قراءة في درس (الهوية الإيْمَانية) للسيد حسين بدر الدين الحوثي -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- الأخيرة
وبعد أن تحدَّثَ الشهيدُ القائدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- عن الإيْمَان بالرسل استفاض في الحديث عن الإيْمَان بالرسول مُحَمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، لافتا للأنظار إلى عظيم الخسارة التي وقعت فيها الأُمَّــة الإسْلَامية حين غاب الرسول صلوات الله عليه وآله عن حياتها، فباتت كتب السيرة ركاما من التراث الذي يقدم المعلومة الجافة التي تقتصر على الإحصاءات والوصف القاصر لتتابع الأحداث، هذا إنْ سلمت من المدخلات الإسرائيلية، وأضاف الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- ما أنتجته طريقة علماء الكلام من شخصيات علمائية تنحو في أسلوبها التفكيري والدعوي في اتّجاهات لا تلتقي البتة مع أساليب الأنبياء التي سطرها القرآن الكريم، بل إن التحاكم إليها يصور لنا الأنبياء كمجموعة من الأشخاص الذين فشلوا في ترتيب المقدمات المنطقية التي تقنع أُمَمهم بوحدانية الله، وصدق ما جاءوا به، سترى أن أسلوب الأنبياء ليس منطقيا وهم يتحدثون مع أُمَمهم فيخوفونهم من جهنم بدون مراعاة للترتيب المنطقي في الاستدلال، وهذه القضية لم تكن تسترعي انتباه الباحثين والقراء والعلماء إلا فيما ندر، وقد أشاد الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- بتوجه الإمام الخميني إلى الاهتمام بدراسة حياة الأنبياء، وأن نتعرف على الأنبياء، وأن نستلهم منهم في ميدان العمل الكثير من أساليبهم وحركتهم.
أما في موضوع {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} فقد أشبع الشهيدُ القائدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- الموضوع وأعطاه حقه، مستكملا توضيح ملامح البناء القرآني للهوية الإيْمَانية، فكما سبق وذكر أن الإيْمَان بالكتب والأنبياء يعزز القول بواحدية الدين في مختلف الأزمان والأماكن؛ فهنا يذهب الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- إلى التأكيد على أن الاختلاف في الدين يتنافى مع مضامين الهوية الإيْمَانية تَماماً، وانطلاقاً من واحدية المسيرة، والروحية الواحدة، والنفسية الواحدة، والعمل الواحد، لا يمكن أن لدينا مجال للتباين في الدين ولا لتبرير الخلاف فيه، فضلاً عن أن الإيْمَان بهذه القضية هو إيْمَان أَيـْـضاً بعدل الله وحكمته ورحمته.
ويجعَلُ الشهيدُ القائدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- من مدى اتباعنا للنبي مُحَمَّد صلى الله عليه وآله وسلم مقياساً لتجسيد قضية الإيْمَان بالرسل بدون تفريق بينهم، كونه صلى الله عليه وآله وسلم يجسّد الإيْمَان الذي لا تفريق فيه بين أنبياء الله ورسله، وهي النقطة التي لا يمكن أن يدعيها اليهود ولا النصارى، الذين فارقوا أنبياءهم وما جاء به أنبياؤهم، وبالإمكان أن نشخص واقع الأُمَّــة من في قضية إيْمَانها برسل الله بدون تفريق من خلال اتباعها (أفرادا وجماعات) للنبي مُحَمَّد، وبقدر مفارقتهم لمنهجه، والاستبصار بطريقته، بقدر ذلك تجد مفارقتهم لسائر أنبياء الله، وهذا يستلزمُ توجههم إلى البديل المطروح للإيْمَان بالأنبياء واتباعهم وهو موالاة اليهود والنصارى والسير في ركابهم، وبهذا يظهر مدى أهميّة استكمال هذا الجانب من الهوية الإيْمَانية، الذي به تعطي مساحة واسعة وآمنة من الاستقلالية لهذا الأُمَّــة، فلا تكون رهينة للخارج، ولا فريسة لأعدائها، ومستغليها.
واستثمر الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- هذا الموضوع ليوضح خطورة الفكرة الرائجة بين المثقفين والتي تقول: (ننطلق جَميعاً على ما نحن متفقون عليه، ونتجاوز ما نخن مختلفون فيه)، وهي من الأفكار التي تؤسس لتقبل الخلاف والاختلاف في الدين، والتي قد تصل بنا إلى محطات فارقة يستفيد منها الأعداء الأُمَّــة، وقد عبّر الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- عن ذلك بقوله: (أَحْيَاناً يقول اليهود: نحن وأنتم مختلفون في مُحَمَّد ومتفقون على موسى، لماذا لا ننطلق جَميعاً على ما نحن متفقون عليه؟ وقد يقول النصارى: نحن وأنتم مؤمنون بعيسى ومختلفون في مُحَمَّد، لماذا لا ننطلق جَميعاً على ما نحن متفقون عليه؟) وأمام هذا الطرح المباشر يضعنا الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- أمام خطورة تقبل التسليم بثقافة الاختلاف في الدين، والتنازل عن وحدية المنهج الإلهي وواحدية المسيرة التي خطها أنبياء الله ورسله في كُـلّ زمان ومكان {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}
المؤاخذةُ على الخطأ والنسيان واقعة لا محالة
لا ينخدعِ المؤمنُ بما يذكُرُه بعضُ العلماء من أن الخطأ والنسيان معفوٌّ عنهما، فهذا لا يعني ارتفاع آثارهما من واقع الحياة، وهو المؤاخذة الإلهية، أَوْ ما سماه الله في هذه الآيات بالإصر {ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا}، وقد وصل الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- إلى درجة عالية من التقريع للفرد المؤمن وللجماعة المؤمنة جراء التهاون في الأخطاء والنسيان؛ كون آثارها كارثية على الجميع، وقد تصل بالجميع إلى درجة الكفر أثراً للمؤاخذة الإلهية على النسيان والخطأ، وإلى هذا أرجع الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- سبب تردي الواقع الذي تعيشه الأُمَّـة اليوم، حتى صاروا تحت أقدام اليهود والنصارى، في حين يطلب منا السكوت والقبول بكل ما تعرضه إسرائيل وأمريكا من فتات الحلول غير المجدية نحن كأمة لا موقف لها حيال كُـلّ ذلك، واليوم بات هذا الأمر أَكْثَــر وضوحا من فترة الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-، فأمريكا تسعى بخطى واسعة إلى فرض ما تسميها بـ (صفقة القرن) على هذه الأُمَّـة، عبر وكلائها الذين سئموا من ارتداء أقنعتهم طيلة الفترة الماضية، ومع كُـلّ ذلك لا تجد ردود فعل مقبولة من الشارع العربي والإسْـلَامي، هذا السكوت سيكون آثاره السيئة جداً في واقع الأُمَّـة في المستقبل، ولن يكون بمقدورهم التخلص من آثار هذا السكوت والتخاذل إلا بمشقة مضاعفة.
كانت الأمم السابقة يضيق عليها في أمور مباحة كعقوبة من هذا قبيل المؤاخذة، مثل تحريم الصيد في يوم السبت، والتوبة بقتل النفس بعد عبادة العجل، ونحو ذلك، أما في هذه الأُمَّـة فقد يكون السكوت عن انتشار المعاصي في بيئة معينة أمراً يستتبعه وجوب الهجرة منها تماماً بعد أن تتحول إلى تلك البيئة إلى دار فسق في التوصيف الفقهي لها؛ بسببِ انتشار المعاصي فيها، وغياب النهي عن المنكر تماماً فيها، هذا ما ذكره الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- في توضيحه لكيف يمكن أن تتجسد معاني المؤاخذة الإلهية وآصار المعاصي على أمتنا مع أن مِلَفّ التشريع قد انغلق، وأمثال ذلك يمكن أن تسقط في كثير من تفاصيل الواقع اليوم، فالعدوّ الذي كان يمكن أن يندفع عن هذا البلد بكلمة بات اليوم بحاجة إلى تقديم قرابين من الدماء والأشلاء حتى نأمن جانبه، ولو لم نقدم في سبيل الله هذه التضحيات لاحتجنا أن نقدم مثل ما نقدمه وأَكْثَــر ولكن دون جدوى، لو تركناه يدخل إلى ديارنا، وتخاذلنا عن دفعه، وصار عدوا مسلطا على هذه الأُمَّـة، كما حصل في بعض البلاد، وليست فلسطين إلا أنموذج حي لمؤاخذة الله لنا على التخاذل العربي والإسْـلَامي، حتى بات العدوّ المغتصب يزعم أمام العالم أنه صاحب دولة، ويطالب الآخرين بالاعتراف به وبالقدس عاصمة له.
في زمن الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- لم يكن الفلسطيني قادراً على أن يضرب عدوه الإسرائيلي إلا بمشقة كبيرة جِــدّاً، من خلال عمليات استشهادية لا يكون لها أثرا بالغا، وهذا ما كان يراه الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- ترجمة لهذه السنة الإلهية في المؤاخذة، ولكن اليوم بات الأمر مختلفا، وبات الفلسطيني في غزة قادرا على أن يمطر مواقع العدوّ العسكريّة ومغتصباته السكنية بمئات الصواريخ في الساعة الواحدة، كما حصل مؤخراً، وهو تجسيد أَيْضاً لهذا السنة الإلهية، فكما أن الله يمكن أن يضيق علينا في الواقع العملي؛ بسببِ تقصيرنا، يمكن أَيْضاً أن يرفع الله هذا الإصر بقدر ما نحقّقه من استجابة صادقة لله، وهي كلها تجليات لهذه السنة الإلهية التي تحدث عنها الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- في تلك الفترة، يقول -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: [أولئك الذين يستثقلون ألف ريال في سبيل الله، سترى نفسك في واقع من هذا النوع إذا لم تنطلق، أم أن الفساد يقف عند حد؟ أم أن الظلم يقف عند حد؟ لا. الفساد لا يقف عند حَــدّ، الظلم لا يقف عند حَــدّ إذا لم يوقفه المؤمنون بأيديهم، أَوْ ننتظر الظالمين أَوْ ننتظر الفاسقين هم من يوقفون الفساد والظلم!، لا].
ويتعاظم التحذير هنا من خطورة التقصير في أية مرحلة، حتى لا يصل المؤمنون إلى واقع المؤاخذة الإلهية، وينعكس ذلك في جانب الحرص على {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا} فالمؤمنون يطلبون من الله أن يرفع عنهم كُـلّ الإصر والمؤاخذة بكل طريقة ومن كُـلّ باب، من باب العفو ومن باب المغفرة والتجاوز ومن باب الرحمة، وهذا ما ينبئ عن شدة الحرص، والاهتمام لهذا البعد الخطير الذي قد يصيب إيْمَاننا في حين غفلة، حتى نصير غير منتفعين منه بشيء، وبهذا الشعور الواعي تترجم معاني الولاء لله ولرسوله، ويمكن أن يستحق المؤمنون نصر الله وتأييده، {أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، وتفضي بنا الهُوية الإيْمَانية السليمة إلى أن نكون على قدر المواجهة لأعدائنا، فهي هُويةٌ إيْمَانية متجسدةٌ في الواقع، ذات صلة بكل تفاصيل الحياة، ولا سيما الخطوط العامة فيها، والأمور الاستراتيجية، التي تجعل الرؤية في الحياة واضحة، دون انفصام بين المنهج والواقع، ولا تعارض وتضارب، هذا هو منهج الله، وهذه هي الهُوية الإيْمَانية التي يريدُ اللهُ أن نكونَ عليها.