لوحة المولد النبوي.. الجمال والبهاء بقلم د/ أحمد الصعدي
كانت اللوحةُ التي رسمتها جماهيرُ الشعب الغفيرةِ الكادحةِ في ميدان السبعين والحديدة وصعدة وذمار وإب – ثلاث ساحات أُخْــرَى لم تنقل مباشرة على الهواء – احتفاءً بالمولد النبوي الشريف يوم الثلاثاء الثاني عشر من ربيع أول مدهشة.
في صنعاء كان واضحاً منذ الصباح أن الحشدَ سيكون كَبيراً، دلّت على ذلك حركةُ الناس في الشارع، الكبار والصغار وفرحتهم بالمناسبة وحرصُهم على الاحتشاد وتقاطر المواكب إلى السبعين في وقت مبكر، لكن أَكْثَــر التوقُّعات تفاؤلاً لم تكن تتصور ذلك الحشد من الرجال والنساء.
الشيءُ نفسه حدَثَ في الساحات الأُخْــرَى، وعلى الخصوص الحديدة وصعدة.
اكتملت اللوحةُ المدهشةُ الجميلةُ التي شكّلتها ساحاتُ الحفل الغاصَّة بالجماهير، فطل السيدُ الثوري ليزيدَها جمالاً وبهاءً، وكانت الكلمة التي خاطَبَ بها كُـلَّ مَن كان ينتظر إطلالته مختصرةً قياساً إلى كلمات وخطابات سابقة له، ومُعَدَّةً بأعلى درجات المهارة والعناية لتنقل أعمقَ وأوسعَ المعاني والدلالات بأقل الألفاظ والجمل.
لن أتحدَّثَ عن مضمون الكلمة؛ لأَنَّ ملايين البشر قد سمعوها في اليمن والعالم، إلا أنني أشيرُ هنا إلى خُصوصيةِ تميُّزِ تناولات السيد عبدالملك الحوثي لموضوع البعثة النبوية وسيرة الرسول الأعظم.
هذه الخصوصيةُ تقودني دَائماً إلى ما دونه في هذا الشأن العالم الكبير المؤرخ العربي العراقي جواد علي.
ففي الحالتين لا تقدم السيرة النبوية كسرد للمعجزات والخوارق، بل سيرة كفاح مرير وجِهاد مُضْنٍ ومشاق لا حصر لها في خضمِّ ثورة روحية حضارية وتحوُّل سياسيّ واجتماعي جذري أثمر ميلادَ أُمَّـة لم تكن قبله غيرَ قبائلَ متشرذمةٍ متناحرة مشتَّتة يستقوي بعضُها على البعض الآخر بإمبراطوريات أُخْــرَى قوية وعريقة، فكان أن واجه النبيذُ العربي حرباً شرسةً لم يكن طرفَها مشركو مجتمعه وبعضُ أهله والارستقراطية التي ترفُضُ مبادئ العدالة والمساواة التي أتى بها الدين الجديد، بل وإمبراطوريات وأتباع عقائدَ رأوا في النبي محمد وما يدعو إليه مشروعَ نهضة توحيدية عربية وإنْسَانية، وميلاد وعي قومي عربي بأبعاد أممية فتح آفاقها الإسْـلَام.
وكُلُّ ذلك يعني بالنسبة إليهم خطراً عقائدياً وقومياً، فتصدوا للدعوة المحمدية وَأسالوا مِداداً كَثيراً؛ لتشويه صورة نبي الإسْـلَام وُصُــوْلاً إلى التشكيك بنسبه العربي.
كان اليمنيون من أوائل من فتحوا قلوبَهم وعقولَهم لدين الإسْـلَام ونبيه؛ لأَنَّ اليمن كانت في ما مضى حضارةً عريقةً، وكان اليمنيون أَكْثَــرَ شعوراً بالحاجات الروحية التي لم تعد المعتقدات الوثنية تشبعها، وكان شعورهم القومي لا ينسجم مع معتقدات تحمل طابعاً قومياً وافداً، وتستخدم ذريعةً وغطاءً للتوسع الإمبراطوري.
كتب فريدريك إنجلز عن ميلاد الشعور القومي عند اليمنيين في رسالة إلى ماركس بتأريخ 6/يونيو/1853 يقول: ((لقد تم طرد الأحباش قبل أربعين سنة من ظهور محمد. وكان ذلك أول عمل للشعور القومي العربي المستيقظ الذي كانت تؤجِّجُهُ كذلك غزوات الفرس من الشمال، الذين بلغوا تقريباً مشارفَ مَكَّةَ. وعما قريب سأشرع في دراسة تأريخ محمد ذاته)).
لعل السيد عبدالملك الحوثي كان ممَّن أدهشهم المنظرُ الجماهيريُّ البديع، هكذا أظنُّ، لكن هذه الحشود التي أبهجته وأَسْرَّته بكل تأكيد، لم تصبه بالغرور كما يحدُثُ لبعض السياسيّين إذَا هتف لهم عشراتُ أَوْ مئات الأشخاص، ولم يغير محتوى ونبرة خطابه فيطلق مواقفَ ومحدّداتٍ انفعالية، استناداً إلى الشرعية الجماهيرية، بل وبدلاً عن كُـلّ ذلك ازداد تواضعاً وأحسَنَ التعبير عن هذه السجية الحميدة بجُملة مَسَّت قلوبَ الناس في الساحات وفي البيوت وفي مواقع الشرف.
(نفسي لكم الفداء)!.. كم كان وَقْــعُ هذه الكلمات الثلاث قوياً وعميقاً ومؤثراً؛ بسببِ مصداقية قائلها التي اختبرت في الشدائد والمحن وفي السراء والضراء.
وهذا ما لم يفهمه ولن يفهمه نرجسيون محبطون معزولون عن مجتمعهم، وجعلوا من ازدراء الجماهير الشعبيَّة دينَهم وديدنَهم.