رأس خاشقجي في مزاد علني: أدلة أردوغان تضيّق الخناقَ على النظام السعوديّ
المسيرة: إبراهيم السراجي
مع دخول الأزمة أسبوعها الرابع، تأخُذُ قضيةُ اغتيال الصحفي جمال خاشقجي مساراً سياسياً ومالياً أكثرَ وضوحاً مبتعدةً عن مسارها الإنْسَاني بعدَما انتهت القوى الغربية من استغلال الشعارات لتنتقلَ إلى طور المكاسب، نقلةٌ كانت ما تزالُ بحاجةٍ لمزيدٍ من التجاوُبِ السعوديّ لتقديم رواية أكثرَ قبولاً أمام الرأي العام الدولي تسهّل للبيت الأبيض والدول الأوروبية التقدمَ خطوةً نحو تبرئة ولي العهد السعوديّ محمد بن سلمان، فيما لم تتأخر الرياض هذه المرة عن توفير رواية جديدة.
يوم الخميس الماضي خرج النائبُ العام السعوديّ في بيان جديد يقول إن النيابة السعوديّة تلقت معلوماتٍ تفيدُ بأن عملية اغتيال خاشقجي تمت بتخطيط مسبق، وهي الروايةُ الرابعة بعد روايات الإنكار ثم القتل شِجاراً ورواية مقتل خاشقجي جراء كتم أنفاسه من قبل الفريق الذي تزعُمُ السعوديّةُ أنه أُرسِلَ لإعادة خاشقجي إلى المملكة وليس لقتله. غير أن الروايات السعوديّة كانت تتمسّك دائماً بعدم عِلم ولي العهد بالمُخَطّط كله في ظل الروايات الأربع.
وقال بيانُ النائب العام السعوديّ إنه “وردت إلى النيابة العامة معلوماتٌ من الجانب التركي الشقيق من خلال فريق العمل المشترك بين المملكة العربية السعوديّة والجمهورية التركية الشقيقة تشير إلى أن المشتبهَ بهم في تلك الحادثة قد أقدّموا على فعلتهم بنية مسبقة”.
وفي محاولة لإضفاء مزيدٍ من المصداقية سرّب مسؤولٌ سعوديّ معلوماتٍ لوكالة رويترز تفيدُ بأن المستشارَ بالديوان الملكي الذي أقيل مؤخراً سعود القحطاني أشرف على عملية الاغتيال بالصوت والصورة عبر تطبيق “سكايبي” وتبادل الشتائم مع خاشقجي قبل أن يأمر فريق الاغتيال قائلاً: “هاتوا لي رأس هذا الكلب”.
الروايةُ الرابعةُ السعوديّة جاءت بالتزامن مع وضوح أهداف الدول الغربية وتركيا، وجرى الإفصاحُ عنها بعد زيارة رئيسة الاستخبارات المركزية الأمريكية “جينا هاسبل” لتركيا ولقائها بالرئيس رجب طيب أردوغان، ووفقاً لتقارير صحفية قام أردوغان بتقديم نُسخة صوتية من تسجيل عملية قتل خاشقجي لضيفته الأمريكية، فيما قامت الأخيرة بتسليمها للرئيس الأمريكي دونالد ترامب قام بعدها الأخير بالتصريح للصحافة أنه لا يستبعد ضلوعَ محمد بن سلمان في العملية التي وصفها بـ “أسوأ عملية تستر على جريمة”، مانحاً الكونجرس صلاحيةَ اتّخاذ الإجراءات المناسبة لمعاقبة السعوديّة.
ووفقاً للمعطيات والمواقف المتوالية، لا يبدو أن الدول الغربية وتركيا على عجَلة في حسم القضية وتسويتها لمزيد من الابتزاز والحصول على أكبر قدر من المكاسب المالية من النظام السعوديّ، وفي نفس الوقت لا يبدو أن تلك الدول في طريقها لإدانة محمد بن سلمان بإصدار أمر اغتيال خاشقجي، فالرئيس التركي وبعدما وعد بكشف كافة الحقائق في خطاب متلفز، تراجع وألقى خطاباً لم يتضمن سوى تحليلات وإن كان قد رفض المزاعم السعوديّة بخصوص القضية لكنه أحجم عن تقديم الحقائق التي وعد بها.
التراجع التركي عن كشف الحقيقة كشف بشكل كبير عن وجود توجُّهٍ لعقد صفقة تسوية تنهي القضية، خصوصاً أن قناتَي العربية السعوديّة وسكاي نيوز الإماراتية نقلتا خطابَ أردوغان ببث مباشر، وهو ما أكّـد وجودَ عِلْمٍ سعوديّ مسبق بما سيقوله أردوغان، الأمرُ الذي رَدَّ عليه ولي العهد السعوديّ بالإشادة بالرئيس التركي وقال إن في ظل وجود الملك سلمان والرئيس أردوغان لن يكون هناك أيُّ أثر سلبي للعلاقات السعوديّة التركية.
لكن وفيما يبدو أنه انعكاسٌ لتعثر ما في التفاهمات السعوديّة التركية أعاد أردوغان القضيةَ إلى نقطةٍ متأخرةٍ، واضعاً النظام السعوديّ في زاوية ضيقة، مطالباً إياه بالكشف عن مصير جُثة خاشقجي وهُوية الشخص التركي الذي زعمت السعوديّة أنه فريق الاغتيال سلمه الجثة، غير أن الأخطرَ في تصريحات أردوغان هو مطالبته النظام السعوديّ بالكشف عن الشخص الذي أمر بقتل خاشقجي، وهو التساؤُلُ الذي يضع ولي العهد في دائرة الاتهام، بالإضافة إلى أن أردوغان يريد إبقاءَ خيوط اللعبة في يده وإجبار النظام السعوديّ على الإقرار بأن تركيا الوحيدةَ التي تملك مفتاحَ براءة ابن سلمان وأن ذلك لن يكون بالمجان.
ولوّح أردوغان مجدّداً بامتلاكه أدلةً خطيرةً وفي نفس الوقت أكّـد أنه ليس مستعجلاً على كشف كافة الأوراق التي يمتلكُها، حيث قال: “لدينا بالقطع معلوماتٌ أخرى ووثائق، ولكن لا داعي للتعجل”.
وعلى الرغم من التصريحات التركية التي تنفي سعيَ أنقرة لعقد صفقة إلا أن المؤشرات تقول عكس ذلك، منها لماذا تراجع أردوغان عن وعدٍ قطعه بكشف كُــلّ الحقائق المتعلقة بالجهات التي تقفُ وراء قتل خاشقجي.
في أوروبا تباينت المواقفُ، حيث دعا متحدثُ الاتّحاد الأوروبي إلى موقف موحد أوروبياً لوقف تسليح السعوديّة، في حين تعهدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بوقفِ صادرات الأسلحة للرياض لحين تفسير مقتل خاشقجي، لكن الرئيس الفرنسي إيْمَـانيويل ماكرون كان في عَجَلة من أمره للحاق برَكْب المكاسب وتسوية القضية، حيث صرّح، أمس الجمعة، معبراً عن رفضه ربط صادرات الأسلحة بقضية خاشقجي، وقال متسائلاً: “ما الصلة بين مبيعات السلاح ومقتل السيد خاشقجي؟ أنا أفهم الصلةَ مع ما يحدُثُ في اليمن. لكن لا صلة لذلك بالسيد خاشقجي”.
كُلُّ هذا لا يعني أن النظامَ السعوديّ بات في وضعٍ أفضلَ اليومَ، فما تزالُ الضغوط قائمةً خصوصاً في ظل الدعوات المستمرّة لإجراء تحقيق دولي مستقلّ، بالإضافة إلى أن الرياض في أحسن الأحوال سيكون عليها دفعُ ثمن باهظ لشراء براءة ابن سلمان في وقت تعاني اقتصادياً بشكلٍ غيرِ مسبوق.