متى ستعترف بقتل آلاف اليمنيين وتوقف العدوان؟! بقلم/ أ. د/ عبدالعزيز صالح بن حبتور*
حين أعلنت السعوديّة على لسان نائبها العام الأخ سعود بن عبدالله المعجب في الساعات المتأخرة جداً من يوم الجمعة الموافق 19 أكتوبر 2018م بواقعة (موت) الإعلامي السعوديّ الشهير جمال خاشُقجي في قنصليتها بإسطنبول، كانت القيادةُ السعوديّة قد احتاجت إلى قرابة الـ 17 يوماً لكي تقولَ للعالم أجمع بأن السيدَ جمال خاشُقجي (مات) في قنصليتها وفقاً لرواية جديدة بشأن (موت) مواطنها الخاشُقجي بوصفه حدث نتيجةَ شجار بينه وبين أحد الموجودين في القنصلية. ونتيجةً لذلك الإهمال الذي أدّى إلى موت الصحفي جمال، فقد اتّخذت القيادة الملكية على إثر ذلك قراراتِ عزل وتسريح لعدد من موظفيها في السلكين العسكريّ والأمني؛ بسببِ ذلك الإهمال والتصرف الفردي من قِبَلِ الطاقم الأمني المرسل من السعوديّة إلى إسطنبول للاضطلاع بهذه المهمة القذرة. وكان أبرز كباش الفداء لهذه الجريمة النكراء هو اللواء السعوديّ الأسود/ أحمد العسيري الذي انتهى “كارته” ودوره السيء ولو مؤقتاً.
كما أعلن النائبُ العام كذلك التحقيق مع 18 شخصاً متهمين بالضلوع والاشتراك في جريمة القتل هذه. إلى هنا وبهذا الاقتضاب الشديد زفرت السلطاتُ السعوديّة بهذا الخبر غير السار لها، علماً بأن السعوديّة قد غيّرت رواياتِها تجاه جريمة الاغتيال مراتٍ عديدة.
بطبيعة الحال تباينت ردودُ الأفعال الإعلامية والسياسية والحقوقية الدولية حول الخبر الصادم، وهو أمرٌ طبيعيٌّ أن يصدر مثل هذا التباين؛ لأَنَّ شخصَ من تعرض للقتل العمد هو شخصية إعلامية عالمية مشهورة وله حضوره المميز وآراؤه الناقدة لسياسات الأمير محمد بن سلمان تحديداً، وطبيعيٌّ أن تستمرَّ ردودُ الأفعال حول أصداء الحدث برمته لأشهر قادمة وربما لسنوات؛ لأَنَّ من نفّذ مهمة القتل وبهذا الجرم المشهود والموثّق هو نظام سياسي ملكي (قروسطي) له سوابقُ شائنة مشابهة له، وربما أقبح.
مهما حاول النظامُ السعوديّ إبعاد المتهم الأول في ذلك الحدث الشنيع، فلن يفلحَ؛ لأَنَّ معظم الشواهد والقرائن الجنائية المُعلنة حتى الآن تَــدُلُّ على أن ولي العهد السعوديّ محمد بن سلمان وفريقَه الأمني والشُّللي هم مَن اقترف تلك الجريمة الوحشية.
بقيت تساؤلاتٌ غامضة عن مكان تواجد جثمان القتيل لا يزال البحثُ عن إجابات عنها مُلحاً، ولا تزالُ الأجهزة الأمنية التركية تواصلُ البحثَ عن خيوط الجريمة، ومُعظم أصابع الاتّهام من قبل السياسيين والإعلاميين والحقوقيين في الدول الغربية وفِي العالم أجمع توجه بوصلة اتّهامها إلى أن من أصدر الأوامر وخطط لها بغباء مفضوح هو الأمير محمد بن سلمان وفريقه الأمني الخاص.
هذا الأمير الشاب المتهور غير الناضج سياسياً والطامح لعرش المملكة العربية السعوديّة سبق له أن ارتكب العديدَ من الأفعال القاتلة في داخل المملكة وخارجها، وكان أبرزها:
أولاً: سبق له أن ارتكب جرائم مروّعة في اليمن، من خلال إطلاق العنان لطائراته وبوارجه ومدافعه ومرتزِقته وعملائه منذ تأريخ الـ 26 مارس 2015م وحتى هذه اللحظة، قتل وجرح فيها مئات الآلاف من اليمنيين، ومارس عليها حصاراً جوياً وبحرياً وبرياً جائراً، وجوّع غالبية الشعب اليمني بحصار شامل قاتل تضرر منه جميع اليمنيين. وحتى حينما عقدوا تجمعهم الاقتصادي الأخير بالرياض تحت مسمى (دافوس الصحراء) لم يكلفوا أنفسهم بقول كلمة واحدة تجاه ما يعانيه الشعب اليمني من مرض وجوع وموت متواصل؛ بسببِ عدوانهم المتواصل وسياساتهم المتوحشة ضد الشعب اليمني؛ مع العلم بأنهم قد تابعوا باهتمام بالغ كلمة السيد مارك لوكوك مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنْسَانية، حيث كتب مذكرة بتأريخ 18 أكتوبر الحالي (إن الوضع الإنْسَاني في اليمن هو الأسوأ في العالم لـ 75% من السكان، ما يعادل 22 مليون شخص بحاجة إلى مساعدة وحماية، بينهم 8، 4 مليون في حالة انعدام الأمن الغذائي وبحاجة إلى توفير الغذاء لهم بصورة عاجلة)، أي أنَّ 14 مليون إنْسَان دخلوا عملياً مرحلة المجاعة.
أيعقلُ أن يحدُثَ ذلك الجُرم الجماعي في القرن الـ 21، بأن يعيشَ اليمانيون أسوأَ حالة إنْسَانية في العالم؛ بسببِ حكام السعوديّة الذين أشعلوا نار الفتنة وفتيل العدوان على جيرانهم؟
ثانياً: قام الأميرُ الشابُّ في شهر مارس 2018م برحلة مكوكية إلى أبرز عواصم دول الغرب الاستعماري، لندن، باريس، مدريد، واشنطن، في رحلة علاقات عامة وزع فيها صوره وحاشيته على الحافلات العامة وأمام مقاهي أهمّ شوارع تلك العواصم، وعقد صفقات هائلة لشراء الأسلحة من هذه العواصم، وأظهر ذاته في صورة الأمير المستنير المخلص للنظام القروسطي الصحراوي من قيوده التقليدية إلى رحاب الإصلاحات العميقة في المجتمع (السعوديّ)، وأنه هو من سيسمح للمرأة بقيادة السيارة وفتح صالات السينما لآخر أفلام هوليود بالعرض في كلٍّ من الرياض وجدة والطائف والدمام وغيرها من المدن والحواضر في أرض المملكة. كُـلّ هذه الشعارات لم تُخْفِ حقيقة أن الأمير قد أصدر التوجيهات بفتح غياهب السجون للناشطات والناشطين وأصحاب الرأي المخالف، أبرزهن السيدة/ لجين الهذلول، والسيدة/ إيْمَان النفجان، والسيدة/ عزيزة اليوسف، والإخوة/ إبراهيم عبدالرحمن المديميغ، محمد بن فهد الربيعة، عبدالعزيز المشعل، وغيرهم؛ ومارس عليهم شتى أنواع التنكيل بمختلف صنوفه وأشكاله.
ثالثاً: عُرفت المملكة أَوْ رُوِّج لها طويلاً بأنها حامية حِمى الأراضي المقدسة والحرمين الشريفين وراعية أمينة لحقوق (المسلمين السنة) في عالمنا الإسلامي. لكنها وفِي عهد ابن سلمان شهدت حدوث العكس تماماً، فإنها اقتادت كوكبة من العلماء والمجتهدين والدعاة ومنهم من وقف طويلاً في صف الدولة الملكية السعوديّة لعقود من الزمان وآخرين من سدَنة البيت الحرام بمكة المكرمة، وزجّ بهم في سجون المملكة بطريقة بربرية. وأبرز المعتقلين هم الشيخ/ سلمان العودة، الشيخ/ عوض القرني، الشيخ/ علي العمري، الشيخ/ محمد موسى الشريف، الشيخ/ عمر بادحدح، الشيخ/ أحمد بن عبدالرحمن الصويان، الشيخ/ الإمام إدريس أبكر. وتشير قوائم المعتقلين للعلماء إلى أنها بلغت المئات منهم. وتم منع العديد منهم من السفر وأبرزهم الشيخ/ محمد العريفي، الشيخ/ عائض القرني، وآخرون. أما العلماء المعارضون لأسرة آل سعود فقد تم إعدامهم خارج نطاق القانون أبرزهم العلامة الشيخ/ باقر النمر وهو داعية من الطائفة الشيعية والشيخ/ فارس الشويل.
رابعاً: رفع الأمير الشاب شعارَ مكافحة الفساد في أجهزة الدولة السعوديّة، ووفقاً لهذا التوجه حول منتجع الريتز كارلتون إلى سجن كبير، زج فيه أبناء عمومته من الأمراء والوزراء ورجال المال المليارديرات، بعدد تجاوز 208 أثرياء من العيار الثقيل أبرزهم الملياردير الأمير/ الوليد بن طلال بن عبدالعزيز مالك شركة المملكة القابضة، والأمير/ متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز وزير الحرس الوطني، والأمير/ تركي بن عبدالله أمير منطقة مكة السابق، الشيخ/ خالد التويجري رئيس الديوان الملكي السابق، الشيخ/ عادل فَقِيه وزير الاقتصاد والتخطيط، الفريق/ عبدالله السلطان قائد القوات البحرية، والملياردير الشيخ/ محمد بن حسين العمودي الحضرمي اليمني، والشيخ الملياردير/ بُكر بن محمد عوض بن لادن السعوديّ اليمني الحضرمي رئيس مجموعة بن لادن، والشيخ/ وليد آل إبراهيم مالك شبكة إم بي سي، والشيخ/ صالح كامل رجل الأعمال، والأخ/ إبراهيم العساف وزير المالية الأسبق.
خامساً: ولإثبات حزم الأمير الشاب المتطلع لعرش الملك قام هو والشيخ محمد بن زايد ولي عهد مشيخة الإمارات العربية المتحدة تحديداً بفرض عقوبات جائرة على دولة قطر وقام بحصارها إلى درجة مخيفة لم يشهد مثلَها تأريخُ العلاقات بين الدول من حصار جوي وبري وبحري، ومقاطعة شاملة، والفصل التعسفي للعائلات والأسر ولم تسلم من هذه الإجراءات حتى المواشي كالجمال والأبقار والأغنام. وما حدث لهو شيء عجيب وغريب في تأريخ الصلات بين الدول، حتى العدوّ الإسرائيلي لم يفعل مثل ما أقدمت عليه السعوديّة والإمارات ضد دولة قطر.
سادساً: المملكة السعوديّة أماطت اللثامَ عن وجهها الحقيقي في السنوات الأخيرة، وجاهرت بالعداء ضد الشعوب العربية والإسلامية وعددٍ من الدول العربية والإسلامية بالمنطقة منها اليمن، والعراق، وسوريا، وليبيا، ولبنان، وإيران، بل إنها مهدت لفكرة التقارب والتطبيع مع العدوّ الإسرائيلي واستبداله من عدو إلى صديق، وهي المقدمة لتصفية القضية الفلسطينية من خلال صفقة القرن سيئة الصيت والسمعة باتّفاق كلي مع الإدَارَة الأمريكية الحالية برئاسة دونالد ترامب ومستشاره الصهيوني كوشنير.
سابعاً: كان الاعترافُ السعوديّ الصريح بقتل الصحفي جمال خاشُقجي في قنصليتها في إسطنبول بمثابة الزلزال الذي هز ثقة العالم أجمع بمصداقية قيادة المملكة العربية السعوديّة الحالية. وإنْ صحت التسريبات والروايات الإعلامية بأنه قُتِل بتلك الطريقة الوحشية، فستكون القشة التي ستُبرك وتُركع الجمل بما حمل وستطيح بأحلام الأمير الجامح للحكم وتجعله عبرة للآخرين مِمَّن يستهترون بأرواح ودماء الملايين من الشهداء العرب الذين ذهبوا ضحية طيش الحكام غير المحترمين من أمراء النفط وساستهِ الذين لا يقيمون للإنْسَان وزناً ولا قيمة.
هنا يتساءل الرأي العام اليمني والعربي والإقليمي وبعض الأصوات الحرة في العالم، متى سيفوق النظام السعوديّ بقيادة الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده محمد بن سلمان تجاه الجرائم المُرعبة التي تحدث يومياً في اليمن؟
وهل سنحتاج إلى أَعْوَام أُخْـرَى كي يستوعبوا أن جرائمهم باليمن تفوق جريمة قتل الصحفي الخاشُقجي بآلاف المرات، ومهما تستروا خلف ذرائع وهمية ليشنوا عدوانهم المتواصل على اليمن منذ مارس 2015م وحتى لحظة كتابة هذا المقال فلن يفلحوا البتة؛ لأَنَّ اعتمادَهم على سببية الحرب كان ورقة مكتوبة كتبها لهم الرئيس عبدربه منصور هادي المنتهية ولايته، وهذه حجة باطلة لا تبرر قتل الآلاف وجرح عشرات الآلاف وتجويع الملايين من اليمنيين. إنها جريمة العصر التي تمارسها السعوديّة ضد شعب جار وحرٍّ أبي، لا يبحث في ركام الحرب العدوانية سوى عن حياة حرةٍ كريمة. وبالتالي فإنَّ الملك ونائبه الأمير الشاب الطامح للملك هما وحدهما من سيدفع الثمن غالياً جراء تلك المجازر والمآسي التي تعرض ويتعرض لها الشعب اليمني.
ندركُ حقيقةَ طبيعة التوازنات الدولية بمصالحها المتشابكة المعقدة والتي تحيط بالحرب العدوانية على اليمن، لكننا ندرك في ذات الوقت حقيقة موضوعية تأريخية أهمّ، وهي أن اليمن لا يُهزم هكذا بالسلاح والتوغل في قتل شعبه، وأكرر المقولة الشهيرة بأن اليمن هي مقبرة الغزاة.
لو كان الأمير الجامح لحكم السعوديّة وقبل أن يقرر غزو اليمن، قد قرأ شيئاً من التأريخ اليمني وفهم المعادلة، لكان قد غيَّر استراتيجية الغزو باستراتيجية أُخْـرَى هي الاقتراب من الشعب الجار المسالم الذي لم يؤذِ أي جار في جميع مراحل تأريخه؛ وبدلاً عن زرع بذور العداء لقام ربما ببذر يقَوِّي الإخاء والعمل المشترك. ولا يزال هناك بقية من زمان ووقت لتغيير فكرة الهيمنة بقوة الصاروخ والدبابة المستوردة من الدول الغربية إلى بناء جسور الثقة والمحبة بين الشعبين الشقيقين الجارين!!!
أظنُّ أن بقيةً من عقلٍ لراسمي السياسات التكتيكية والاستراتيجية في المملكة لا تزال باقيةً. هذه الفرضية يعززها لدينا حجم الضغوط والابتزاز الإعلامي والدبلوماسي والسياسي الغربي لقيادة السعوديّة في حادثة مقتل الصحفي جمال الخاشُقجي. ولو كان وضعها وعلاقاتها العربية والإقليمية طبيعية لما حدث كُـلّ ذلك الضجيج والعويل والابتزاز؛ لأَنَّ سياسات المملكة في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز وابنه ولي العهد محمد بن سلمان قد تجاوزت حدود العقل والمنطق في عدائها الجائر لجيرانها، ولهذا فإن أية مراجعة عاجلة قد تضمن بقاء الملك في محله. أما المزيد من المغامرات والاستماع إلى الآراء النزقة والمتطرفة فمآلها إلى الفشل.
بقيت رسالةٌ عاجلةٌ موجهة للعالم أجمع، فلو أن مراكز النفوذ في العالم الغربي وقفت في وجه طغيان الأمير محمد بن سلمان حينما بدأ بقصف تجمعات الأعراس وصالات العَزاء ومدارس الأطفال والمستشفيات والأسواق الشعبية في اليمن، لما تجرأ على قتل الإعلامي جمال خاشُقجي.
لا توجد وصفات علاجية سحرية في السياسة مُطلقاً؛ بل توجد سياسات فن الممكن والمتاح، وبدلاً عن الجري خلف سراب التطبيع الكاذب وما سُمِّيَ بصفقة القرن، يتم التحول إلى الشقيق الجار بسياسات واقعية متوازنة، والله أعلم منا جميعاً.
وفوقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم
* رئيس مجلس الوزراء