ورقة مقدمة إلى ندوة: الوجه الآخر للعدوان الموقـف من مـبادرات السلام.. رؤيةٌ مغايرة
عـبدالله عـلي صـبري*
* رئيس اتّحاد الإعلاميين اليمنيين
عـضو اللجنة الاستشارية الإعلامية للمجلس السياسيّ الأعلى
عـضو مؤتمر الحوار الوطني
- مقدمة:
على وَقْـعِ الكارثة الإنْسَانية وتداعياتها وما يصاحبها من فشل للحرب العسكريّة، تزايدت في الآونة الأخيرة الدعوةُ إلى السلام في اليمن. وفي المقابل تعالت الأصواتُ المحذِّرةُ من التعاطي مع السلام الزائف والمخادع، الذي يندرج في إطار مُخَطّط “رياح السلام” المتصل بالرياح الباردة والحرب التضليلية الناعمة، التي يتفنن في نسج خيوطها العدوانُ السعوديّ الأمريكي وأدواته العلنية والمستترة.
بيد أن ثمة خلطاً لدى الكثيرين بين السلام كعنوان مخادِع، وبين السلام الحقيقي كمطلب لا غبار عليه، وفيما ينخدع البعض ويركب موجة السلام كعنوان برّاق دون بصيرة بحقيقة المؤامرات على بلادنا، ينزلق البعض في المقابل إلى التخوف والتخوين لكل دعوة تنطوي على مطلبِ السلام العادل والحَلِّ السياسيّ الشامل، الأمر الذي ينعكسُ سلباً على موقف أنصار الله والقوى المناهضة للعدوان إزاء السلام.
وبعيداً عن الإفراط أَوْ التفريط، يتعيَّنُ أن نفهمَ حقيقةَ المستجدات الدولية الأخيرة، بحيث نبني على ضوئها موقفاً متوازناً تجاهَ الدعوات المطالبة بإيقاف الحرب والعدوان، واستئناف المفاوضات السياسيّة بين الأطراف اليمنية، مع الحذر من أي خداع تنطوي عليه المشاورات والمفاوضات التي يعملُ المبعوث الأممي إلى اليمن على استئنافها خلال نوفمبر الجاري.
- لماذا مغايرة؟:
تحاولُ الورقةُ هُنا تقديمُ رؤيةٍ مغايرةٍ على اعتبار أن الكاتبَ ممن يرون أن ثمة فرصةً تلوح في الأفق باتجاه إيقاف الحرب والعدوان على اليمن، وأن الدعوات الغربية والأممية الأخيرة التي تتخذ منحىً تصاعدياً، تكتسب درجةً مقبولةً من المصداقية؛ على اعتبار أن الخروجَ من مأزق اليمن بات مصلحة مشتركة للطرفين السعوديّ والأمريكي، خَاصَّـة أن تداعياتِ أزمة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي ما زالت تعتملُ وتنذِرُ بجملة من المتغيرات على مستوى الوضع السياسيّ داخل السعوديّة، وعلى مستوى العلاقة بين الرياض وواشنطن، ثم على مستوى الحرب والعدوان على اليمن.
ومن جهة أُخْـرَى وبمعزل عن هذه المستجدات التي قد نتفقُ أَوْ نختلفُ حول تقييمها، فقد ظهرت خلال الفترة الماضية دعوات ومقترحات للسلام وللحل السياسيّ من شخصيات اعتبارية ومعتبرة، لم تحظَ بحقها من النقاش، ويسلط الكاتب الضوء عليها تأكيداً على أن أصحابها لا يمكن التعاطي مع مقترحاتهم من خلال مشروع “رياح السلام” أَوْ “الحرب الناعمة”.
الورقةُ أيضاً تضعُ خطوطاً عريضةً لمقترحٍ أشملَ، باتّجاه التعاطي الإيجابي مع الحَـلّ السياسيّ بغض النظر أنجحت محاولة المبعوث الأممي مارتن غريفيث أم وصلت إلى طريقٍ مسدود. ثم إن الكاتبَ يحاولُ هنا تقديمَ تصور مختلف لمفهوم “الطرف الثالث”، وآلية مغايرة للتعامل مع الأشخاص والجهات التي لم تبارح المنطقة الرمادية في تعاطيها مع العدوان والمستجدات.
- نماذج عن مبادرات ومقترحات (معتبرة) للسلام والحَـلّ السياسيّ:
خلالَ الفترة الماضية صدرت مناشدات ومبادرات تطالب بوقف الحرب وإحلال السلام في اليمن، وتدعو إلى حَـلٍّ سياسيّ ومصالحة شاملة، غير أن تركيزَ الإعلام الوطني على التصدي للحرب الناعمة ولرياح السلام لم يمنح هذه الدعوات حقها من الاهتمام والنقاش، نذكر منها على سبيل المثال:
- مبادَرةُ شخصيات عربية:
وجّهت مجموعةٌ من الشخصيات العربية السياسيّة والفكرية والأكاديمية نداءً إلى أبناء اليمن، دعت فيه الأطرافَ السياسيّة المختلفة إلى وقف الحرب فيما بينها وعقد هُدنة أولية لثلاثة أشهر، يتبعها حوارٌ شاملٌ برعاية دولية لوضع حَـدٍّ للحرب الدائرة منذ سنوات في البلاد.
وجاء في متن المبادرة: نُهيبُ بكُلِّ أطراف المعادلة الوطنية اليمنية أن يتخذوا قراراً، صار حتمياً وضرورياً ولا يجوز أن يتأخر، قرارُ الوقف الفوري لكافة العمليات العسكريّة، هُدنة لمدة ثلاثة أشهر، خصوصاً وأننا مقبلون على الأشهر الحُرُم، يتم خلالها الاستجابة إلى الجهود الدولية والإقليمية والعربية والقوى الوطنية اليمنية، التي تسعى إلى إنهاء النزاع وإيجاد صيغة للتوافق الوطني عبر الحوار، وبناء نظام سياسيّ به متسع للجميع، يقوم على إعَادَة تفعيل المؤسسات الوطنية الديمقراطية من رئاسة وحكومة وبرلمان وأحزاب وطنية، مما يؤمِّنُ للشعب اليمني الغالي حريتَه وكرامتَه وأمنَه، ويضمَنُ وحدةَ البلاد أرضاً وشعباً، والبدء بإعَادَة بناء ما خرّبته تلك الحربُ المدمّـرة المستمرة منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات.
وكان على رأس الموقِّعين للمبادرة الصادقُ المهدي رئيس المنتدى العالمي للوسطية، رئيس وزراء السودان السابق، وعمار الحكيم رئيس تيار الحكمة الوطني العراقي، وعباس زكي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح الفلسطينية.
- تقريرُ مجموعة الأزمات الدولية عن اليمن في سبتمبر 2018م:
دعا التقريرُ المجتمعَ الدولي للعمل على ضمان استمرار تدفق السلع التجارية والمعونات الإنْسَانية دون عوائقَ إلى جميع الموانئ البحرية والجوية بما في ذلك ميناء الحديدة ومطار صنعاء. ومن أجل الدفع بالتسوية السياسيّة طالبت المجموعة الاتّحاد الأوروبي تحديداً بالعمل مع البنك المركزي اليمني من أجل تثبيت قيمة الريال، وصرف مرتبات موظفي الخدمة المدنية في جميع أنحاء البلاد. وأشار القرير إلى ضرورة إعَادَة النظر في قرار مجلس الأمن 2216 “الذي عفا عليه الزمن ويضع مطالب غير واقعية على الحوثيين”، حسب تعبير التقرير نفسه. وقال: إن حكومة هادي ترى في القرار شرطاً لاستسلام الحوثيين. ودعا الدولَ الأعضاءَ في مجلس اليمن للعمل على إصدار قرار جديد يدعم الحلول السلمية والسياسيّة.
وقال التقرير: إن الدبلوماسيين يتفقّون إلى حَـدٍّ كبيرٍ على أنه لا يمكنُ إنهاءَ الحرب من خلال المفاوضات ما لم يوافق ولي العهد السعوديّ محمد بن سلمان على شروط اتّفاق السلام النهائي. ولكي تنجحَ عمليةُ سلام كاملة يجبُ توسيعُ المحادثات عاجلاً وليس آجلاً، بحيثُ تشمَلُ الدولَ الخليجيةَ (السعوديّة والإمارات) إما عن طريق انضمامهم للمحادثات الرئيسية أَوْ عبر مسارٍ تفاوضي موازٍ.
التقريرُ أكّـد أَيْضاً أن التوصل إلى اتّفاق يحتاج إلى دعم الولايات المتحدة والدول المصدرة للسلاح مثل فرنسا وبريطانيا، ولفت إلى أنه ما لم تترجم كلمات دعم الحَـلّ السياسيّ إلى أفعال، فإن التصعيدَ العسكريَّ سيستمرُّ، وتستمرُّ معه المعاناةُ الإنْسَانيةُ الناجمةُ عن الحرب. ومن عجيب المفارقات حسب التقرير أن التحالف يعتقد أن الضغط العسكريّ على الحديدة ومينائها سيجبر الحوثيين على الانخراط في تسويةٍ أكبرَ، ويتجاهل أن استمرار التصعيد قد يفجر المحادثات بشكل كامل.
ج- مقترح السياسيّ والدبلوماسي اليمني عبدالله سلّام الحكيمي:
تناوَلَ الأستاذُ عبدالله الحكيمي في مقترح شامل بعنوان: الحَـلّ السياسيّ المنشود في اليمن، ما هو؟ وكيف؟ ونشرته عدة مواقع إليكترونية في منتصف أكتوبر المنصرم، تعقيدات الحَـلّ السياسيّ في ظل تصاعد واتساع الأعمال العسكريّة من قبل تحالف العدوان السعوديّ الإماراتي المدعوم أمريكيا. وأشار إلى أن عرقلة الوصول إلى حَـلٍّ سياسيّ في اليمن يعود في الأساس إلى تزاحم وتضارب الأجندات والمصالح الخَاصَّـة بالقوى الدولية الكبرى وكذا القوى الإقليمية. وقال الحكيمي: إن الحَـلّ السياسيّ المنشود في اليمن، لا يمكن أن يكونُ إلّا حلين وليس حلاً واحداً.
الحَـلّ الأول: وطني يمني تشارك فيه جميع الأطراف والقوى السياسيّة التي انخرطت في الحوارات الوطنية السابقة، إما برعاية أممية، أَوْ من خلال مبادرة وطنية عبر مجلس النواب أَوْ بدعوة من القوى والأحزاب الفاعلة (أنصار الله، حزب الإصلاح، المؤتمر الشعبي، الحراك الجنوبي).
الحَـلّ الثاني: التفاوض مع قوى العدوان الخارجي؛ على اعتبار أن التحالف بعدوانه وتدخله العسكريّ قد احتكر قرارَ الحرب والسلم في اليمن.
وعن تصوُّره لطبيعة ومضامين الحَـلّ السياسيّ الوطني، اقترح الحكيمي قيامَ سلطة حُكم وطنية انتقالية توافقية، تُعيدُ بناءَ وتوحيد الدولة الوطنية. واعتبر أن التوافقَ الوطني يعد مدخلاً وشرطاً لازماً لتحقيق السلام والحَـلّ السياسيّ الشامل.
د- المؤتمر البرلماني الدولي للسلام في اليمن:
من المزمع أن ينظّم منتدى باريس للسلام في 8 نوفمبر الجاري مؤتمراً برلمانياً دولياً للسلام في اليمن، وقد رحّب مجلسُ النواب برئاسة الأخ يحيى الراعي بهذا المؤتمر، وبعث إلى منتدى باريس برسالة تؤكّـدُ على دعم الحَـلّ السياسيّ وجهود المبعوث الأممي مارتن غريفيتث. وحسب منطوق الرسالة فقد انتقد رئيسُ مجلس النواب البطءَ الشديدَ وعدمَ التحَـرّك السريع والعاجل من قبل المجتمع الدولي باتجاه وقف الحرب في اليمن. وطالبت الرسالةُ من البرلمانيين القيامَ بدور حيوي، والعملَ على إنهاء الوضع المأساوي للشعب اليمني.
وحسب وكالة سبأ الرسمية فإن المؤتمرَ الذي سينعقدُ في الجمعية الوطنية الفرنسية بباريس سيكرس للسلام في اليمن، وسيبحث فيه النواب الوضع الإنْسَاني، والدور الذي يمكن للبرلمانيين أن يقوموا به من أجل الحَـلّ السلمي.
- مستجدات الموقف الغربي والأمريكي من الحرب والعدوان:
مع مطلع الشهر الجاري صدرت عن الإدارة الأمريكية مواقفُ متصلةٌ ببعضها تدعمُ إيقاف الحرب في اليمن، وسط ترحيب غربي ومواقفَ مماثلةٍ لفرنسا وبريطانيا وللاتّحاد الأوروبي، وأمين عام الأمم المتحدة والمبعوث الدولي لليمن، وغيرهم. وقد رحّـب الوفدُ الوطنيُّ وحكومةُ الإنقاذ بهذه الدعوات مع التحفُّظ على بعض مضامينها والخداع الذي ينطوي عليها.
ففي 30 أكتوبر 2018، دعا وزيرُ الخارجية الأمريكي مايكل بومبيو جميعَ الأطراف إلى دعم المبعوث الأممي في إيجاد حَـلٍّ سلمي للصراع في اليمن، استناداً إلى المراجع المتفق عليها. وقال في بيان صحفي: لقد حان الوقت الآن لوقف الأعمال العدائية، بما في ذلك الهَجَمات الصاروخية والطائرات بدون طيّار على المملكة العربية السعوديّة والإمارات العربية المتحدة. مضيفاً: في وقت لاحق يجب أن تتوقف الضربات الجوية للتحالف في جميع المناطق المأهولة بالسكان في اليمن.
قبل تصريحات وزير الخارجية، كان وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس قد تبنى أفكاراً جديدةً لإنهاء الحرب على اليمن، وطالب بإيجاد مناطق منزوعة السلاح على الحدود اليمنية السعوديّة، مع نزع الأسلحة الثقيلة اليمنية بما فيها الصواريخ الباليستية، في مقابل منح “الحوثيين” منطقة “حُكم ذاتي”.
واللافتُ ابتداءً أن الحديثَ عن مناطق حكم ذاتي يعد أسوأَ بكثير من فكرة الأقاليم التي يتمسّك بها طرفُ هادي والأحزاب اليمنية المؤيدة لتحالف العدوان، الأمرُ الذي جعل الحكومةَ اليمنية في صنعاء تؤكّـدُ في بيانها المؤيد لدعوة وقف الحرب على “أن أية أفكار ترتبط بمستقبل وشكل الدولة اليمنية المقبلة ينبغي أن يُترَكَ لليمنيين مناقشته بإرادتهم الكاملة وبعيداً عن أية وصاية أَوْ فرض من قبل الخارج”.
فيما أكّـد رئيسُ الوفد الوطني المفاوض محمد عبدالسلام أن الشعبَ اليمني وهو في موقع الدفاع عن النفس كان ولا يزالُ حاضراً للتفاعل الإيجابي مع أية جهود دولية وأممية تتسم بالجدية والمصداقية والحيادية. وكما حذّر من الخداع الأمريكي فقد طلب من واشنطن أن تبرهن على جديتها بخطوات ملموسة من خلال “رفع الغطاء السياسيّ عن هذه الحرب العبثية، والوقف الفوري لتقديم الدعم اللوجستي والمعلوماتي، والامتناع عن تزويد الطيران بالوقود والتحليق بطيران التجسس، وأن تسحب ضباطها من غرف عمليات العدوان وتوقف صفقات السلاح التي تسببت في قتل الأطفال والمدنيين. وعند ذلك سيكون للدعوات تأثيرها في وقف الحرب مما يفسح المجال أمام الأطراف المعنية لمعالجة سياسيّة شاملة”.
من جانبه عبّر الأمينُ العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن تفاؤله، وقال: “هناك بوادر أمل” في الجانب السياسيّ، ويجب علينا بذل كُـلّ ما في وسعنا لتعظيم فرص النجاح. وأكّـد أن لدى المجتمع الدولي فرصةً حقيقيةً لوقف دورة العنف التي لا معنى لها ومنع وقوع كارثة وشيكة في اليمن، قائلاً: “لقد حان وقت العمل”. ومن أجل الاستفادة من هذه الفرصة، طالب غوتيريش بتحقيق ثلاث خطوات في إطار بناء الثقة والتهيئة لاستئناف المفاوضات السياسيّة:
- أولاً: يجبُ أن يتوقفَ العنفُ في كُـلّ مكان، مع وقف فوري حول البُنية التحتية الحيوية والمناطق ذات الكثافة السكانية العالية.
- ثانياً: يجبُ السماح بدخول الواردات التجارية والإنْسَانية من المواد الغذائية والوقود وغير ذلك من الضروريات إلى اليمن بدون قيود. ويجب أن تظل الطرق مفتوحة، بحيث يمكن للسلع المنقذة للحياة الوصول إلى المجتمعات في جميع أنحاء البلاد.
- ثالثاً: اتخاذ خطوات حاسمة لتثبيت سعر الصرف ودفع الرواتب والمعاشات، مع زيادة التمويل الدولي حتى تتمكن الوكالات الإنْسَانية من توسيع نطاق وصولها.
وقد رحّب وزير الخارجية في حكومة صنعاء هشام شرف بدعوة أمين عام الأمم المتحدة، ولفت في نفس الوقت إلى ضرورة الأخذ في الاعتبار “عدم حصر المناشدات في الأطراف المتنازعة والتي أشار إليها الأمين العام للأمم المتحدة، بل يجب وبكل وضوح إلزام الأمم المتحدة ومجلس الأمن لتحالف العدوان الذي تقوده السعوديّة بوقف العمليات العسكريّة العدوانية والدول التي تزودُ هذا التحالف بالأسلحة والعتاد والذخائر ووقف تصدير السلاح الذي يُستخدَمُ في العدوان على اليمن”.
وأكّـد على أهميّة الخطوات والإجراءات العاجلة التي دعا إليها الأمينُ العام للأمم المتحدة، في الحد من الوضع المأساوي في اليمن، داعياً إلى رفع الحصار الجوي عن الأجواء اليمنية وإعَادَة فتح مطار صنعاء الدولي أمام حركة الملاحة المدنية والتجارية.
- تحدياتٌ في طريق الحَـلّ السياسيّ:
ميدانياً لم تترجم هذه المواقف، بل على العكس وجدنا تحالُفَ العدوان وقد صعّد عملياتِه العسكريّةَ في الساحل الغربي، مستفيداً من فُرصة الثلاثين يوماً الإضافية التي منحها الأمريكان للتحالف قبيل انطلاق المشاورات التمهيدية المزمع انعقادها نهاية الشهر الجاري في دولة السويد حسب تصريحات المبعوث الأممي.
هذا التصعيدُ جعل البعضَ يُحَذِّرُ من الانسياق وراء الموقف الأمريكي المخاتل، خَاصَّـةً أن التجارب خلال سنوات الحرب لا تدعو إلى الاطمئنان. وعدا مفاوضات الكويت التي توافر لها مناخٌ جيدٌ من الإعداد، فإنَّ جولات التفاوض السابقة التي رافقتها هدناتٌ كاذبة تفرض على المفاوض الوطني المزيدَ من اليقظة والحذر.
لكن من جهة أُخْـرَى، فإنَّ المناخ الدولي والإقليمي والرأي العام العالمي بات أكثرَ حساسية تجاه استمرار الحرب على اليمن، ساعد على ذلك ثلاثة عوامل:
- تداعيات قضية اغتيال الصحفي السعوديّ جمال خاشقجي، وتزايد الدعوات الدولية المطالِبة بمحاسبة النظام السعوديّ على جرائمه في اليمن.
- حلول الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي في نوفمبر الجاري، ومحاولة الإدارة الحالية كسب الرأي العام المحلي الساخط على علاقة ترامب الملتبسة بحكام السعوديّة.
- تفاقم الأوضاع الإنْسَانية في اليمن، وسط تحذيرات أممية من كارثة هي الأسوأ عالمياً.
ومن جهة ثانية، وبرغم الحذر الطبيعي من الموقف الأمريكي، يرى مراقبون ومحللون سياسيّون أن مضامين الأفكار الأمريكية التي عبّر عنها وزيرا الدفاع والخارجية تصب في مصلحة القوى الوطنية المناهضة للعدوان، فهي إلى جانب اعترافها بسلطة أنصار الله الحوثيين على الأرض، وقدرة القُـوَّة الصاروخية اليمنية على تهديدِ دولِ العدوان (السعوديّة والإمارات)، فإنها تسمحُ بإحياء مبادرة كيري للسلام في اليمن (علماً أن مبادرةَ وزير الخارجية الأمريكي السابق في 2016، مثّلت الاختراقَ الأهمَّ في جدار الأزمة اليمنية، وكادت تضع حدًّا للحرب لولا ممانعة الجانب السعوديّ، الذي فضَّـل انتظارَ نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر 2016).
وإجمالاً يمكنُ الإشارةُ إلى التحديات التي تواجِهُ السلامَ والحَـلَّ السياسيّ على النحو التالي:
- التحدي المتعلق بالحرب التضليلية، التي تستخدم العناوين والمصطلحات البرّاقة كغطاء للعدوان وللعمليات القذرة، الأمر الذي يتطلب ضرورة الموازنة بين دعوات السلام الجادة بغض النظر عن الاتّفاق والاختلاف حول مضامينها، وبين الدعوات المضلِّلة.. وأخطر تَحَـدٍّ هنا كيف نتجاوَزُ المبالَغةَ في الحذر من دعوات السلام، بحيثُ لا ينجح العدوّ من خلال هذا الموقف في تقديم صورة أنصار الله كجماعة مناهضة للسلام.
- تحدي الرد على الموقف الأمريكي حين يتلفّعُ ثوبَ السلام، فمع علمنا أن الحرب على اليمن تُديرُها أمريكا، وأن قرارَ السلام هو بيد أمريكا أَيْضاً، فإن الاستجابةَ للتفاوُضِ بناءً على “مبادرة أمريكية” يمنحُ خصومَ أنصار الله مدخلاً للتقوُّل ونسج الأكاذيب المعتادة، ومن المهم في هذا السياق أن ينصب اهتمام الوفد الوطني في التعاطي مع مبادرات السلام على مقترحات الأمم المتحدة ومبعوثها، والتمسُّك بهذا المسار دون التفات للموقف الأمريكي.
- التحدي المتعلِّقُ بتحريك الكتلة الصامتة في الداخل نحو اتخاذِ مواقفَ إيجابية سواء باتجاه دعم خيار السلام والحَـلّ السياسيّ، أَوْ باتجاه مناهضة جرائم العدوان من البوابة الإنْسَانية والوطنية، علماً أن شغل رياح السلام أَوْ الرياح الباردة ينصبُّ على الفئة اليمنية (المحايدة)، وكيف بالإمكان استغلالُها على طريقة حصان طروادة.
- تعزيز مصداقية القوى الوطنية لدى الخارج والانفتاح على المبادرات الجادَّة الداعية لوقف الحرب واستئناف الحوار والمفاوضات، بحيث يحرصُ الوفدُ الوطني على تعزيز العلاقة مع الدول والمنظّمات المتعاطفة مثل الاتّحاد الأوروبي وروسيا وباكستان، التي أبدت مؤخراً استعدادَها للتوسط من أجل إنهاء الحرب في اليمن.
- التنازلاتُ المطلوبةُ من أجل تسوية مقبولة وإنْ في الحد الأدنى، فالشارعُ اليمني قد يعارِضُ أية تنازلات مجحفة بعد كُـلّ هذه التضحيات. ومن هُنا يتعينُ تهيئةُ الرأي العام لاستيعاب أن أيَّ حَـلّ سياسيّ يستوجب تنازلاتٍ من كُـلّ الأطراف، فلا يمكنُ وقد فشل الحسمُ العسكريّ أن يفرض طرفٌ ما شروطَ الاستسلام على الطرف الآخر.
- الطرفُ الثالث: مَن وما يكون، وكيف يمكن التعامُلُ معه؟:
يمكنُ القول وبالمختصر أن الهدفَ من حملة رياح السلام، وحسب المشروع الذي جرى تسريبُهُ، يتمحورُ حول بناء كتلة ثالثة أَوْ بديل ثالث يتبنى الدعوةَ إلى السلام على نحو يخلخلُ الجبهةَ الداخلية المناهضة للعدوان، وُصُـوْلاً إلى إسقاط العاصمة صنعاء من الداخل.
والفكرةُ على سذاجتها تنطوي على خلط للأوراق، فهي تدغدغُ مشاعرَ مَن يمكن تسميتهم بالمحايدين، وتجرُّهم إلى مربع الصراع، لكن على نحوٍّ سلبي، وهي من جهة أُخْـرَى توحي من خلال تحَـرّكات محدودة أن البديل الثالث يحظى بشعبية كبيرة في الداخل. ومن حسن حظ العدوان ومرتزقته أن الإعلام الوطني والأجهزة الأمنية قاموا بدور كبير في الترويج المجاني – الغير مقصود بالطبع- لهذه الحملة.
وهنا يجبُ التوضيحُ أن السلامَ بديلٌ للحرب فقط، وأن القُـوَّة الثالثة التي يروج لها البعض ليست إلا وهماً في رؤوس أصحابها، فالفرزُ السياسيّ في ظل العدوان اتخذ طابعاً وطنياً، هناك صفٌّ وطني يضُمُّ قوى وأحزاباً عديدة، وصف عميل للخارج يضم قوى وأحزاباً أُخْـرَى.
ثم إن الطرفَ الثالثَ الذي يتم الترويجُ له منذ مفاوضات الكويت، لا يقصُدُ به قُـوَّةً سياسيّةً بعينها، لكنه مزيجٌ من أطراف الصراع، حيث بالإمكان تشكيل لجنة عسكريّة وأمنية متوازنة تُعنَى باستلام السلاح الثقيل من مختلف الأطراف وتسليمه لدولة أَوْ حكومة الشراكة الوطنية، كما بالإمكان تشكيل إدارة موحّدة تُعنَى بالشأن الاقتصادي وإدارة البنك المركزي.. وهكذا.
الطرفُ الثالثُ يطرَحُ أيضاً من بوابة الدولة الوسيطة التي تستضيف المشاورات أَوْ المفاوضات، وتتميزُ أنها على مسافةٍ واحدة من مختلف أطراف الصراع (الكويت سابقاً، والسويد حالياً).
لكن مع ذلك، تبقى هناك شخصياتٌ معتبرة في الداخل يمكنُ التعاطي معها كطرف ثالث، وهي وإنْ لم تكن في مستوى الموقف الوطني الذي نتطلعُ إليه إلا أنها نأت بنفسها عن العَمَالة والارتزاق للعدوان الأجنبي. ومن المهم أن تعملَ القوى الوطنية على استيعابِ هذه العناصر وتفتحَ نوافذَ الحوار والنقاش معها بدلاً عن التخويف الأمني والتخوين الإعلامي.
- تقنيات الحوار والتفاوض: أفكارٌ مقترحة:
وقد أشرنا إلى التحديات والملابسات التي تكتنفُ الدعوات الأخيرة للحل السياسيّ في اليمن، ومع أن التصعيدَ العسكريّ الكبير للعدوان في الحديدة والساحل الغربي قد ينسِفُ فرصة السلام المواتية، إلا أن ذلك لا يمنعُ من مناقشة بعض التفاصيل التي تنطوي عليها الرؤيةُ الأمريكيةُ والأمميةُ للحل السياسيّ في اليمن. وهنا نؤكّـدُ على القاعدةِ الذهبية التي رافقت كُـلّ التجارب السابقة وأقصد بها “التفاوض واليد على الزناد”، مع ضرورة معرفة أن التصعيدَ من قبل العدوّ يرادُ به تحسينَ شروط التفاوض، ولكن هيهاتَ لهم ذلك بفضل الله وبفضل صمود الجيش واللجان الشعبية وتضحياتهم الجسيمة، وبفضل التطور النوعي للقُـوَّة الصاروخية، والموقف الوطني لأبناء تهامة.
الموقفُ من المشاورات وإجراءات الثقة:
يحاوِلُ المبعوثُ الأممي، جَمْعَ الأطراف اليمنية على طاولةٍ واحدةٍ في دولة محايدة للتشاور المباشر أَوْ غير المباشر حول إجراءات الثقة التي تمهد للمفاوضات. وقد كاد ينجَحُ في إنجاز هذه الخطوة في منتصف سبتمبر الماضي، واليوم فإنه يكرّر المحاولةَ وسط فرصة أفضل نسبيا. وحسب تصريحات غريفيث لوسائل الإعلام، فإن المشاورات ستركز على تدابير الثقة من خلال التفاهم على آلية تشمَلُ إعَادَة فتح الموانئ والمنافذ البحرية والجوية وخَاصَّـةً مطار صنعاء الدولي، وإنجاز هدنة اقتصادية تؤدي إلى التوافق على إدارة موحدة للبنك المركزي، وآلية مشتركة لصرف مرتبات موظفي الدولة، إضَافَـةً إلى الاتّفاق على تبادل الأسرى والمفقودين من الطرفين.
وعدا شرط تأمين خروج وعودة الوفد الوطني من وإلى صنعاء، فإنه لا حذر من الاستجابة والمشاركة في جولة المشاورات المزمعة.
الموقفُ من وقف إطلاق النار:
دعت المبادَرةُ الأمريكية إلى وقف إطلاق الصواريخ من الجانب اليمني، على أن يلحقَه وقفٌ للغارات الجوية على المدنيين، ثم الانخراطُ في العملية التفاوضية، وهنا نقترح على الوفد الوطني أن يشترط وقف شامل لإطلاق النار قبل الشروع في أية مفاوضات مقبلة، تماماً كما حدث في مفاوضات الكويت. ولا مانعَ من القبول بفكرة إيقاف إطلاق الصواريخ البالستية على السعوديّة والإمارات مقابل إيقاف الغارات الجوية للتحالف بشكل كامل، وإنْ لم تنطلق المفاوضات.
وللتذكير فهذه المبادرة سبق وطرحها الرئيسُ الشهيد صالح الصمَّـاد في خطابه بمناسبة الذكرى الثالثة للصمود في وجه العدوان 26 مارس 2018م.
الموقفُ من القرار 2216:
من أجل امتحانِ جدية الأمم المتحدة في دعوتها إلى المفاوضات، نقترحُ أَيْضاً المطالَبةَ المُلحَّةَ بقرار جديد لمجلس الأمن يستوعب المستجدات وينص بوضوح على وقف إطلاق النار ورفع الحصار وانخراط أطراف الصراع في المفاوضات.
وسبق أن أشرنا إلى تقرير مجموعة الأزمات الدولية التي أكّـدت على الخلل البنيوي في قرار مجلس الأمن 2216، ما جعلها وغيرها من المعنيين بالملف اليمني يطالبون بقرار جديد لمجلس الأمن بشأن اليمن.
ومؤخراً نشرت شبكة أي بي سي نيوز الدولية خبراً يُفيدُ أن بريطانيا تعمَلُ على صياغة مشروع قرار بهذا الخصوص قد يطرح على مجلس الأمن الدولي الأسبوع المقبل.
الموقفُ من المنطقة الحدودية منزوعة السلاح:
تحدَّثَ وزيرُ الدفاع الأمريكي عن منطقة منزوعة السلاح على الحدود اليمنية السعوديّة. ومن قبله نصَّتْ مبادرة كيري على إجراء مماثل. وأقترح هنا أن لا يقبَلَ الطرف الوطني بمناقشة فكرة كهذه في إطار المفاوضات اليمنية- اليمنية. فإن شاءت السعوديّة نفسها مناقشة مخاوفها الأمنية مع اليمن، فإن القناة المناسبة تكون عبر تفاوض مباشر يمني_سعوديّ. ولا بأس أن ترعى الأممُ المتحدة مساراً تفاوضياً موازياً توضعُ على طاولته مختلف مطالب الأطراف.
الموقفُ من الطرف الثالث:
مع انطلاق المفاوضات اليمنية -اليمنية التي يتوقع أن تكون ساخنةً وحادَّة، سيكون للطرف الثالث في الداخل صوتٌ مسموع، وقد يشكِّلُ هذا الصوت ضغطاً على الوفد الوطني، إنْ لم يستبق الأحداث برؤية للتعامل مع هذا الطرف. وهنا نشيرُ إلى المجموعة النسائية التي شكّلها المبعوث الأممي، وضرورة انفتاح الوفد الوطني عليها وعلى الفريق الاستشاري من الشخصيات الوطنية التي التأمت في لندن (سبتمبر 2018) بطلبٍ أممي ورعاية بريطانية.
- نحو مؤتمرٍ جامعٍ للأحزاب والقوى الوطنية:
بالإضَافَـة إلى المحاذير والتحديات التي سبق الإشارةُ إليها، ثمة مخاوفُ قد لا يطرحُها البعضُ إلا همساً، منها وأهمها أن أنصارَ الله قد ينفردون بتقرير مصير المفاوضات المقبلة دونَ بقية الأحزاب والمكونات الوطنية. وبالطبع فإن تشكيلةَ الوفد تدحَضُ مثل هذه المخاوف ابتداءً. ومع ذلك ولأن المفاوضات والتوصل إلى حَـلٍّ سياسيّ سيرسُمُ خارطةَ اليمن المستقبلية لفترة طويلة، فإنَّ من المصلحة الوطنية توسيع دائرة المشاركة في صناعة واتخاذ القرار المتعلق بالسلام والحَـلّ السياسيّ.
وهنا أقترحُ الدعوةَ إلى مؤتمر وطني للأحزاب والقوى المناهضة للعدوان تقفُ أمام مختلف المستجدات السياسيّة على صعيد السلم والحرب، ويخرُجُ مؤتمرُها بقرارات تأريخية وطنية توافقية ومرجعية للحوار والتفاوض ضمن ثلاثة مسارات:
- مسار الحوار الوطني التفاوضي، الذي ترعاه وتدفعُ إليه الأمم المتحدة، حيثُ يقرّر المؤتمرُ الخطوطَ العريضة التي لا ينبغي للوفد الوطني تجاوُزُها في المفاوضات.
- مسار التفاوض المباشر مع تحالف العدوان بقيادة السعوديّة، على أساس احترامِ سيادة اليمن وضمان استقراره ووحدته، والتعويض المناسب لليمن واليمنيين، مع الاحتفاظ بحق الضحايا في ملاحقة ومحاسبة مجرمي الحرب دولياً.
- مسار النقاش العام مع الأطراف والأصوات المحايدة داخلياً وخارجياً، والتوافق معهم على القواسم المشتركة وطنياً وإنْسَانياً.
ويمكن لهذا المؤتمر أن يتبنّى مبادرةً شاملةً تستوعبُ مطالبَ الشعب اليمني وتمنح مسارَ الحَـلّ السياسيّ فرصةً مضافة وعملية.
إضَافَـةً إلى ذلك، سيكون المؤتمرُ بمثابة المِظَلَّة الوطنية لمناقشة الموقف من مختلف المستجدات، خَاصَّـةً إذا وصلت مفاوضاتُ السلام إلى طريق مسدود، ويمكن من خلاله تشكيلُ جمعية وطنية تعملُ على صياغة عقد اجتماعي جديد، والتهيئة للاستفتاء والانتخابات المحلية والنيابيّة، ثم الرئاسيَّة، بالتوازي مع الشروع في مصالحة وطنية شاملة.
- طبيعةُ السلام المنشود:
بقي أن نقولَ: إن على القوى الوطنية أن تسلكَ طريقَ السلام سلام الشُّجعان بخطوات واثقة ومسلحة بوعي كامل أن السلام الدائم والعادل خيارٌ لا مناصَ عـنه، انطلاقاً من قوله تعالى: (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ). وقوله عز وجل: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).
دعونا نختم ونقول بصوت عالٍ وبكل ثقة أن الشعبَ الذي صمد في وجه عاصفة الحرب والدمار لا يمكنُ أن تهزَّه رياحُ باردة أَوْ ساخنة.. ومَن لم تسعه عدالةُ السلام فإنَّ جورَ الحرب عليه أضيقُ وأنكى.
يدٌ على الزناد وأُخْـرَى ممدودةٌ إلى السلام، حتى يقضيَ الله أمراً كان مفعولاً.