مقاربة نقدية للمكون الفكري والحضاري لمشروع الشهيد القائد .. بقلم/ حمدي محمد الرازحي
أسهمت العديدُ من العوامل والأسباب في وصول الأُمَّـة الإسْلَامية إلى مرحلة من التقهقر والتراجع في المدِّ الفكري والحضاري المتجذر في وجدان الفرد والمجتمع منذ البدايات الأولى لتأسيس مجتمع المدينة في العام الأول من الهجرة وإلى اليوم، وقد تمحورت أغلب الأسباب حول إشكالية الانحراف عن المسار الفكري للشريعة الإسْلَامية والابتعاد عن المحتوى الدلالي لمفهوم الخطاب القُــرْآني، بالإضافة إلى انحراف مسار الحكم واعتماده على سياسات القمع والإقصاء والاضطهاد والمصادرة للحقوق والحريات.
وعلى الرغم من ظهور العديد من الأطروحات والرؤى والمشاريع ذات الطابع النهضوي في محيط المجتمع الإسْلَامي، إلاَّ أن تلك الأطروحات والمشاريع النهضوية لم تستطع تجاوز واقعها التنظيري المعتمد على المعطيات المعرفية والمنهجية الغربية والاستشراقية لتنتج رؤية عملية تتناسب مع متطلبات الواقع أَوْ تتلاءم مع طبيعته الاجتماعية والفكرية والسياسية.
فالحاضنةُ الفكرية والمنطلقات الابستمولوجية لتلك الأطروحات والمشاريع هي الرؤى والأفكار والمعطيات الفلسفية لثقافة الغرب والمؤسّسات الاستشراقية، ولهذا كان تعاطيها مع مفردات التراث العربي الإسْلَامي قاصراً؛ لأَنَّها قرأته بأعين الآخرين ولم تتخذ منه إطاراً مرجعياً للانطلاقة النهضوية من واقع قراءاتها الذاتية واحتكاكها المباشر به، وتشبعها بمفاهيمه وقيمه، فجاءت كُــلّ تلك القراءات والمشاريع مبتورة الصلة بواقع المعطى الديني والموروث الفكري والحضاري الذي تنتمي إليه.
لقد أسهمت الماكنةُ الإعلاميةُ العالمية في الترويج للفكر والثقافة الغربية بأبعادها الحضارية المادية في ترسيخ ثقافة الانهزامية في واقع ووجدان المجتمعات العربية والإسْلَامية مما أفقد هذه المجتمعات الثقة في معتقداتها الدينية وفاعلية موروثها الفكري والحضاري، لتتحول إلى سوق استهلاكية لموضة النظريات المعرفية والأيديولوجيات الفكرية الوافدة من الغرب، لتعيش حالة مرضية متأرجحة بين الاستلاب والاغتراب، الاستلاب المنبهر بثقافة الغرب وإنجازاته المادية، والاغتراب المتنكر لكل جميل في تراث الأسلاف وأمجادهم، الأمر الذي أوجد حالةً من الفوضى والتَّيه والضياع في أوساط مجتمعاتنا العربية والإسْلَامية.
وإذا كانت الأطروحاتُ والمشاريعُ النهضوية بطبعتها الغربية قد أخفقت في التعامل مع مكونات الأبعاد الحضارية المتمثلة في ثالوث (الفكر والإنْسَان والمعرفة) فإن المشروع الإنْسَاني الحضاري الذي قدَّمه الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- قد استطاع أن يقدم رؤية قرآنية شاملة لمختلف جوانب الحياة الإنْسَانية قادرة على المواكبة والعطاء والإنتاج المعرفي والتوليد الدلالي لمفردات المشروع الحضاري الرائد المنبثق من وحي نص الخطاب القُــرْآني وإيحاءاته التربوية التي تستهدف الإنْسَان ومفردات الوجود الأخرى لتحقيق فاعلية الاستخلاف الإلهي للإنْسَان وبما يضمن له بناء الأرض وعمارتها على أساس العدل والمساواة في الحقوق والواجبات.
ومن خلال استقراء مفردات المشروع القُــرْآني للشهيد القائد في أبعاده الحضارية والمعرفية والإنْسَانية نجد بأنه قد تناول جميع المكونات الأساسية للبعد الحضاري بالدرس والتحليل والتوضيح من منطلق بنيوي يهدف إلى بناء منظومة معرفية قادرة على تأسيس رؤية حضارية تعيد للأُمَّـة أمجادها وريادتها وخيريَّتها على سائر الأمم من خلال التأكيد على المكونات الرئيسية التالية:
- الفكرة: والتي تمثل المنطلقَ الأساسي والإطار المرجعي للمعطى الحضاري لأي مشروع هادف، وقد تمثلت المرجعية الفكرية لمشروع الشهيد القائد في مفردات الخطاب المقدَّس المتمثل في القُــرْآن الكريم ليؤسس بذلك ثقافة قرآنية خالصة تتوافق وطبيعة المعتقد والبيئة التي نشأت فيها، وتتناسب مع تطلعات الإنْسَان وآماله وطموحاته، وتتضمن الحلول والمعالجات لجميع إشكالاته ومشاكله، والإجابة عن جميع تساؤلاته؛ لأَنَّه خطاب الخالق تعالى ودستوره الخالد المتجاوز لحدود الزمان والمكان.
فالشهيد القائد يؤمن جازماً بأن المنهجية القُــرْآنية هي المنهجية الوحيدة القادرة على بناء الأُمَّـة وتحقيق فاعليتها وحضورها التاريخي والحضاري، وهذا ما أشار إليه بقوله: (تبنى أممٌ أَوْ تُحَطَّم أممٌ بسبب الاعتماد على القُــرْآن أَوْ الإعراض عنه)[1]؛ لأَنَّ القُــرْآنَ الكريمَ كنص إلهي يتضمن كُــلّ عوامل النهضة والازدهار والبناء، حيث يؤكد الشهيد القائد على أنه: (كان باستطاعتنا لو مشينا على هديه وعلى ارشاده أن نكون نحن الأُمَّـة السَّبَّاقة حتى في مجال التصنيع والاختراع والإبداع في مختلف الفنون)[2].
لقد أدرك الشهيدُ القائدُ مخاطرَ الاستلاب الثقافي المرتهن لثقافة الغرب والمؤسّسات الاستشراقية وأثرها في محو الهُوية الإيْمَانية للمجتمع الإسْلَامي، وخطرها على بناء الأُمَّـة وتحقيق فاعليتها الحضارية؛ ولأن الاستلاب الثقافي والحضاري لثقافة الغرب وحضارتهم المادية لا يقبل بمنافسة الأُمَّـة الإسْلَامية أَوْ تقدمها وازدهارها، فالغرب حريص كُــلّ الحرص على بقاء المجتمعات الإسْلَامية كسوق استهلاكية لمنتجاته الثقافية والتقنية، وهذا ما ألمح إليه الشهيد القائد بقوله: (إذا لم نثقف أنفسنا بثقافة القُــرْآن فسنكون ضحية للآخرين، ضحية لثقافات أخرى)[3].
لقد كان السيدُ حسين موفقاً في توظيف الخطاب القُــرْآني كإطار مرجعي لمشروعه الفكري والحضاري لإيْمَانه بأن القُــرْآن الكريم هو المنهجيةُ الوحيدةُ القادرة على إنتاج النموذج الإنْسَاني والحضاري الأمثل؛ لأَنَّه دستورُ الحياة الخالد المكوِّن لأبجديات الأُمَّـة بكل مقوماتها الفكرية والحضارية الفاعلة، وهذا ما أشار إليه بقوله: (الله عندما يقول: (ولتكن منكم أُمَّـة) اعلم بأنه قد وضع منهجاً متكاملاً لصناعة أُمَّـة)[4].
- بناء الإنْسَان: من المعلوم أن الكادر البشري هو المحرك الأساسي لبناء أي مجتمع أَوْ أُمَّـة ذات أبعاد حضارية فاعلة إذا ما تم تنمية مهاراته وقدراته ومعارفه، كما أن تجاهل هذا المورد البشري وتجهيله يسهم بشكل أَوْ بأخر في هدم كُــلّ مقومات البقاء والحضور الفاعل لأي مجتمع بشري، وهذا ما تسعى دول الاستكبار العالمي إلى تفعيله في أوساط المجتمعات العربية والإسْلَامية من أجل وأد مشروع الأُمَّـة الحضاري والإنْسَاني وتدمير كُــلّ عوامل نهضتها وازدهارها من خلال عزل المجتمع الإسْلَامي عن موارد ثقافته الدينية وأصوله الحضارية، وتسويق منتجاتها المعرفية والفكرية الغربية الهدَّامة.
- لقد أدرك الشهيدُ القائدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- مخاطر تلك المؤامرة الخبيثة فبدأ بإرشاد المجتمع وربط الأفراد بأصول ومفاهيم الثقافة القُــرْآنية لتحصينهم أولاً من مخاطر الاستلاب الثقافي والترويج الإعلامي الغربي لثقافة الانحطاط والانهزامية، لإيْمَانه الكامل بأن (النفوس المنحطة في الأخير لا تعود جديرة بأن تنهض بالمسؤولية)[5].
ومن خلال مفردات الثقافة القُــرْآنية التي ضحَّى بحياته من أجلها تخرج جيل يتحدى الموت ويسخر من الصعاب ويجود بالنفس رخيصة من أجل بناء الإنْسَان والأمة والدفاع عن الأرض والعِرض والمعتقد.
- بناء منظومة معرفية متكاملة: تعتبر المنظومة المعرفية العلمية من أبرز المكونات الأساسية لبناء أي مجتمع حضاري رائد، وهذا ما تحرص دول الاستكبار العالمي على احتكاره لنفسها وحرمان الآخر منه؛ لأَنَّها لا تقبل بوجود منافس قوي يمتلك معرفة قوية وفاعلة، ولتحقيق تلك الغاية الخبيثة توجهت الماكنة الإعلامية الغربية ومؤسّساتها البحثية إلى تقديم ثقافات مغلوطة تتضمنُ حزمةً من المفاهيم والمصطلحات المغلوطة والمشوهة لنشرها في أساط الشعوب الأخرى، وخصوصاً شعوب العالم الإسْلَامي لتشويه معالم ثقافتها الإسْلَامية الرائدة وزرع بذور القطيعة والانفصال فيما بينها وبين تراثها الأصيل.
- لقد استطاع الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي أن يبدأ مشروعَه الفكري بتصحيح المفاهيم والمصطلحات المغلوطة وتقديم الثقافة والفكر الإسْلَامي بشكل صحيح وخال من الشوائب لإخراج جيل متسلح بالوعي والمعرفة المستوحاة من نبع الثقافة القُــرْآنية الخالدة.
وعلى امتداد تاريخ المسيرة القُــرْآنية والشهيد القائد ينبّه على خطورة المفاهيم والمصطلحات المغلوطة وضرورة تصحيحها وتصحيح مسار المعرفة والثقافة الإسْلَامية، وهذا ما نجده في قوله: (نحن الأن في معركة مصطلحات إذا سمحنا لهم أن ينتصروا فيها فإننا سنكون من نُضرب، ليس في معركة المصطلحات بل في معركة النار)[6].
تلك كانت المكونات الأساسية للبُعد الحضاري، وتلك كانت إطلالة سريعة على الكيفية التي تعاطى بها الشهيد القائد مع تلك المكونات من خلال مفردات الرؤية القُــرْآنية.
أما فيما يتعلق بالسنن الفاعلة في بناء المشروع الحضاري فقد تناولها الشهيد القائد في مشروعه التنويري من خلال المعطيات التالية:
- العدل مقابل الاستبداد: الأمر الشائع في أوساط المجتمعات العربية والإسْلَامية بل والعالمية الغربية هو الاستبداد والظلم، والظلم كما عرفه السيد حسين بدر الدين الحوثي هو الانحراف الكلي أَوْ الجزئي عن كُــلّ مظاهر الاستقامة، وهو ما عبَّر عنه بقوله: (كلمة ظلم تشمل –تقريباً- كُــلّ أنواع الفساد)[7]، وتحقيق العدالة وإقامة العدل لا يتأتى إلاَّ بمحاربة كُــلّ أصناف الفساد وإزالة كُــلّ الفاسدين، وهذا ما نلمسه بكل وضوح في حركة المسيرة القُــرْآنية حيث تسعى جاهدة إلى الانتصار لمظلومية الإنْسَان وتحقيق العدالة ومحاربة الفساد والمفسدين.
- التوحد حول فكرة واحدة في مقابلة الفرقة والشتات: لقد استطاع الشهيد القائد بمشروعه الفكري والحضاري أن يوحد جميع التوجهات حول الإطار المرجعي الجامع لمشروعه الرائد والمتمثل في الثقافة القُــرْآنية بدلاً من حياة التيه والشتات في أُطُرِ الأطروحات المتباينة وما يترتب عليها من فرقة وتناحر؛ لأَنَّ الالتفاف حول فكرة واحدة هو السبيل الوحيد لبناء أُمَّـة متماسكة، وهذا ما أشار إليه السيد حسين بقوله: (لا يمكن أن نكون أُمَّـة موحدة إلاَّ وعقائدها واحدة، ونهجها واحد، وولائها واحد، وولائها واحد، وثقافتها واحدة، وأهدافها واحدة، حتى يمكن أن تتألف وأن تتحاب فيما بينها، وأن يسود داخلها كُــلّ عوامل التوحد التي لا بد منها)[8].
- المسؤولية في مقابل الفوضى: الالتزام بالمسؤولية والحرص على القيام بها من أبرز مقومات العمل الناجح والمشاريع الرائدة، ولهذا كان الشهيد القائد حريصاً كُــلّ الحرص على غرس روح المسؤولية في نفسيات وعقول أتباعه؛ لأَنَّ الفوضى واللامبالاة قد تؤدي بالأمة كلها إلى الهلاك والدمار والضياع.
والمسؤولية الحقيقية هي التي عناها السيد حسين رحمه الله بقوله: (المسؤولية التي ربطك القُــرْآن بها تفرض عليك أن تتحرك في كُــلّ هذه المجالات، أن تصنع، أن تزرع، أن تعمل على أن يكون لديك خبراء، أن يكون لديك مهندسين، أن تهتم ببناء أُمَّـة متكاملة)[9].
وختاماً لقد استطاع الشهيد القائد أن يؤسس لمشروع نهضوي حضاري أممي يسهم في بناء الأُمَّـة وإعزازها وتفعيل دورها الحضاري والريادي من جديد لتكون بحق خير أُمَّـة أخرجت للناس..
فسلامُ الله عليه يوم وُلد ويوم استشهد ويومَ يُبعث حياً.
[1] السيد حسين بدر الدين الحوثي – سورة البقرة – الدرس السادس – ص 10.
[2] السيد حسين بدر الدين الحوثي – معرفة الله – نعم الله – الدرس الثاني – ص 12.
[3] السيد حسين بدر الدين الحوثي – الثقافة القُــرْآنية – ص 19.
[4] السيد حسين بدر الدين الحوثي – لقاء المعلمين – ص 5.
[5] السيد حسين بدر الدين الحوثي – سورة البقرة – الدرس الحادي عشر – ص 7.
[6] السيد حسين – الارهاب والسلام – ص 8.
[7] السيد حسين – معرفة الله – عظمة الله – الدرس الثامن – ص 6.
السيد حسين – معرفة الله – عظمة الله – الدرس الثامن 8
[9] السيد حسين – مديح القُــرْآن الكريم – الدر س الأول ص 18.