حمدي قنديل: قلم الرصاص في ترسانة المقاومة
المسيرة: إبراهيم السراجي
عن عُمُرٍ ناهَزَ 82 عاماً أنهى مرضُ الفشل الكلوي، في وقت متأخر من ليل الأربعاء الماضي، حياةَ الإعلامي العربي المصري حمدي قنديل، الذي وُصِفَ بأنه آخرُ عمالِقَةِ الإعلام العروبي الوطني، فنعته كُـلّ الأقلام السياسية والإعلامية والصحفية، بما فيها الأقلام التي وُلدت لخدمة أعداء الأُمَّـة أو تلك التي تمكّنت الأنظمة من استمالتها، الكلُّ أشاد بسيرة قنديل ومواقفه وتمسُّكه بالمبادئ العربية والإسلامية، غير أن هذه الإشادات كانت بمثابة إدانَةٍ لكثير من أصحابها، فالذي جعل رحيلَ حمدي قنديل مؤلماً للشارع العربي من المغرب إلى المشرق هو مواقفه المتمسكة بمناهضة الهيمنة الأمريكية والوجود الصهيوني في المنطقة العربية، وبالتالي كانت بياناتُ ومقالات النعي والإشادة بقنديل لم تكن إلا إشادة بمواقفه التي تخلى عنها أولئك.
وُلِدَ قنديل سنة 1936م في بلدة تُدعى “كفر عليم” بمحافظة المنوفية ونشأ فيها قبل أن يلتحق بكلية الطب بالعاصمة المصرية القاهرة واستمر لثلاث سنوات، قبل أن يدرك مجدّداً أن دراسة الطب لم تكن إلا رغبة والديه بأن يطلق عليه لقب “دكتور” لكن نداءً بداخله جعله يغيّر اتّجاهه ليدرس الصحافة بجامعة القاهرة، ذلك النداء الذي كان يقول إن قنديل سيكون جبهة صمود في مواجهة أعداء الأُمَّـة وصوتاً لا يساوم ولا يتراجع، قد يسكت مرغماً حين تغلق السلطات أبواب الفضائيات والصحف في وجهه، لكنها لم تتمكّن من إرغامه على تغيير قناعاته، نجحت السلطات المصرية والعربية في استمالة مئات الأقلام والأصوات، وعجزت كلها أمام إرادة قنديل الذي أعلن نفسه “عدو أمريكا الأول”.
قنديل في مرحلة عاصفة مصرياً وعربياً!
في العشرينيات من عمره خاض قنديلُ غمارَ الصحافة، أي فترة الخمسينيات، وبالتالي كان عليه وعلى قلمه أن يوثق في تلك الفترة وما تلاها أكثر المراحل المصرية والعربية العاصفة فشهد لحظة التحول إلى النظام الجمهوري عام 52م وبعد ذلك تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر 56م مروراً بنكسة 67م وانتصار أكتوبر 73م ثم فترة تغلغُلِ الهيمنة الأمريكية على بلده مصر في عهد السادات ومبارك وكذلك على معظم البلدان العربية، قبل أن يبتسم في مرحلة متأخرة من عمره بانتصار المقاومة اللبنانية على العدو الصهيوني في حرب تموز 2006م.
بدأ قنديل الكتابةَ في مرحلة مبكرة من عمره ونُشرت له مقالاته الأولى في صحيفة محلية كان يُطلق عليها “الإخلاص”، لكن بدايته الصحفية المهنية بدأت مطلع الستينيات في صحيفة “أخبار اليوم” المصرية وقبلها عمل كمحرّر في مجلة “آخر ساعة”.
في بداياته تلك ظهرت ملامح قنديل الإعلامي والصحفي الذي يرى في مواجهة الهيمنة الأمريكية والاحتلال الصهيوني مبادئَ لا يمكن التنازلُ عنها ويرى في الأنظمة العربية الخاضعة أحدَ مآسي الأُمَّـة العربية والإسلامية، فوجّه قلمه دعماً لكل الحركات الوطنية المناهِضَة للهيمنة الأمريكية وسخطاً على كُـلّ رئيس وملك عربي تخلّى عن قضية الأُمَّـة المركزية وهي قضية فلسطين، مبادئ لم يكن من الصعب التنبؤُ بأن رحلته ستكونُ محفوفةً بالمخاطر.
رئيسُ التحرير والقلمُ الرصاص
لم تستمر رحلةُ قنديل في الحقل الصحفي طويلاً فقد وجد نفسَه في حقل الإعلام منتقِلاً من غُرَف التحرير إلى استوديوهات الفضائيات “الشاشة”، لكن المهنةَ الأولى ظلت مرتبطةً بوجدانه، وهو ما يظهر في أسماء البرامج التلفزيونية التي قدّمها بدءاً بأول برنامج له في التلفزيون المصري “أقوال الصحف” في ستينيات القرن الماضي، فكان أول برنامج تلفزيوني عربي يستعرضُ الأخبارَ والتقاريرَ التي تنشُرُها الصحفُ المصرية والعربية، لم يكن مُجَـرّد استعراض بل مصحوبٌ بتعليقاته اللاذعة على الأحداث التي تتناولها الصحفُ، واستمر كذلك حتى سنة 69م عندما قدّم استقالتَه؛ احتجاجاً على إجراء تعسفي من قِبَلِ السلطات المصرية بحق موظفين في التلفزيون المصري.
قدّم قنديل في مطلع السبعينيات برنامجَه الجديدَ “مع حمدي قنديل” على شاشة قناة “أي آر تي” المملوكة لجهات سعودية، سَرعانَ ما انتهى عقدُه معها؛ بسبب تناولاته لقضايا لم تعجب النظام السعودي قبل أن يعود مجدّداً للتلفزيون المصري مقدِّماً برنامجه الشهير “رئيس التحرير” قبل أن يضيقَ صدرُ السلطات المصرية مجدّداً بتناولاته اللاذعة ودعمه للمقاومة اللبنانية والفلسطينية وقامت بمنع برنامجه، وفي عام 2003 تعاقَدَ معه تلفزيون دبي وهناك قدّم برنامجَه الأكثرَ شهرةً على الإطلاق وهو “قلم رصاص”، واستمر حتى العام 2009م مسجلاً أعلى نِسَبِ مشاهدة على المستوى العربي، لكن النهاية كانت متوقعةً، فهذه المرة ضاق صدرُ النظام الإماراتي ومعه النظامان السعودي والمصري بتناولاته فتم إبلاغُه بإنهاء تعاقده.
الإرهابي حين تكونُ المقاوَمةُ إرهاباً
خلالَ سيرته الصحفية والإعلامية، التي استمرت قُرابة 60 عاماً، أطلق حمدي قنديل الكثيرَ من الصرخات التي ما يزال صداها يتردّد إلى اليوم بعبارات كانت من أهمّ الأسباب التي دفعت الأنظمةَ العربية لمنعه من الظهور الإعلامي في قنواتها حتى أطلق عليه لقب “الإعلامي الممنوع من العرض”؛ لكثرة القرارات التي اتُّخذت بمنع بث برامجه التلفزيونية.
من بين تلك المواقف التي أطلقها قنديل كانت خلال برنامجه “قلم رصاص” على شاشة تلفزيون دبي عندما استعرض خبراً يُفيدُ بفشل محاولة إسرائيلية لاغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عن طريق السم، في وقت كان قد أُطلق سراح سمير جعجع أحد أبرز عملاء إسرائيل خلال اجتياح الأخيرة لبلاده لبنان، حين أبدى قنديل أسفَه لهذه المفارقة.
علّق قنديل على ذلك الخبر بديباجة تلفزيونية خالدة قال فيها “أظن مافيش حاجة تحبط أد المقارنة المؤسفة، بين مناضل ضد إسرائيل حسن نصرالله، نلاقيه كامن في مخبئه، طالعة أخبار إن إسرائيل حاولت تغتاله بالسم على طريقة ياسر عرفات، الناس مش قادرة تطمن عليه. المناضل ضد إسرائيل في مخبأ والقاتل بحكم محكمة سمير جعجع كُـلّ يوم على شاشات التلفزيون بيضرب تصريحات بمعدل تصريح كُـلّ ساعة، بيستقبل في قصور الرئاسة العربية. آه يا أمة جاحدة، يا أمة ناكرة، يا أمة ذليلة، يا أمة مهانة، يا أمة تلفانة، يا أمة عدمانة، يا أمة أونطة، يا أمة كُـلّ اللي شاغلك مسلسل هشام وسوزان، بعد مسلسل تامر وشوقية، يا أمة كانت أمة محمد بقينا أمة مهند”.
مرةً أخرى في البرنامج ذاته يُطلِقُ حمدي قنديل موقفاً خالداً كان سبباً في منع برنامجه في القناة الإماراتية عندما علّق على موجة تصنيف حزب الله في قوائم الإرهاب والتي انخرطت فيها بعضُ النُّظُم الخليجية والعربية، فقال قنديل حينها: “النهار ده باعلنها بأعلى صوت: لو كانت المقاومة إرهاباً، لو كان حزب الله إرهابياً، لو كان حسن نصر الله إرهابياً، فاعتبروني أني من النهار ده إرهابي. واحد من مئات الملايين في العالم بحرّض على الإرهاب، واحد من مئات الملايين الملايين بشارك وحشارك في الإرهاب، واحد من مئات الملايين الملايين أمريكا بالنسبة لي لا حليف ولا وسيط ولا شريك”.
بهذه المواقف سيظلُّ قنديل حيّاً وسيظلُّ قلمُه رصاصاً مُصَوَّباً في صدر أعداء الأُمَّـة وفي وجه أنظمة الخنوع، مواقف أجبرت كُـلّ المطبّعين والمنبطحين من الصحفيين والإعلاميين المصريين والعرب، على الإشادة به وبصدق صوته وقلمه وهم يعرفون أنهم لن يتركوا بعد رحيلهم ما يُذكَرُ به، فيما يذكرون هم قنديل ويذكُرُه كُـلّ أحرار الأرض.