاع اللطيف الخبير، وتقوم الأحكام، ويعز الإسْلَام، ويأمن الأنام، وينصر المظلوم، ويتنفس المهموم، وتتجلى الفاحشات، ويعلو الحَـقّ والمحقون، ويخمل الباطل والمبطلون، ويعز أهل التقوى، ويذل أهل الردى، وتشبع البطون الجائعة، وتكسى الظهور العارية، وتقضى غرامات الغارمين، وينهج سبيل المتقين، وينكح العزاب، ويُقتدى بالكتاب، وترد الأموال إلى أهلها، وتفرق فيما جعل الله من وجوهها، ويأمن الناس في الآفاق، وتفرق عليهم الأرزاق).
ثم يحذر -عَلَيْـهِ السَّـلَام- من التهاون والتهرب عن الجهاد، إذ لا يعفيه من المسئولية أمام الله ولا ينجيه من عدوه بل سيتحمل إصراً أعظم ويضطر إلى مواجهة عدوه في ظروف أصعب يقول -عَلَيْـهِ السَّـلَام-.
(فيا ويلُ من تخلف عن الله وخالف الهدى، وركن إلى الأولاد والدنيا، أما سمع قول الله تعالى فيما نزل من القُـرْآن الكريم حين يقول لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِيْنَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَونَ إِلَى قَومٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] فأوجب لمن اتبع الجزاء الحسن والثواب، ولمن تخلف عن ذلك أليم العقاب. فنعوذ بالله من البلاء، والحيرة والشقاء، والركون إلى ما يزول ويغنى، والأشرة له على ما يدوم ويبقى).
التعلق بالأعذار يُبطِلُ الأعمال العبادية:-
ثم يوضح أن التعلقَ بأنواع التبريرات والأعذار تبطل أعمال الإنْسَـان العبادية الأخرى، وفي ذلك يقول -عَلَيْـهِ السَّـلَام- (فيعلم كُــلّ عالم، فليعلم كُــلّ عالم أَوْ جاهل، أَوْ مَن دُعِيَ إلى الحَـقّ والجهاد فتوانى، وتشاغل، وكره السيف والتعب، وتأول على الله التأويلات، وبسط لنفسه الأمل، وكره السيف والقتال، والملاقاة للحتوف والرجال، وآثر هواه على طاعة مولاه، فهو عند اللطيف الخبير، العالم بسرائر الضمير، من أشر الأشرار، وأخسر الخاسرين.. إن صلاته وصيامه، وحجه وقيامه بُور، لا يقبل الله منه قليلاً ولا كثيراً، ولا صغيراً ولا كبيراً. وأنه ممن قال الله سبحانه فيه حين يقول: {وُجُوهٌ يَومَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً}[الغاشية: 2ـ 4]. وكيف يجوز له الإقبال على صغائر الأمور من الصالحات، وهو رافض لأعظم الفرائض الواجبات؟! وكيف لا يكون الجهاد أعظم فرائض الرحمن؛ وهو عام غير خاص لجميع المسلمين؟!
وعَمَلُ من عمل به شاملٌ لنفسه ولغيره من المؤمنين؛ لأنَّ الجهاد عزٌ لأولياء الله، مُخيف لأعداء الله، مُشبع للجياع، كاسٍ للعراة النّياع، نافٍ للفقر عن الأُمَّـة، مصلح لجميع الرعية، به يقوم الحَـقّ، ويموت الفسق، ويرضى الرحمن، ويسخط الشيطان، وتظهر الخيرات، وتموت الفاحشات.
والمصلي فإنما صلاته وصيامه لنفسه، وليس من أفعاله شيء لغيره. وكذلك كُــلّ فاعل خير فعله لنفسه لا لسواه).
لقد كانت عقيدة الإمَـام الجهادية باختصار مستقاة من صميم ثقافة القُـرْآن الكريم ومن نهج أعلام الهدى من أهل البيت -عَلَيْـهِم السَّـلَام-.
حرص الإمَـام على بناء الإنْسَـان إيْمَانياً ومعنوياً:-
حرص الإمَـامُ منذ وصوله اليمن على بناء الإنْسَـان في إيْمَانه ورفع مستوى وعيه فاليمن قبل مقدمه المبارك كان يرزح تحت وطأة الخلافات المجتمعية والاقتتال المستمرّ وتردي الواقع الثقافي والفكري واجه الإمَـام هذا التحدي وعمل على بناء أُمَّـة مجاهدة واعية مستبصرة وحقّق نجاحاً عظيماً، ويعزو المؤرخون انتصارات الإمَـام الباهرة إلى النوعية المتميزة من المجاهدين، رغم قلتهم العددية.
مسارا البناء الإيْمَاني لدى الإمَـام الهادي:-
المسار الأول تثقيفي والمسار الثاني عملي..
ـ المسار الأول: عبر خطب ومواعظ ورسائل الإمَـام الكثيرة والتي تتضمن شدهم إلى الله وتعزيز الثقة به والاعتماد عليه والقطع بأن النصر من عنده، وكان الإمَـام لا يمل من تعليم أصحابه وتذكيرهم في كُــلّ وقت وقبل كُــلّ معركة بآداب الجهاد وكان شعاره {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} وكثيراً ما كان يعمل على تقويم وتعديل أخطائهم وتوضيحها لهم وتذكيرهم بخطورتها على واقعهم.
ولقد تشرب تلاميذه وأتباعه روحَه فعاشوا تلك الأهداف التي عاش لها وكانوا بحقٍّ نماذجَ عظيمة في الإخلاص والتجرد وعمالقة في التضحية والفداء، ولقد حدثنا عنهم الإمَـام وهو يصفُهم بقوله:
تذكرني نياتهم خير عصبة **** من الناس قد عفت عليها الجنائب
من أصحاب بدر والنظير وخيبر**** وأُحُد لهم في الحَـقّ قدما مناقب
ـالمسار الثاني: للإمَـام أساليب تربوية عملية ففي إحدى حروبه بلغ الإمَـام أن بعض جنده ممن ناصره حديثاً نهب بعض الأموال فجمع الإمَـام جنده وأمر بجمع حطب عظيم وأشعل النار فيه وقال لهم أيها الناس من يقوم منكم فيدخل في هذه النار وأشهد الله أني أدفع إليه جميع ما معي من ثوب وآلة ومتاع ونقد فقالوا من يدخل هذه النار وما ينفع المتاع لمن يدخل النار فقال لهم ويحكم فما يحملكم على الأفعال التي تدخلكم النار، اتقوا الله وردوا ما عندكم من متاع المسلمين والضعفة والمساكين والأرامل والمستضعفين فإنكم والله إن أطعتموني دخلتم الجنة. وقد أثر هذا الأسلوب فيهم فرد الجُنْدُ جميعَ ما عندهم.
ـ ومن المواقف العملية التي تعزّز الثقة بالله والاعتماد عليه أن الإمَـام -عَلَيْـهِ السَّـلَام- في صراعه مع القرامطة أراد الخروج لقتالهم فتردّد أصحابه في بادئ الأمر لما يسمعونه من كثرتهم وقلة عدد أصحاب الإمَـام كانوا في ذلك الوقت ألف مقاتل فقال لهم أتفزعون وأنتم ألفا رجل فقالوا إنما نحن ألف فقال بل أنتم ألف وأنا أقوم مقام ألف وأكفي كفايتهم كان ثم انتخب منهم ثلاثمائة رجل وسلحهم بسلاح الباقين وهجم على القرامطة وشعاره {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} فهزمهم شر هزيمة. وقتل منهم مقتلة عظيمة.
الاهتمام بالتدريب ورفع مستوى المهارة القتالية:-
من أولويات أعماله هو الاهتمام بتدريب أصحابه وتعليمهم فنون القتال بما فيها معرفة التشكيلات القتالية.
وقد باشر الإمَـام هذا العمل في الشهر الثالث بعد وصوله إلى اليمن فأمر بجمع الناس وخرج بهم إلى خارج صعدة فعبأهم بنفسه ميمنة وميسرة وقلباً ويصف لهم القتال وكيف يطعن بالرمح وكيف يضرب بالسيف ثم يأخذ الرمح ويُريهم ما وصف لهم.
تشكيل الإمَـام الهادي للقوات الخَاصَّـة:-
يعد الإمَـام الهادي -عَلَيْـهِ السَّـلَام- أولَ من شكل وأنشأ فرقاً عسكريّة ذات قدرات قتالية متفوقة فبالرغم من تميز وتفوق جيشه المجاهد ومهارته القتالية العالية رغم صغر حجمه الذي لم يكن يتجاوز في أغلب الأحيان أَكْثَــر من ألفي مقاتل إلّا أن الإمَـام -عَلَيْـهِ السَّـلَام- اختصَّ مجموعة منهم وهم من المهاجرين من الطبريين والمضريين وبعض ممن أراد الانضمام اليهم من اليمنيين بيعة خَاصَّـة تسمى بيعة الصبر، وكان الإمَـام يعدهم للمهام الصعبة والاقتحامات الخطيرة وكانوا هم جوهرَ وصفوة المجاهدين، وعند تتبعنا لسير معاركه نجده يعتمد عليهم في اصعب المهام واشد الظروف خطورة، وقد أظهرت تلك القوات قوةً وصبراً وتجلداً وإيْمَاناً وثباتاً واستبسالاً لا نظير له وعلى أيديهم وبإخلاصهم وفدائيتهم حقّقوا الانتصارات في أغلب معارك الإمَـام، وقد بلغ الإمَـام -عَلَيْـهِ السَّـلَام- تعجب الناس من صبر أصحابه وإحرازهم للانتصارات المتتالية على أعداء يفوقونهم أضعافاً فقال -عَلَيْـهِ السَّـلَام-: ((ويحهم وما يعجبون من ذلك ولو كان معي ألفا راجل وخمسمائة فارس مؤمنين صابرين لدوخت بهم عامة الأرض أين مَن الله معه ممن لا نصيب له من الله تعالى)).
الترتيبات العسكريّة للإمَـام الهادي:-
للإمَـام في معاركه ترتيبات معينة نجدها في أغلب المعارك والحروب التي خاضها وهي على التوالي:
1\ التنظيم 2\ الاستطلاع 3\التخطيط 4\التنفيذ.
أ- التنظيم:
كان -عَلَيْـهِ السَّـلَام- شديدَ التنظيم لأصحابه قبل وأثناء كُــلّ معركة فينتخب منهم مجاميع، وِفْــقاً للمهام العسكريّة المناطة بهم وكان -عَلَيْـهِ السَّـلَام- يوضح لكل فريق مهمته وكانت المهام تشمل فرق الاستطلاع وفرق الاقتحام وفرق الالتفاف على العدوّ وفرق الحماية.
ب- الاستطلاع:
تطالعنا سيرة الإمَـام الهادي أنه كان كثيراً ما يستطلع مراكز العدوّ ويعرف تعبئتهم العسكريّة ومراكزهم ثم يأمر أصحابه بالهجوم بعد ذلك وأحياناً كان الإمَـام يرسل جماعة من أصحابه يستطلعون الأرض والمكان والعدوّ.
ج- التخطيط:
وهي المرحلة التي تسبق الهجوم فبعد جمع المعلومات اللازمة نجد الإمَـام -عَلَيْـهِ السَّـلَام- يرتب أصحابه ويعطيهم التوجيهات وفق الخطة المراد تنفيذها وقد برع الإمَـام في ذلك وتفوق على جميع أعداءه بالتخطيط والتنظيم وفي سيرة الإمَـام -عَلَيْـهِ السَّـلَام- ما يقف الإنْسَـان إعظاماً وإجلالاً للإمَـام -عَلَيْـهِ السَّـلَام- لعظمة وحكمة ترتيباته التي يعجز الإنْسَـان عن وصفها بل ويحار الفكرُ فيها، وقد شهد بعظمة الإمَـام -عَلَيْـهِ السَّـلَام- العدوّ والصديق، فهذا محمد بن مصبح اليرسمي يعترض على الإمَـام -عَلَيْـهِ السَّـلَام- ناصحاً له بتغييرها فقال له يا بن رسول الله إنك تحمل أصحابك على الهلكة وعدوهم مستظهر عليهم وأنا خائف أن يُنالوا فانظر في أمرهم ولا تحملهم على المكروه. فقال له الهادي -عَلَيْـهِ السَّـلَام-: لا فسوف نسرُّك بعد قليل إنْ شاء الله فانصرف محمد وهو يقول: والله ليفضحن أصحاب الهادي وليقتلن ولينالن منهم عدوهم ما أراد، فإنا لله وإنا إليه راجعون على هذا الرأي الذي رآه الهادي وانتهت تلك المعركة بنصر حاسم وساحق للإمَـام واستولى على حصن لم يستطع أحد لا في الجاهلية ولا في الإسْلَام من الملوك الاستيلاءَ عليه، وكانوا يرجعون عنه مهزومين لحصانته وشدة بأس أهله، فهم من أشهر أهل اليمن في الرمي بالسهام والصلابة في القتال، ولما فتح الإمَـام الحصن أتى عند ذلك محمد بن مصبح اليرسمي إلى الهادي -عَلَيْـهِ السَّـلَام- وقال له: جُعلت فداك، الحمد لله الذي نصرك على عدوك فما كنا نظن أنك تنال منهم ما نلت ولقد رأيت في حربهم رأينا أن ذلك الرأي خطل وأنك لترى الرأي فنرى أنه خطل فيثبتكم الله فيه وتؤول الأمور إلى محبتك.
د- التنفيذ:
يقول الله تعالى (فاذا عزمت فتوكل على الله)..
لم يكن الإمَـام يعرف التردّد في حياته مطلقاً بل كان -عَلَيْـهِ السَّـلَام- يخوض الصراع بقوة وعنفوان فمهما بدت الأمور صعبة ومهما اعترض طريقه من عقبات لم يكن ذلك مما يوهي عزمه أَوْ تجعله يتراجع عما عزم القيام به.
ففي حربه على المفسدين في نجران أعد وانتخب من جيشه ثلاثمائة رجل وثلاثين فارساً لاقتحامها وأمر بخرق الحصن حتى انفتح فيه باب مقدار يدخل فيه الفارس، ووقعت معركة شديدة حول الباب حتى اقتحمه الإمَـام ودخله ونادى أصحابه بالدخول وكانت القرية تعجُّ بجموع المفسدين فلما دخل افترق عنه الناس ولم يدخل معه إلّا ستة رجال وسبعة فرسان فلما توسط القرية ورأى قلة أصحابه شاورهم فقالوا نرى أعزك الله أن تنصرفَ وتسرع بالخروج بنا من قريتهم فلم يدخل معك من أملت ولم يدخل إلّا من ترى من خاصتك (أي القوات الخَاصَّـة) والقوم في وجهك عساكر عظيمة خيلاً ورجلاً، فاللهَ اللهَ في نفسك وفينا فقال لهم الهادي -عَلَيْـهِ السَّـلَام-: ويحكم إن خرجنا منها لم ندخلها أبداً وطمع القوم فينا، فالله الله الصبر الصبر، ثم دعا بهم وقال لهم يا معشر الإخوان أنتم أهل الصبر والدين والوفاء لرب العالمين وقد أبحت منكم أن تكفوني ظهري وتحموه لي وتتركوني وما قدامي من الكلاب كلاب الناس فأنا بحول الله وقوته أكفيكم إياهم.. فضمنوا أن يكونوا من وراءه ويحموا له ظهره فبدأ الإمَـام بهجومه ومع هذا كان الإمَـام أسرع من حُماته فمرق يخرق صفوف الأعداء حتى عجزوا عن لحاقه ويأسوا منه وعلم الهادي بعجزهم عن لحاقه فثبت صلواتُ الله عليه يقارع الجموع حتى قتل منهم عدةً من صناديدهم وكانت ضرباته صلواتُ الله عليه علوية حيدرية فلما شاهد القوم بأسَ الإمَـام وقوته وقتلَه لفرسانهم ولو منصرفين ورجع أصحاب الإمَـام الهادي فوجدوا الإمَـام وقد قتل أحد فرسان ورؤساء الأعداء وأمر بأخذ القتيل ورميه خارج القرية فلما رآه أصحاب الإمَـام كبّروا ودخلوا القرية وانهزم العدوّ هزيمةً حاسمةً وقتلوا منهم قتلاً ذريعاً واستولى الإمَـام على القرية وأسر أَكْثَــر من 50 من رؤساء وقادة الأعداء وانتهت المعركة بهزيمة كبيرة أوهنت المفسدين والمجرمين ورفعت من راية أهل الحَـقّ المؤمنين.
المعاصي سبب من أسباب الهزيمة:-
في أحد معارك الإمَـام وكان مريضاً لم يشهد المعركة فانهزم أصحابُ الإمَـام فقال لهم الإمَـام -عَلَيْـهِ السَّـلَام-: اعلموا أنه ما نكص قوم على أعقابهم إلّا بمعصية فيهم لله عز وجل وبدأ يحدثهم عن نبي الله موسى -عَلَيْـهِ السَّـلَام- وما جرى له من الانتصارات ثم هزيمة بني إسرائيل بعد ذلك وأن الله أوحى إليه بسبب هزائمهم هو لاقترافهم المعصية قال أحد الحاضرين- فعلمنا أن الهادي -عَلَيْـهِ السَّـلَام- قد أركن أنّا انقلبنا على أعقابنا تلك العشية كان لسوء فعلنا.
أسباب انتصارات الإمَـام الهادي -عَلَيْـهِ السَّـلَام-:-
هناك أَكْثَــر من عامل وراء تلك الانتصارات الكاسحة التي حقّقها الإمَـام الهادي..
أول تلك العوامل وأهمها هو صدق الإمَـام الهادي وإخلاصه فيما يدعو إليه، ويقينه الجازم بأنه وأصحابه على الحَـقّ وأن أعداءه على الباطل، فوق ما كان يتمتع به من شجاعة خارقة وإقدام منقطع النظير، كما كان هو وأصحابه الخُلَّص يتميزون بصبرهم الشديد أمام أهوال المعارك وشدائدها، صبراً كان يثير استغراب الناس وعجبهم، وكان يقول عندما يبلغه تعجب الناس واستغرابهم: ((ويحهم وما يعجبون من ذلك ولو كان معي ألفا راجل وخمسمائة فارس مؤمنين صابرين لدوخت بهم عامة الأرض أين مَن الله معه ممن لا نصيب له من الله تعالى، وترديده لقول الله سبحانه وتعالى (كم من فئة قليلة علبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين )..
ثاني تلك العوامل هو: التزامُ جيشه بآداب الجهاد، فجيشه هم تلك المجموعة النادرة من الرجال، من المهاجرين الطبريين والعلويين والمضريين الذين تركوا ديارَهم وأهلهم، وهاجروا إليه، ولا مطلبَ لهم سوى النصر لدين الله أَوْ الشهادة في سبيل الله. هؤلاء الرجال الصادقون مع غيرهم من اليمنيين الخلص الذين كانوا على هذا المستوى من الإيْمَان والفداء، شكّلوا معاً -على قلتهم– طليعة مميزة، كانت تقذفُ بنفسها في مقدمة الصفوف، حريصة على الموت أَكْثَــر من حرص أعدائها على الحياة، فما كانوا يتزحزحون أَوْ يفكرون في الاستسلام.. كان شعارهم دائماً القتال حتى النصر أَوْ الشهادة. وكان الإمَـام الهادي يبايع الناس بيعةً عامةً ويختصُّ هذه المجموعة ببيعة خَاصَّـة كانوا يسمونها بيعة الصبر.
وسببٌ آخر لتلك الانتصارات، هو التزامُ الإمَـام الهادي الدقيق بأحكام الإسْلَام وأَخْلَاقه في سلمه وحربه، وفي سياسته وحكمه، مع أصحابه ومع أعدائه. ذلك التطبيق الدقيق لأحكام ومبادئ الإسْلَام أوجد صورة مشرقة كان يرسمها الهادي في كُــلّ منطقة يدخلها، من إزالة الفتن والثارات وإقامة العدل بين الناس وإزالة المنكر بكل صوره وأشكاله. ثم لا تلبث تلك الصورة أن يتسامع بها الناس في كثير من البلاد، فيتطلع المظلومون إلى التحرّر من الظلم والاستعباد ويطمع الخائفون في قدر من الأمن والأمان. ويترقب الكارهون للفسق والفجور، حياة الطهر والنظافة التي يصنعها الإسْلَام. كُــلّ ذلك أوجد أعداداً كبيرة في كثير من المناطق، وينتظرون قدوم الإمَـام الهادي ويترقبون مجيئه.
وفي الجُملة كان الإمَـامُ الهادي -عَلَيْـهِ السَّـلَام- شخصيةً قيادية من الدرجة الأولى ومن الرجال العظماء الذين يتركون أثرهم على التأريخ وهو بما توافر له من السمات الهامة المكونة للشخصية القيادية والعوامل والمؤثرات الأسرية والثقافية التي تعاورت على بناء شخصيته كان لا بد أن يكون قائداً؛ لأنَّه خلق ليكون كذلك؛ لأنَّ القيادة طاقة يمتلك الهادي مخزوناً ضخما ً منها وقدرة أن يصرفها وقد تساعده الظروف وقد لا تساعده وفي هذا تتفاوت خطوطُ عظماء التأريخ.
وصلى الله على محمد وعلى آله الطاهرين.