قراءةٌ في درس (الهُوية الإيْمَانية) للسيد حسين بدر الدين الحوثي -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- (2-5)
بعد أن بدأ الشهيدُ القائدُ -رضْوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- يفصّلُ في مجالات الهوية الإيْمَـانية، وتحدَّثَ عن الإيْمَـانِ بالله والملائكة، بدأ بتناول الإيْمَـان بالكتب والرسل، ولكن من ذات المنظور الملامس للواقع.
وقضيةُ الإيْمَـان بالكتب قضيةٌ مهمة، كُـلّ الكتب مما عرفنا عنها شيئاً كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم ومما لم نعرف عنها ولم نسمع بها، فهو إيْمَـان جملي، لا يحتاج إلى تحقيق ما نجده اليوم فيها من نصوص نالها التحريف والتغيير.
وتأتي الأهميّة من منطلقات عملية، عبر عنها -رضْوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- بقوله: [تشعر بطمأنينة أنك تمشي وتسير في هذا الخط الذي رسمت لك غاياته، ونهايته في آيات القرآن الكريم، العاقبة التي يسير إليها أولياء الله، الجزاء العظيم الذي ينالونه في الدنيا وفي الآخرة]، وبهذا سيكون المؤمن السائر في دروب الجهاد والصبر والكفاح واحدا من أُمَّـة، فلا يشعر بالغربة أَبَـدًا، حتى لو كان كُـلُّ مَن حوله في المجتمع بخلاف ما تمليه عليهم الهوية الإيْمَـانية – وهذا هو الغالب – وهو أمرٌ يرتد على صاحبه بطاقة متجددة لمواصلة السير والعمل، حتى يتحقّق الهدف.
ويضيف الشهيد القائد -رضْوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- جانباً عمليًّا آخرَ لا يقلُّ أهميّة عن سابقة وهو أمر يصب في تعزيز ارتباطنا بالله من خلال استشعار الرعاية الإلهية لنا، في كُـلّ وقت، يقول -رضْوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ-: [الإيْمَـان بكتب الله أيضًا هو إيْمَـان بتدبير الله الدائم المستمر للسابقين من عباده والمتأخرين، بقيامه -سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى- بهداية عباده السابقين والمتأخرين، وأنه لم يأت في عصر من العصور ليهمل عباده]، وهذه القضية تكتسب أهميتها الكبرى حين نرى في واقعنا اليوم اسْتهدَاف المضلين والمشككين في دين الله لعقول الشباب، معتمدين على دعاواهم الباطلة التي تتهم الله في إتمامه لحُجَجِه على عباده، وتزعم أنه تركهم في ضلالهم دون هداية، بينما الحقيقة هنا بخلاف ذلك، حيث مثل وجود الكتب السماوية شاهدًا ماديًا على العناية الإلهية لكل البشر في كُـلّ مكان وكل زمان، لتُمَثِّـلَ هذه الكتب وسيلة تساعده في تحريك ما غرس في فطرتهم من الإيْمَـان بالله -سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى- وبعدله وصدق وعده ووعيده.
ولم يقفِ الشهيدُ القائدُ -رضْوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- عند هذا الحد في الحديث عن الإيْمَـان بالكتب، بل تحدث عن قضية إضافية في نفس السياق الماضي، وهي قضية دلالة هذه الكتب السماوية على وحدة الرسالات السماوية، وأنها جميعها تخرج من مشكاة واحدة، وتشترك في الهدف كما اشتركت في المصدر، فالقضايا الأَسَاسية في الدين واحدة لا تختلف، فتوحيد الله، وتحرير الناس، وعمارة الأرض، وتحقيق العدالة، كلها أمور ثابتة في كُـلّ رسالة سماوية، وكل أنبياء الله على المنهج ذاته، والدين عند الله الإسْـلَام، ومن هذه الجزئية انتقل الشهيد القائد -رضْوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- إلى الحديث عن الإيْمَـان بالرسل، وبذات الطريقة، فالإيْمَـان بهم جَميعاً يفضي إلى وحدة الرسالات السماوية، وكما هو شأن الإيْمَـان بالكتب، نجد أن الإيْمَـان بالرسل إيْمَـان جملي، بمن عرفناهم من خلال القرآن الكريم أَوْ من لم نعرفهم، فوجود الرسل بيننا هو تجسيد للعناية الإلهية بالبشرية، إلا أن هذا التجسيد كما ذكر الشهيد القائد -رضْوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- ممتد غير منقطع، فالكتب السماوية التي تضمنت المنهج الإلهي في عصر من العصور كانت ولا تزال تفتقر إلى من يشب الحياة في ذلك المنهج من خلال تحقيقه في الواقع العملي، وهذا ما قام به الرسل الكرام، ولكن حين تغيب الكتب السماوية عن الحياة بتغييبها من قبل من يشترون بها ثمناً قليلاً.
لكن دور الرَّسُـوْل لا ينقطع، فهو متواصل، سواء بتعاقب الرسل جيلاً بعد جيل، أَوْ بوجود خلفاء لهؤلاء الرسل، يُحْيون في الواقع منهج الله، يتلونه في الحياة حق تلاوته، يقول الشهيد القائد -رضْوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ-: [لم يهمل عباده في أية فترة من فترات الأُمَّـة، لم يهملهم عن نبي من أنبيائه، أَوْ عن ولي من أوليائه، ووارث من ورثة كتبه يسير على نهج أي نبي من أنبيائه السابقين الذين تركوا كتبًا في أُمَـمهم].
ويضيفُ الشهيدُ القائدُ -رضْوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- في حديثه عن آثار الإيْمَـان بالرسل أَيْضاً وهي التثبيت، فكما كان قصص وسيرة الأنبياء السابقين أمراً مساعداً للرَّسُـوْل صلوات الله عليه وآله في الثبات، يقول الشهيد القائد -رضْوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ-: [أخبرنا القرآن الكريم بأنه كان بحاجة إلى أن يقص عليه أنباء الرسل السابقين قبله، فقص عليه من أنباء الرسل، وقال بأن الغاية من ذلك هو: {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}]، ومضى -رضْوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- ليسقط هذا الجانب علينا كأفراد وكمجتمعات، فتعجب من واقع الأُمَّـة المشتت التائه، مع أنها أُمَّـة تمتلك ما يثبتها في مواقفها، ويجعلها غير قابلة للاختراق من أعدائها، فنحن المسلمين آخر الأُمَـم، وبين أيدينا رصيد عظيم، مليء بالعبر والدروس، وبالمواقف المتماثلة، والمواقف المتباينة، بما يُمَثِّـلُ رصيدًا من المواقف التي عرضها القرآن الكريم عبر الحديث عن أنبيائه ورسله، ومع هذا الرصيد لا مجال للمواقف المتذبذبة ولا مجال لغموض الرؤية، ومن هنا انطلق الشهيد القائد -رضْوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- منتقداً لتبرير ثقافة الاختلاف في هذه الأُمَّـة، فكيف يمكن قبول هذه الثقافة في حين أن هذا المنهج قد وحد كُـلّ مواقف الأنبياء في مختلف العصور والأوقات، فكأنها تصدر من شخص واحد، ويشدّد في التشنيع على المبررين لثقافة الاختلاف في هذه الأُمَّـة حين يقول -رضْوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ-: [لنقول لأولئك الذين يشرّعون الاختلاف، ويؤصلون للفرقة: ليست هذه هي روحية الأنبياء، هذه ليست هي الروحية التي يمكن أن يخلقها هدي الله في نفوس الأُمَّـة، ليعرفوا هم جسامة الخطأ الذي ارتكبوه، وما زالوا يرتكبونه]، ويؤكّد على هذه الحقيقة من خلال استشهاده بانعكاس وحدة مبادئ الأنبياء على أعدائهم، حتى صار أعداء الله في كُـلّ أُمَّـة يتخذون ذات المواقف حين انطلقوا إليها من المنطلقات نفسها، فتكررت الأساليب العدائية، والمبررات التضليلية في مواجهة هؤلاء العظماء من الرسل والأنبياء ومن حمل من بعدهم مسؤوليات مهمتهم في الحياة من أولياء الله وورثة كتابه.
وللموضوع بقية.