نازحو الحديدة.. الهروب من الموت إلى اللاحياة
المسيرة: خاص
منذُ تصعيد تحالف العدوان السعوديّ الأمريكي في الساحل الغربي بمحافظة الحديدة مطلع يونيو الماضي، وقصفِه المستمرّ على منازل وممتلكات المواطنين في المحافظة، أُجبر عشراتُ الآلاف من سكان الحديدة على النزوح من منازلهم المدمّرة إلى أماكن تأويهم من القصف العدواني، غير أنهم لم يسلموا من شبح القصف الذي يلاحقهم إلى مخيماتهم أَوْ الجدران المدمّرة التي لجأوا اليها، كما أن المعاناة المعيشية الصعبة التي تخيم عليهم هي المطرقة الأُخْــرَى الموجعة لهم.
وفي جولة ميدانية للمسيرة التقت بالعديد من النازحين الذين عبّروا عن ما آلت إليه أحوالهم جراء المعاناة التي خلقتها لهم قوى العدوان ومرتزِقتهم.
“منذ نزحت من بلدتي لم تشبع لي بطنٌ.. جوعنا أَكْثَــر من شبعنا”
اختزل الحاج الوصابي -النازح في خرابة تقع شرق زبيد- كُــلَّ أوجاع النازحين، فالكارثة النازلة بهم لا تقتصر على قسرهم على ترك منازلهم ومزارعهم ومعايشهم فقط، فالمأساة تضاعفت في مكان النزوح فوق ما تتصوره مخيلة إنْسَان.
فالخرابة التي تجمع فيها زيادة عن 50 أُسرة نازحة يفتقر للحد الأدنى من مقومات مخيمات النزوح ولا تصله أية معونات، سواء من المنظّمات أم من الجهات الحكومية الرسمية، وهو علاوة على ذلك عبارة عن مساحة من الأرض تعود ملكيتها لأحد المواطنين من أبناء زبيد وقد سمح في البداية لعدد أربع أسر من البقاء فيها لفترة بحثهم عن مكان بديل، وفيما عجزت الأسر عن إيجاد مكان بديل للنزوح تضاعف عدد الأسر من أربع إلى خمسين أُسرة خلال فترة شهر ونصف الشهر وهو عدد كبير جداً ومؤشر على حجم التهجير القسري الذي تفرضه آلة العدوان وتصعيده الدموي الكبير في مناطق الساحل الغربي، وتعد هذه الخرابة التي وصلت إليها المسيرة في نزولها الميداني واحدة من عشرات الأماكن والمواطن البديلة التي يلجأ إليها النازحون هرباً من غارات الطيران وقصف مدفعية المنافقين على القرى والمناطق المأهولة عن عمدٍ؛ وبغرض تهجير السكان وتحويلها إلى معسكرات للغزاة ومناطق عسكريّة خالية من السكان..
استمعت المسيرةُ في خرابة شرق زبيد إلى قصص مهولة تحكي وضعا مأساويا كارثيا يعيشه النازحون بعيداً عن مساعدات المنظّمات وأبعد عن وسائل الإعلام المحلية والدولية..
نازحون يعصرون الشجر لسد جوعهم
امرأة نازحة تقول “خرجنا وما معانا إلى عيالنا بس، وما نحصل الأكل نخرج السوق ندور والله العظيم ما نقدر نشبعهم، ما نقدر نشبع الجهال وعاد معي في البيت داخل اثنين كبار مرضى، نعصر الشجر هانك تحت الشجر ورجعنا بيتنا ” الخرابة التي نسكنها” واحنا نقول بيتنا متعودين نقول بيتنا”.
فيما يحكي رجل نازح يسكن بين جدران مدمّرة طالها قصف العدوان: “هذه المساحة شوف هذه المساحة بيتي أنا وعيالي بنجتمع هنا بالليل ونرقد ونتجمع والصباح نتظلل تحت الشجر”.
ونازح آخر يقول “نزحنا إلى زبيد قلنا خلاص ولدنا من جديد، رعب رعب، طيران فوقنا الأباتشي والْإف 16 بكله أقسم بالله وقذائف تجي من داخل الحيمة ومن جهة الخوخة إلى خلفنا وإلى جنبنا واحنا أحياناً تصدق نمشي مدنّيين احنا وعيالنا والله العظيم نمشي دانّين دانِّين هكذا”.
وجبة واحدة يتناولها النازحون ليوم واحد
حول إناء واحد طُبخ عليه قليلٌ من “الدجرة” نوع من أنواع البقوليات، يجتمع أَكْثَــرُ من 25 طفلاً لتناول وجبةَ الغداء، تقول إحدى الأمهات بأنهم حالفهم الحظ اليوم، فالدجرة أفضل بكثير من أوراق الشجر المجموعة من المزارع وبقايا الفجل والخضرة التي يتم لملمتها من السوق وهي بقايا ما يخلفه الباعة في السوق القريب الواقع على الطريق بين مديريتي زبيد وبيت الفقيه.
تقول امرأة نازحة “هذه طبخة نفحسه ونهب له شوية بصل وقليل زيت وفعلنا له ماء ووزعناه لكل الأطفال والنازحين الذي في ناحيتنا “.
صوت طفل يبكي بألم الجوع
يتحدث رجل نازح “لوما يخافوا أقول للأطفال هذا طيران سلمان..، بنهدة مثقلة بالأتعاب والألم والرعب نرقد الليل ونحنا خايفين ونسمع الطيران فوقنا، وسمعنا الطيران يضرب جوارنا وما اجزمناش نجلس، يا اخي خايفين وعيشة نجوع أَكْثَــر مما نشبع، ولا عندي حاجة لي سنتين من يوم جيت من عدن”.
طفل اسمه علي يضحك وسط الحزن دون معرفة لتعاسة الوضع الذي يعيشه، لا يوجد في المكان أُسطوانة غاز واحدة والحطب وأوراق الكراتين هي وقود تنانير الخبز المدرية البدائية.
لِحافٌ قماشية.. مطبخ في الصباح وغرفة نوم في المساء
حاولنا أن نحصلَ على رقم مثلاً لعدد اللحافات أَوْ الفُرُشِ أَوْ الستائر الموجودة لديهم غير أنه لا وجود لشيء من هذا، فالنازحون يلتحفون بالليل ذات الملابس التي يلبسونها بالنهار وهذا على ذات المنوال يجري تغيير المكان من غرفة نوم في الليل إلى مطبخ في الصباح وإلى ملجأ يحمي من شمس تهامة الحارقة وسط النهار وقد تكون الصورة أبلغ بكثير من كُــلّ محاولات توصيف الوضع أَوْ تصوير الكارثة ببضع جُمَل وعبارات.
يتحدث رجلٌ في خيمته التي تجمعه بأطفاله “هنا لا جات الشمس اغطي من الشمس ومن الناس في الليل وهذه طريق مترات أغطي منها”، وامرأة تقول “لو جاء الطيران نحتشي كلنا هنا”، قاصدة مجموعة لحاف وستائر قماشية”.
كما تقول امرأة طاعنة في السن تسكنُ بين جدران مدمّرة: “أرقد لي هنا في ذي غرفتي وجي وبعدين يجبوا لي ماء معهم أصلي وبعدين اخرج بمغرف يا ولدي وهذاك الكوز طلبناه من القرية، ولا معي شيء من الجوع وربك الذي خلقك لا قماش ولا فراش ولا بطانية ولا شيء”.
حكايةُ مأساة لا تنتهي مع ضحايا مجهولين حكم عليهم العدوان وأدواته بالعيش تحت القصف أَوْ بين الجدران المدمّرة مع معاناة إنْسَانية لا تنتهي.