معركة غزة الأخيرة وتداعياتها على الكيان الصهيوني وأنظمة التطبيع
أحمد عبدالرحمن بركة*
* ممثل حركة الجهاد الإسلامي في اليمن
بدايةً أتوجَّهُ بخالص الشكر والتقدير للإخوة المنظّمين والقائمين على هذه الندوة الهامة والتي تأتي بعد الانتصار الذي حقّقته المقاوَمةُ في غزة على آلة البطش والعدوان الصهيوني.
مقدمة
إن العدوانَ الصهيونيَّ الأخيرَ على غزة والفعلَ المقاوِمَ له حملا معانٍ ونتائجَ عدّة ستكون لها تأثيراتٌ وتداعياتٌ لاحقة؛ داخلياً على صعيد الكيان الصهيوني والصراع معه، وكذلك على خيار المقاومة وفعاليتها، وعلى صعيد مؤامرة التطبيع وفرض ما تسمى بصفقة القرن التي سيتنازل من خلالها الأنظمة العربية المطبِّعة عما تبقى من فلسطين.
لقد استطاعت المقاومةُ من خلال بسالتها في صد العدوان الصهيوني الأخير حمايةَ مفهوم المقاوَمة والنضال الجماهيري وإحداث تصدّع في مفهوم الردع الصهيوني ومفهوم الحسم، وكرّست حالةً نضاليةً تمثلت بقاعدة القصف بالقصف والدم بالدم، وأنتجت مفهومَ النضال الجماهيري الفاعِلَ والمؤثر بأشكاله المتعددة، وأسقطت محاولاتِ حصار وإنهاء حالة وثقافة المقاومة.
تداعياتُ انتصار المقاومة وهزيمة العدوّ الصهيوني
ويمكنُ حصرُ تداعيات انتصار المقاومة الأخير على العدوّ الصهيوني فيما يلي:
أولا:ً سقطت مفاهيمُ وقواعدُ كثيرةٌ كانت مقدَّسة لدى العدوّ الصهيوني وعلى رأس هذه المفاهيم مفهوم “الردع”.
– إنّ مفهومَ الردع يُعتبَرُ أحدَ المفاهيم الرئيسية والمؤسِّسة لعقيدة الأمن الصهيونية، وهو يعتبر مفهوما شاملا إلى جانب مفهوم الحسم، فالردع لدى الاحتلال يعني خلق مواجهات بين فترة زمنية وأخرى لإحداث مكاسبَ كثيرةٍ للاحتلال ويرتبط بالردع ما يسمى بـ “الحسم” الذي يؤمّن اتّفاقاً جيداً بعد كل معركة بمعنى وجود ترابط بين المفهومين.
– لقد رأى الكيان الصهيوني أن قدرةَ الردع لديه تصدعت عبر مواجهات عدّة، منها المواجهة في لبنان ونتائجها التي أدت لانسحاب العدوّ من لبنان عام ٢٠٠٠ والتي رأى العديدُ أنها أضافت ضَعْفاً لقدرة الردع لدى الكيان، إذ ساد رأيٌّ خاص بالجيش الصهيوني بأن مزاعمَ حزب الله ستسهم في تقوية إحساس الفلسطينيين بأنهم يستطيعون إخراجَ إسرائيل من الضفة الغربية بطريقة مشابهة، ومنذ ذلك الوقت، كان تأثير الحاجة إلى استعادة قدرة الردع الإسرائيلية في عيون الأعداء واستعادة “شرف الجيش” في عيون الرأي العام الإسرائيلي كبيرة جداً، ومؤثرة على سياسة الجيش تجاه الفلسطينيين فقامت إسرائيل بانتهاكات في الضفة أدت الى اندلاع انتفاضة الأقصى علم 2000 لكنها فشلت في خلق قوة الردع المطلوبة بل ولقنتها المقاومة الفلسطينية دروسا كثيرة حطمت كبرياء الجيش الصهيوني وقادته.
ومنذ ذلك الحين وفي محطات مواجهةٍ متعددة تصدع مفهوم الردع بدءاً من العدوان على لبنان عام ٢٠٠٦ والعدوان على غزة أعوام ٢٠٠٨ و٢٠١٢ و٢٠١٤ وما قبلها وما بعدها من اعتداءاتٍ أضعفت فعالية هذا المفهوم؛ ليس أمنياً فقط بل وسياسياً.
– إن النتائجَ المباشرةَ لانكسار قاعدة قوة الردع في المواجهة الأخيرة في غزة لدى الاحتلال تجلّت في استقالة وزير الحرب الصهيوني ليبرمان تحت وَقْع ضربات المقاومة وحالة الصمود التي مثلتها، وتواصل مسيرات العودة، وعدم قدرته على التعامل معها وبالتالي الخروج وإلقاء المسؤولية على نتنياهو في خسارة الاحتلال، وخسارتُه لم تكن على المستوى العسكري والأمني فقط، بل إن خسارته طالت الجانب الإعلامي أيضاً، ففعلُ الإعلام المقاوم كان أكثر جدية وفعالية وحِرَفيةً من الإعلام الصهيوني، وبهذا الإطار يمكن اعتبار استهداف مقر قناة الأقصى الفضائية في غزة ردًا على النصر الإعلامي الذي حققته المقاومة خلال هذه المواجهة.
ثانياً: حالة الغضب في الشارع الصهيوني على أداء الحكومة ومن يقف على رأسها، والذي تجلى في التظاهرات المباشرة بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار في مستوطنات غلاف غزة، وتجلى هذا الغضب أيضاً في استطلاعات الرأي والتي قدمت أيضاً وجهة نظر الجمهور الصهيوني بأداء نتنياهو خلال المواجهة وقيّمته بأنه سيء، إذ أشار إلى أنّ ٣١% -من المُستطلعة آراؤهم- قيّموا أداءَ نتنياهو بـ(سيء جدًا)، و٢٩% قيّموه بـ(سيء).
وهذا ما تُرجم أيضاً في استطلاع رأي للقناة (١٢) حول إذا ما جرت الانتخاباتُ داخل الكيان الصهيوني الآن “إذ يحصل اللّيكود على ٢٩ مقعداً، وهي النتيجة الأقلّ في استطلاعات الرأي التي يحصل عليها منذ ثمانية أشهر”.
ثالثاً: اهتزاز الائتلاف اليميني الحاكم بقيادة نتنياهو والذي بات ضعيفًا بعد خروج ليبرمان، ويمكن أن يخضع نتنياهو لابتزاز حلفائه بالائتلاف وأعضاء حزبه وهذا ما وضع نتنياهو في مأزقٍ؛ وبين أمرين أحلاهما مر بالنسبة له فأما أن يخضع لابتزاز حلفائه في الائتلاف الحاكم واما الذهاب لانتخابات مبكرة.
وخيار نتن ياهو لائتلافٍ تحت الابتزاز السياسي سيُلحق به ضررًا، والتقدير أنه لن يستطيع أن يحافظ عليه لأكثرَ من عدة أسابيع، وهذا ما يجعل المشهد السياسي داخل الكيان الصهيوني متحركٌ، لكن وجهته الرئيسية خلال الأشهر القادمة هي الانتخابات، وهذا ما سيجعل نتنياهو يبحثُ عن صورة للانتصار ليقدمها، تحاكي الحالة الفاشية السائدة والمسيطرة على الرأي العام داخل مجتمع الكيان الصهيوني.
التداعياتُ على الصعيد الصهيوني
إنّ التداعيات على الصعيد الصهيوني تضعُ تساؤلَ “لماذا أوقف الكيان التصعيد بالشكل الذي تمّ، حيث صورة الانتصار للمقاومة واضحةً والنتائج الداخلية سلبياً على نتنياهو وحكومته وائتلافه واضحة أيضاً ولو كان يعلم أنه سيهزم غزة لما اضطر لوقف عدوانه”..
والإجابة على هذا السؤال في أن الاحتلال لا يريد أن يخوضَ معركة بتوقيت وشروط المقاومة، بل يريد خوضها بتوقيته وشروطه وظروفه وبما يخدمه.
– كما أن العدوّ فقد عنصرَ المفاجأة في عدوانه بعد انكشاف العملية الأمنية في غزة والاشتباك مع المجموعة الصهيونية وقتل رئيسها.
– الحرص على تطوير العلاقات مع دول خليجية وعربية خاصةً بعد زيارة نتنياهو لعُمان.
إن المخاطرَ الماثلةَ الآن على صعيد الحالة الأمنية والسياسية داخل الكيان تتمثلُ في بحثه عن صورة انتصار، وهذا يُمكن أن يتجلّى من خلال إقدامه على اقتراف جريمة، وهذا ما يجبُ الحذر منه، فالظرفُ القائمٌ يُمكن أن يدفع بنتنياهو إلى البحث عن عدوان على غزة أو غيرها، وهذا ما يجبُ الاستعدادُ له وأخذه كاحتمالٍ بعين الاعتبار، وهذا احتمالٌ قائمٌ حالياً في ذهن السياسيين والأمنيين داخل حكومة الكيان تحديداً فيما يتعلق بالتصعيد.
على صعيد المقاومة في غزة
إن تحقيقَ المقاومة للانتصار يمثلُ إضافةً هامةً للخيار الذي تمثله، وقد برزت عدةُ عناصر قوة للمقاومة خلال هذه الجولة، في مقدمتها فعاليةُ غرفة العمليات المشتركة وحضورُ التخطيط المحكم والدور الإعلامي البارز والقدرة على امتلاك عنصر المفاجأة؛ وما يمكن أن يتأسس على هذه الحالة النضالية
فالمُعادلةُ الجديدة لرِجال المُقاومة كَرسَت مفهومًا جَديدًا في الحرب، وهو ليس فقط “الضرب مقابل الضرب”، وإنما “المنزل مقابل المنزل”، فأول مرة تهدم دقة صواريخ المقاومة منازل إسرائيلية بالكامل ردا علي هدم الصهاينة المنازل في غزة، ناهيك عن جعل المقاومة المنطقةَ المحيطة بغزة ومُستوطنيها رهينَةً لصواريخ المُقاومة التي باتَت أكثَرَ دِقَّةً وأكثَر مفعولًا، ففي يوم واحد أطلقت المقاومة 400 صاروخ على المدن الصهيونية القريبة من حدود غزة، لم تستطع قبتهم الحديدية سوى اعتراض 120 منها، وسقط الباقي على منازل ومدن الاحتلال، وبلغت الدقةُ حَـدّ هدم منازل بالكامل على من فيها من الصهاينة، وهو مؤشرٌ جديدٌ وهام في ظل اعتماد المقاومة على نفسها ذاتياً في إنتاج السلاح لتوقف تهريبه؛ بسببِ الحصار الخانق في سيناء.
مكاسبُ المقاومة
يمكنُ رصدُ العديد من الكاسب للمقاومة هذه المرة على النحو التالي:
1- أهميةُ هذا الانتصار وعدم خضوع المقاومة أنه يأتي في الوقت الذي تُطرح فيه خططٌ وأفكار لطمس معالم القضية الفلسطينية بموجب صفقة القرن، لهذا يمكن القول إن غزة كتبت بسواعد المقاومة الباسلة شهادة وفاة “صفقة القرن” التي يتحدث مساعدو ترامب عن طرحها قريباً.
2- حرص المقاومة على القصف حتى النهاية رغم التهديدات الصهيونية سيُحَسِّنُ من قدرتها على إملاء اتفاق تهدئة محترم بلا تنازلات؛ لأنه لفت نظر نتنياهو إلى عواقبَ فشل جهود التهدئة.
3- غزة استنهضت الكرامة العربية المهدرة، وحرّكت الشارع الفلسطيني في الضفة والشارع العربي، وأثبتت أن المقاومة والشعوب العربية شيءٌ والحكام الذي يستولون على السلطة بالبطش والظلم شيء آخر.
4- نسف العدوان الصهيوني أسطورةَ التهدئة والمصالحة والتطبيع والعلاقات الخليجية الصهيونية المشبوهة بعدما دعم المتآمرون من الحكام العرب العدوان، وربما سعى نتنياهو لإيقافها وقبل وقف إطلاق النار خشيةَ أن يُصِيبَ أصدقاؤه المُطَبِّعين مِن العَرب بالحَرَج.
5- المقاومةُ تزدادُ قوةً في كل جولة قتالية مع الاحتلال.. ليس قوة نارية فقط ولكن قوة تخطيط ودقة وتطوير للسلاح رغم أنها تعيشُ على الإنتاج الذاتي لسلاحها وبإمكانيات ضعيفة؛ بسببِ الحصار الخانق عبر الاحتلال ومصر وأنظمة عربية أخرى.
الخلاصة: أن غزة التي تُركت تحت الحصار 12 عاماً والتي بالكاد كان جل أهلها يجدون قوتَ يومهم خلال الشهور الماضية، هي التي وقفت اليومَ بكبرياء في وجه الاحتلال الإسرائيلي واستبسلت في رد العدوان، بينما تم الإمساك بتلابيب آخرون من العرب يلهثون للتطبيع والخضوع.