التوبة هي الخطوة الأولى للرجوع إلى الصراط المستقيم الذي يوصلك إلى رضوان الله وجنته
المسيرة/ خاص
في هذا الدرس، أثار الشهيدُ القائدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- العديدَ من القضايا ذات الأهميّة البالغة، والتي تمُسُّ حياةَ المجتمع المؤمن، والأفراد أيضاً على حدٍّ سواء. وكل ذلك في إطار رؤية الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- التي ترتكز على منطلق أن [الإسلام دين مترابط، دين متكامل لا يقبل منك هذا وأنت تارك لهذا ورافض له، يجب أن تتحَـرّك في كُـلّ المجالات، أن تتحَـرّك بكل إمكانياتك في كُـلّ المجالات]، ومن هنا تعرض الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- لقضية التوبة من عدة أبعاد، متطرقاً إلى الضمانات العملية التي وضعها الله تعالى حتى لا نعود إلى واقع المعاصي مجدّداً، وبما يحفظ للتوبة أثرها، وفي هذه الجزء من القراءة سنضيء على استنكار الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- لموضوع المجازفة برمي الألقاب الإيْمَانية على كُـلّ من يظهر عليه الصلاح، دون النظر إلى واقعه الإيْمَاني باهتمام. واضعا إمكانية أن يأتيهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون.
في البداية عّلق الشهيدُ القائدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- على قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} في سورة الزمر، حيثُ وصفها بأنها من أرق الآيات في القُـرْآن الكريم وألطف العبارات، تأتي بهذا المنطق المتلطف لمن أسرفوا على أنفسِهم بالمعاصي، بما وقعوا فيه من ضلال، ومن هذا النداء الإلهي للمسرفين انطلق الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- ليؤكّدَ أنه لا مجالَ لليأس من رحمة، بناء على قاعدة أنه لا وجود لذنب يمكن أن تعالجه التوبة، حتى لو كان ماضيك مظلما، وأعمالك كانت كلها أَوْ معظمها قبيحة؛ فلا ينبغي يتعزز في نفسك اليأس وتظن بأن مصيرك المحتوم هو جهنم، وجهنم فقط، ومن هذه الروح المتفائلة ينطلق الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- ليؤسّسَ مفهومَ التوبة في سياقه القُـرْآني الصحيح، السياق المثمر، الذي يبتعد عن التغرير بالعصاة والتشجيع لهم، ويقطع الطريق أمام عقائد الإرجاء التي لا تزال منتشرةً في أوساط الكثير من أبناء الأمة.
التوبةُ في سياقها القُـرْآني
أساء بعضُ المنتسبين إلى الإسلام استخدامَ مفهوم التوبة بما يصُبُّ في خانة الإرجاء، بمعنى أنهم كانوا يقدمون الأمل والرجاء للعاصي أياً كان بأن الفرصة أمامه للرجوع إلى الله حتى لو مات على تلك المعاصي، ووافاه الأجل وهو من المقصرين في التحَـرّك فيما أراد الله عز وجل من عباده المؤمنين، فالفرصة –كما يطرحون – سانحة أمامنا حتى في يوم القيامة، بل وحتى لو دخل أحدنا إلى جهنم، وهذه العقائد المنافيةُ للسياقات القُـرْآنية العديدة كانت هي العقائد التي يسعى الحكام الظلَمة إلى نشرها؛ سعياً منهم وراء إخماد أثر الإيْمَان الثوري الذي سينعكس عليهم سلباً، ويطيح بحكوماتهم الظالمة، ومن وقع عامة أبناء الأمة فرائس سهلة لضلال أولئك الحكام الظَّلَمة، ولمن طبل لهم من علماء البلاط هنا وهناك.
الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- شدّد في موضوع التوبة على أن “التوبة هي بداية رجوع، هي الخطوة الأولى على طريق العمل الذي يتمثل في إتباع أحسن ما أنزل الله إلى عباده. ولأن هذا هو الذي يوفر لك أمنًا من الوقوع في المعاصي من جديد على النحو الأول، وأنت منطلق لاتّباع القُـرْآن الكريم، إلى العمل بالقُـرْآن الكريم بهدايته، بإرشاداته، سيبعدك هذا كثيرًا جدًا عن معاصي الله سواء ما كان منها ذنوب تقترف أَوْ ما كان منها بشكل تقصير وتفريط”. فوضع التوبة في سياق متكامل مع مجموعة من الإجراءات التكميلية، أوضحها في هذه النقاط:
1- الرجوع إلى الله بإخلاص.
2- الإخلاص لله والتسليم المطلق لتوجيهاته، بما يحقق معنى العبودية.
3- المبادرة قبل فوات الوقت، فبعد الموت لا تنفع التوبة، ولا يفيد الندم، وليس هناك إلى عذاب بلا ناصر.
4- الانطلاق في ميادين العمل الصالح، حتى تتغير الوضعية التي سببت الوقع في تلك المعاصي، لتكون ضمانة لعدم الوقوع في تلك المعاصي مجدّداً، يقول الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: “لكن ليس إلى هنا وانتهى الموضوع، انطلق، هذه هي بداية رجوعك إلى الصراط المستقيم، إلى الطريق الذي يوصلك إلى رضوان الله وجنته. {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (الزمر: من الآية55) لا تتوب من ذنب ثم تعود إلى الوضعية السابقة، إلى حالة فراغ”.
لقد كان الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- مهتماً جداً بالأثر الدائم للتوبة، معلقا عليه صحة قبولها من الله، وبذلك وضع التوبة في سياق آخر بعيداً عن الإطار الزائف الذي وجدنا التوبة فيه لدى بعض التيارات الدينية اليوم، التي تستخدم نداءات القُـرْآن للمسرفين على أنفسهم بالمعاصي بأن لا يقنطوا من رحمة الله، تتخذ من ذلك إغراء لأهل تلك المعاصي بالتمرغ في آثامهم، والاستمرار فيها، مع توفر ضمانة النجاة من عواقبها.
أثرُ غياب المفهوم الصحيح للتوبة
لقد مثّل غيابُ المفهوم القُـرْآني للتوبة كارثةً في ماضي الأمة وحاضرها، فكان سبباً لركون المجتمع المسلم إلى السكوت، وهو يرى شرائع الله تنتهك، وأولياء الله يقتلون، وأعداء الله يتخذون من عباد الله عبيداً لهم، يستبيحون أموالهم وأعراضهم، ويأكلون حقوقهم وحقوق أولادهم، ذلك المؤمن الذي يرى هذا الواقع يلوذ بالصمت وهو يرجي نفسه بحياة أفضل في الآخرة، يقعد عن الجهاد وهو يردد “إن الله غفور رحيم”، “إن اللهَ يغفر الذنوب جميعاً”. لو كانت التوبة واضحة المعالم لما كان للمؤمنين أفراداً وجماعات مثل هذه المواقف المخزية، كيف كان للمؤمن بالله والموقن بأليم العذاب في الآخرة للمقصرين أن يقبل بأن يكون مقصراً، أَوْ أن يدخل في دائر المقصرين بأي شكل من الأشكال، إن من تقاعسوا عن نصرة الإمام الحسين ومن شاركوا في قتله هم من حملة هذه المفاهيم الضبابية للتوبة، التي وظفت معناها في سياق آخر غير سياقها القُـرْآني.
ونحن إذ نسقط مفهوم التوبة على واقعنا اليوم كأمة إسلامية عموماً وكشعب يمني معتدى عليه؛ سنجد أن التوبة بمفهومها القُـرْآني الكامل الذي قدمه الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- تمثل حافزا لتغيير الواقع، والانتصار للمستضعفين، والتعامل بحذر كبير تجاه ما يرد إلينا من العدو، وبالعكس أيضاً مثل الفهم المغلوط للتوبة سبباً في الانقياد لأعداء الله، فبات الكثير من الشباب يتاجر بدينه ويبيع حياته مقابل ثمن بخس، وهو يرى أن التوبة ونظائرها من أساليب النجاة المزعومة ستنجيه في نهاية المطاف ما دام يقول: “لا إله إلا الله”. وبات في ذهنية المرتزِق السوداني واليمني وغيرهما أنهما سيعاملان يوم القيامة معاملة مختلفة عن معاملة المرتزِق الكولومبي الذي أتت به شركة بلاك ووتر ونحوها، وكأن ميزان العدالة الإلهية مختلٌّ، أَوْ كأن وعود الله ووعيده في القُـرْآن ليست ذات جدية ومصداقية.
التحذيرُ من الغفلة
لقد استنكر الشهيدُ القائدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- أن نتبادل فيما بيننا الصفات التعظيمية المشتقة من أعمال الإيْمَان، كقولنا: “يا ولي الله، أَوْ يا مؤمن، أَوْ يا مجاهد” ونحو ذلك، مع معرفتنا بأننا نعيش واقعا من التقصير في حياتنا الإيْمَانية، وأخذ الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- هذه المسألة من باب التغرير على أنفسنا، ووضعها في موضع مشابه لموضوع الإرجاء والتسويف بالتوبة، أَوْ استغلال التوبة بصورة تغريرية تمد للعاصي في الاستمرارية فيها، يقول -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: “كيف أسميك مؤمنًا وأنت تسميني مؤمنًا، أسميك وليًا من أولياء الله وأنت تسميني وليًا من أولياء الله ونحن جميعا نعرف أننا مقصرون في العمل في سبيل الله، ألسنا قد تعارفنا على نبذ الكتاب، وقد اتفقنا على أن هذه لم تعد ذنبًا ولا معصية؟!” وهنا نجد أن أخطر ما يحذر منه الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- هو المعاصي التي لم يعد الناس يصنفونها في سياق الأعمال التي تغضب الله، يقول الشهيدُ القائدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: “الذنوب سواء ما كانت بشكل معاصي، المعاصي التي نحن معترفون بها ومتفقون عليها، أَوْ من المعاصي التي قد تعارفنا على أنها ليست معاصي، يجب أن نتخلص منها وأن نعود إلى الله وإلا فهناك العذاب الذي كرّره في الآية مرتين: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ}، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}”.
وللموضوع بقية.