ثَلاثُ ضَرباتٍ تطبيعيّةٍ على رأسِ الكرامةِ العربيّة .. بقلم/ عبدُالباري عطوان
ثَلاثُ ضَرباتٍ تطبيعيّةٍ مُوجِعة على رأسِ ما تبقّى مِن الكرامةِ العربيّة وقَعت في الأيّامِ الثلاثةِ الماضِية، الأُولى تمثّلت بمُشارَكة وَفدٍ إسرائيليٍّ في دَورَةِ رياضة بدولة قطر، والثانية ذِهاب وفد رياضي آخَر إلى إمارة أبوظبي بترأس وزيرة الثقافة الإسرائيليّة ميري ريغيف الأكثر عُنصريّةً واحتِقارًا للعرب، أمّا الضَّربة الأكبَر، والأكثَر إيلامًا، فتمثّلت في زيارةٍ رسميّةٍ لبنيامين نِتنياهو، رئيس وزراء دولة الاحتلال، إلى سَلطنة عُمان حَظِي خِلالها، والوَفد المُرافِق له، باستقبالٍ حافِلٍ، ولِقاءٍ مع السُّلطان قابوس.
إنّها هجمةٌ تطبيعيّةٌ مُنسَّقةٌ، بضُغوطٍ أمريكيّةٍ، ليس لها علاقةً مُطلقًا بالسَّلام الفِلسطينيّ الإسرائيليّ، وإنّما السَّلام “المجّاني” بين إسرائيل والحُكومات العربيّة، تمهيدًا لفَرض ما تبقّى من بُنود لصفقة القرن التي تَعنِي حرفيًّا استغلال حالَة الانهيار الرسميّ العربيّ لتَصفِيَة القضيّة الفلسطينيّة، وإنهاء الصِّراع العربيّ الإسرائيليّ، والاعتراف بإسرائيل كدولةٍ شرق أوسَطيّةٍ “شقيقة”.
إنّها حلقة ربّما تكون الأهم في مُخطَّطٍ مَدروسٍ يُفَسِّرُ الأسباب التي أدّت إلى تَدميرِ العراق، ثُمّ سورية، ثم ليبيا، وبعدها اليمن، وتَجويعِ مِصر، فبدون تدمير هَذهِ الدُّوَل مُسبَقًا، تحت ذرائِع مُتعدِّدة وكاذِبَة، لا يُمكِن أن يَمُر هذا المُخَطَّط، ومِن المُستَحيل أن نَرى تَبِعاتِه التطبيعيّة المُؤلِمةِ هَذهِ.
***
عِندما افتتحت كُل من قطر وسلطنة عُمان مكاتب تجاريّة في عاصِمتَيهما عام 1996، واستقبَلتا مسؤولين إسرائيليين مِثل إسحق رابين (عام 1994 في مسقط)، وشمعون بيريس (في مسقط والدوحة عام 1996)، قالتا أنّ هَذهِ الخُطوة تأتي في إطارِ تشجيع عمليّة السَّلام بين الفِلسطينيين والإسرائيليين، وتوفير الأجواء المُلائِمة للمُفاوضات، خاصَّةً أنّ منظّـمة التحرير الفِلسطينيّة وقّعت اتِّفاق أوسلو (سبتمبر عام 1993)، وتَلَتها الأُردن بتَوقيعِ مُعاهَدة وادي عربة.
مِن المُفارَقة أنّ سلطنة عُمان اتَّخَذت مَوقِفًا لافِتًا عِندما أغلقت المكتب التجاريّ الإسرائيليّ في أكتوبر (تشرين الأوّل) عام 2000، أي قبل 18 عامًا، وقال بيان وزارة الخارجيّة العُمانيّة في حينِها، (12 أكتوبر عام 2000) “أغلقنا المكتب التجاريّ الإسرائيليّ انطِلاقًا مِن حِرصِنا على دَعمِ القضيّة الفِلسطينيّة، واستمرارًا لنَهْجِنا الدَّاعِم للحُقوق الثابتة والمَشروعة للشعب الفِلسطينيّ، وأضاف بيان الخارجية العُمانيّة “أنّ السلام العادِل والشَّامِل سيَظَل مَوضِع اهتمام السَّلطنة، ولكن بالمَعايير التي تَنصُر المَظلوم، وتَصون المُقدَّسات، وتُعيد الحُقوق إلى أصحابِها”، والسُّؤال هو عَمّا تَغَيّر الآن؟
سَلطنة عُمان ودولة قطر اتَّخذا خُطوة إغلاق المَكتبين التِّجاريين الإسرائيليين احتجاجًا على الاجتياح الإسرائيليّ لمناطِق السلطة الفِلسطينيّة وإقدام قُوّات الأمن الإسرائيليّة على سَفكِ دِماء الفِلسطينيين بطَريقةٍ وحشيّةٍ، وتأتِي موجة التَّطبيع الرسميّة الخليجيّة في وَقتٍ تُمارِس فيه القُوّات الإسرائيليّة أساليب القَتل نفسها، والأكثَر إجرامًا، ففي يوم وصول نِتنياهو وزوجته ورئيس الموساد إلى مَسقط قتلت ستّة فِلسطينيين عُزّل في قِطاع غزّة، وهُناك مِليونا عربيّ ومُسلم على حافّة المَوت جُوعًا ومَرَضًا فيه حاليًّا.
لا تُوجَد مُبادَرة سلام حتى تعمل الدُّوَل الثَّلاث: سلطنة عُمان وقطر والإمارات، على دَعمِها مِن خِلال استقبال وُفودٍ إسرائيليّةٍ، ولم يتم احترام المَعايير التي قالت حُكومات هَذهِ الدول أنّها تُصِر عليها مِن حَيثُ نُصرَة المَظلوم، وصَون المُقدَّسات، وعَودَة الحُقوق إلى أصحابِها، فإسرائيل هَوّدت القُدس، والرئيس دونالد ترامب اعترَفَ بِها عاصِمَةً أبديّةً لليهود في أنحاءِ العالم، وجيسون غرينبلات، الذي سيصل إلى الأرضِ المُحتلَّة بعد أُسبوعٍ لإعلانِ “صفقة القرن” وبُنودِها سيَحمِل معه نعش القَضيّة الفِلسطينيّة وسيَحفُر قَبر لدَفنِها في رام الله مِن خلال تشريع الاستيطان وتكريس السَّلام الاقتصاديّ (رَشاوى ماليّة)، وشَطبِ حَق العَودَةِ نِهائيًّا.
السيد يوسف بن علوي، وزير الخارجيّة العُماني، قال، أمس صَراحةً أنّ زِيارَة نِتنياهو التي سبَقَتها زيارة للرئيس محمود عباس لمَسقط، جاءت في الإطار الثُّنائي، وبِطلبٍ مِنهُما، وأضاف “لسنا وُسَطاء.. والدور الأمريكي هو الرئيسي، وإسرائيل دولة في مِنطَقة الشرق الأوسط”، هذا الكلام يُوحِي بِما هو أكثَر من زِيارةٍ عابِرةٍ، ولا نَستبعِد أن يَعودَ نِتنياهو لافتتاحِ سَفارةٍ لإسرائيل في مسقط في الأيّام القليلةِ المُقبِلة، ومِن غير المُستَبعد افتتاح سفاراتٍ أُخرَى في الدوحة وأبو ظبي والمنامة، وربّما الرياض أيضًا، فالحَديث عن “عَلاقاتٍ ثُنائِيّة” طَبيعيّة.
مَلايين العَرب أحَبّوا سلطنة عُمان ونَحنُ مِن بَينِهم؛ لأَنَّها نأت بنَفسِها عَن الكَثيرِ مِن الحُروب والمُخطَّطات التدميريّة للمِنطَقة، خاصَّةً حربيّ اليمن وسورية، وقَبلُهما العِراق، وحَرَصَت على إقامَةِ علاقاتٍ مُتوازِنةٍ مع إيران، ولم تَنجَرِف إلى مشاريع الابتزاز والمُواجَهة الأمريكيّة ضِد طِهران، ويَصعُب علينا أن نفهم الأسباب التي دَفعَت قِيادَتها للتضحية بهذا الرَّصيد الضَّخم مِن المَحبّة والاحترام باستقبالِ مُجرِم حَرب مِثل بنيامين نِتنياهو، وفي هذا التَّوقيت الذي تَقِف فيه القضيّة الفِلسطينيّة أمام مِقصَلة التَّصفية، وشَعبها يُواجِه الحِصار وأعمال القَتل البَشِعَة؟
تَوقّعنا أن يذهب نِتنياهو إلى الرياض في زيارَتِه الأُولى لعاصِمةٍ عربيّة، خاصَّةً بحُكم التَّقارُب السريّ معها، ولهذا جاءَت صَدمَتنا كبيرةً، وإن كُنّا نَعتقِد أنّ هَذهِ الزِّيارة مُجرَّد مُقدِّمة لزياراتٍ أُخرَى علنيّة، وفتح سفارات، تَبادُل مصالح، وتنسيق أمنيّ شامِل، رُبّما ضِد الفِلسطينيين وكُل مَن يَقِف في خندق المُقاومة، ويتَبنَّى ثَقافَتها، وكُل ما يتفرّع عنها مِن قِيَم العدالة والكرامة، فمَسيرة التطبيع تَبدأ بالأطراف، ثُمّ تَزحَف إلى المَراكِز الأساسيّة، وهذا ما يُفَسِّر التَّركيز مع موريتانيا المَغرب سابِقًا.
***
لا نَتردَّد لَحظَةً في إدانَة ورفض كُل أشكالِ التَّطبيع هَذهِ، ونَلوم السلطة الفِلسطينيّة التي كانت أوُل المُطَبِّعين وفاتِحَةً الباب على مِصراعيه أمام المُطبِّعين قبل أن نلومهم، وليَكُن واضِحًا أنّ هَذهِ السلطة لا تُمَثِّل الشعب الفِلسطينيّ، ولا تَحظَى مَواقِفها في التَّنسيقِ مع الاحتلال والاعتراف بأيِّ دَعمٍ، ومُبادَرةٍ شَعبيّةٍ، والشعب الفِلسطينيّ لن يَستَسلِم مُطْلَقًا، ولن يُفَرِّط في حُقوقِه حتى لو فَرّط بِها بَعضُ الأشِقّاء.
نأسَف أن يُهروِل الأشقّاء، أَوْ بعضهم، خاصَّةً في مِنطَقَة الخليج العربي، نَحو نِتنياهو وحُكومته الأكثَر فاشيّة وعُنصريّة في تأريخ المِنطَقة في وَقتٍ تُواجِه فيه رَفْضًا دَوليًّا بسبب جرائِم حربها، ونَجزِم بأنّ شعبها العربيّ، وفي دُوَل الخليج، لن يَقْبَل مُطلَقًا هذا التَّطبيع، وسيُقاوِمه، مِثلما قاومه الأشقّاء في مِصر، وحارَبه الأشقّاء في لبنان وسورية والعِراق والمغرب، والصومال، والسودان وليبيا، والجزائر واليمن الجريح، وكُل الدُّوَل العربيّة الأُخرَى، والقائِمةُ طَويلَةٌ.
سنَظَل في هَذهِ الصَّحيفة نَرفُض التَّطبيع مع كِيانٍ إسرائيليٍّ مُلطَّخة أيادي قادَته بدِماء الأبرِياء، يُحاوِل طمس الهُويّتين العَربيّة والإسْلَاميّة للمُقدّسات مِن خِلال أعمال التهويد، وسنَقِف دائِمًا في خَندق العدالة والشَّرف والكَرامة والسلام الحَقيقيّ الذي أقرّته كُل الشَّرائِع الإلهيّة.
لا نَستَطيعُ مَنع خَطواتِكم التَّطبيعيّة فهذا زَمانُكُم.. ولكنّنا نَستَطيع أن نُقاوِمها ولو بالكَلمة، وهذا أضعَفُ الإيمان، ولن نَسْتَسلِم مُطلَقًا؛ لأَنَّنا على ثِقَةٍ بأنّ عُمُر الباطِل قَصيرٌ، وقد يأتِي الخَير مِن باطِن الشَّر، وثِقَتنا في هَذهِ الأُمّة وعَقيدَتها راسِخَةٌ، مُتَجَذِّرةٌ في عُمُقِ هَذهِ الأرضِ الطَّاهِرة الطيّبَةِ المِعطاءَة.. والأيّام بَيْنَنَا.